تطالعنا أخبار الدعوات وانتشار الديانات بسنن متينة لا تحيد ولا تتبدّل، ومنها تساوق الفطرة البشرية النزّاعة للخير مع كل داعية له المكنة الكافية على بسط الأفكار في جلباب السماحة واليسر، وله القدرة التامة على التبشير ونبذ التنفير في الحجاج مما يسهل استجلاب الأخرين للتدين الحق.
وهذا هو الفقه الذي سار عليه الأنبياء المكرمون الذين خاطبوا أقوامهم بالرفق واللين، ولم يجبوههم في البدايات بالوعيد، ويكفي استذكار حال الخليل إبراهيم مع أبيه، أو حال موسى الكليم مع طاغية الأرض حيث أرشده المولى تبارك وتعالى وأخيه بذلك: ﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى﴾[طه، 44]
والمطالع لسنة وسيرة خاتم الأنبياء عليه أفضل الصلاة والسلام يجد عصارات أعمال الرسل متجسدة في سيرته مع قومه المحادّين، أو في إرشاده لصحابته باللين والتيسير بدلا من العنف والتعسير، لأن المدعوين بشر مبتلون، وليسوا ملائكة معصومين، كما هو الأثر عن المسيح عليه السلام:” ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلى، ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية” [الموطأ، 2075]
وكان المصطفى وصحبه يترسمون خطى إبراهيم في الاستقامة واستدعاء القدوة الحسنة حتى لا يكونوا سبلا تصدّ بحالها أو مقالها عن الصراط المستقيم، كما في قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَة لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغۡفِرۡ لَنَا رَبَّنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة، 5]، فقد جاء في بعض أوجه تفسيرها بأنها شبهة القائلين بأن الإيمان لو كان نافعا ما تسلط الكافر على المؤمن، ولا غلبه ولا قهره في دين و مال أو أرض.
والصدّ عن سبيل الله له أشكال كثيرة أجلاها ما نعرفه من الكذب والبهتان والإكراه والفتنة الجلية، وباطنها ما لا ندركه من سوء التدين وشراسة الخلق، وعدم التمثيل الحسن للإسلام، كما هو حالنا الذي لا يسرّ صديقا ولا يشنأ عدوا حيث يشيع الظلم والفقر والمرض والجهل في عرض ديار المسلمين.
إن هذا الكرّ الدائم على لزوم لأحبة التيسير والتبشير في الدعوة للدين والتدين مما تظافرت عليه النصوص وتواطأت عليه سير الصحابة والأئمة المتبوعين والعلماء العالمين الذين استنوا بسنّة النبي ﷺ، والتي يمكن اقتباس بعض منها في هذا المضمار اليسير على من يسره الله تعالى له، ومن تلك المعالم في التيسير والتبشير ما يأتي:
1 – التيسير والتبشير في الدعوة: وهي اللازمة التي رافقت الدعوة في عهودها المكية والمدنية، ويكفينا استحضار بعثة اليمن في العام التاسع من الهجرة، ودولة الإسلام قد بسطت نفوذها في كل الجزيرة العربية، وعلى الرغم من ذلك جاءت الوصاة النبوية للصحابيين الفقيهين معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري عندما بعثهما النبي ﷺ إلى اليمن قال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» [البخاري، كتاب الجهاد، 3038].
2 – التيسير في الالتزام والتدين: حيث رفع الإسلام منار الوسطية ومساوقة القدرات البشرية المختلفة، إذ الخلق درجات فمنهم السابق بالخيرات، ومنهم المقتصد، ومنهم الظالم لنفسه، ولأجل ذلك جاءت الأحكام الشرعية مناسبة للمجموع الأغلب، وورد الأمر بالتيسير كما في الحديث: «إن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» [البخاري، كتاب الإيمان، 39].
3 – التيسير في أداء الفروض الجماعية: وذلك لأجل جمع الكلمة وتكثير السواد، والحرص على الألفة، ووصول الخير للأغلب والأكثر، وأما العبادات الفردية فمتروكة للقدرات والتنافس في رفع الدرجات، وهي إلى الإسرار والإخلاص أقرب، ولأجل ذلك نُدبت النوافل في البيوت، واستُحب قيام الليل، وكثرة الذكر في الخلوات، وأما ما يجتمع فيه الناس فالأفضل فيه المراعاة والتيسير، ففي الحديث عن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، إني والله لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان، مما يطيل بنا فيها، قال: فما رأيت النبي ﷺ قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ، ثم قال: «يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليوجز، فإن فيهم الكبير، والضعيف، وذا الحاجة» [البخاري، كتاب الأحكام، 7159].
4 – التيسير في التعليم والإرشاد: وذلك لأن حبل الله متين وصراطه مستقيم، وهذا الحبل له معاقد كثيرة من المعارف والعلوم الخادمة له، ولأجل ذلك نزل القرآن الكريم منجما على حسب الوقائع والأحوال والحاجات، وجاءت السنة مرشدة إلى التخوّل في الموعظة، وعدم إطالة الخطبة، ومخاطبة الناس بما يعقلون، ولزوم التدرج في التلقين والتعليم، إذ لم يكن الصحابة الكرام يتجاوزن عشر آيات حتى يحفظوها ويتدبروها ويعملوا بها، وكان الفقهاء منهم ومن تابعيهم يعتمدون هذه المنهاجية في التعليم كما هو الوراد عن عمر وعلي وابن مسعود.
وفي الحديث عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت، فمرتين، فإن أكثرت، فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقصّ عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك، فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه،[ البخاري، 6373].
5 – التيسير والسماحة في الحياة العامة: وهو ما أرشدت إليه السنة في بناء الحياة على التيسير والسماحة، واستيعاب المجموع كله صالحه وطالحه، قريبه وبعيده، فعن أبي ثعلبة الخشني، أن رسول الله ﷺ، قال: «إن أحبكم إلى الله وأقربكم مني أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلى الله وأبعدكم مني الثرثارون المتفيهقون المتشدقون». [صحيح ابن حبان، 482]
وحين تضائل هذا الفقه نبتت طوائف المتشددين وانبعثت قرون الغلاة، فكان الانقسام شديدا بين الجماعة التي تشتّت إلى جزر معتدلة، وأخرى غالية، وثالثة مفرطة، وهو ما حصل قبل انصرام قرن الصحابة الذين شهدوا فئات الخوارج المتنطعين، ففي الحديث عن الأزرق بن قيس، قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته، وتبعها حتى أدركها، فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله – ﷺ -، وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركت، لم آت أهلي إلى الليل، وذكر أنه صحب النبي – ﷺ -، فرأى من تيسيره. [البخاري، 6127]
إن هذا الدستور الدعوي الذي ننوّه به اليوم في دعوة الناس إلى التدين والالتزام بالشرع يجب ألا يحيد عن خط التيسير والتبشير، وهو خط كتبت فيه الأقلام الكبيرة من أساطين الدعاة أمثال حسن الهضيبي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وغيرهم، وهو خط أثبت نجاعته في رد الضالين إلى حضيرة الشريعة، وهو الخط الوسط الذي لزمه عموم العلماء والدعاة والصلحاء، والحيدة عنه مؤذنة ببوار التدين، وجعله رسوما وأشكالا يأتيها الناس رغبا أو رهبا، مما يورث النفاق الماحق للحسنات، أو الشكلانية الخادعة، وكم شهدنا من ردة ونكوص وعودة لأسفل السافلين عندما انجلى سيف المتسلطين من المتشدقين والمتنطعين في بعض الديار المحروبة، لأن الشريعة سمحة كلها عدل كلها رحمة كلها كما قال الله اللطيف الخبير: ﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ﴾ [ البقرة، 185]