شهد العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر سلسلة من المشاريع الإصلاحية التي قدمها عدد من رجال الإصلاح الإسلامي، وفي السطور التالية أعرض لأحد المشروعات الإصلاحية التي لم تنل حظا كافيا من اهتمام الدارسين وهو مشروع الشيخ مصطفى الغلاييني المدقق والمصلح اللبناني.
السيرة الذاتية والآثار الفكرية
ولد الشيخ مصطفى الغلاييني في مدينة بيروت عام 1885 لأسرة تعرف بالفضل والعلم، وتلقى تعليمه النظامي الأوليّ في المدرسة الوطنية ببيروت، وواظب على حضور جلسات العلم في الجامع العمري الكبير ودرس على يد الأشياخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت، والشيخ عبد الرحمن الحوت والشيخ محي الدين الخياط، ارتحل الغلاييني إلى القاهرة عام 1902 والتحق بالأزهر لطلب العلم، حيث تتلمذ على يد الشيخ محمد عبده الذي تأثر به في أفكاره الإصلاحية، وعقب عودته إلى بلاده اتخذ له حلقة للتدريس في الجامع العمري الكبير، ثم أصبح معلما للغة العربية وآدابها في الكلية العثمانية الإسلامية.
في مطالع شبابه انخرط في العمل السياسي فانتسب إلى جمعية الاتحاد والترقي العثمانية وسرعان ما تكشف له حقيقتها فغادرها إلى الجمعية العمومية الإصلاحية التي تأسست في بيروت عام 1914 وتبنت الدعوة إلى إصلاح دولة الخلافة، وفي العشرينات انخرط في مقاومة الانتداب الفرنسي وألقي القبض عليه مرتين فاضطر إلى مغادرة لبنان والإقامة في فلسطين ثم الأردن حيث عمل مدرسًا، وقد اتسمت السنوات التالية من حياته بالاستقرار الذي يتلاءم مع تقلده عدة مناصب رسمية رفيعة، فقد شغل منصب رئيس جمعية المشاريع الخيرية في بيروت، ورئيس المجلس العلمي في بيروت، وكان عضوا في المجلس العلمي في دمشق، وترأس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في لبنان إلى أن توفي عام 1944.
خلف الغلاييني آثارا معرفية تراوحت بين المؤلفات الفكرية والدينية واللغوية، فمن مؤلفاته الفكرية “الإسلام روح المدنية” الذي أصدره على نفقته الخاصة لتفنيد مزاعم اللورد كرومر بشأن الإسلام، “ونظرات في السفور والحجاب” وهو رد على مغالطات كتاب نظيرة زين الدين حول الحجاب و”الدين والعلم” و”أريج الزهر” و”عظة الناشئين”، ومن مؤلفاته الدينية “لباب الخيار في سيرة المختار” و”نخبة من الكلام النبوي”، وأما مؤلفاته اللغوية فأكثرها ذيوعا “جامع الدروس العربية” و”رجال المعلقات العشر”.
عناصر المشروع الإصلاحي
يمتلك الشيخ الغلاييني مشروعا فكريا يرتبط بوشائج قوية بالمشروع الإصلاحي الإسلامي العام الذي وضحت معالمه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويدعم ذلك انطلاقه من المرجعية الإسلامية، ودعوته إلى فتح باب الاجتهاد، وإلى مواجهة عوامل التخلف في البيئة الإسلامية، واشتباكه مع المشاريع المضادة للمشروع الإسلامي.
ويصطبغ المشروع بصبغة تربوية واضحة وإليها ترد معظم اهتمامات الغلاييني الفكرية من اعتناء باللغة العربية واهتمام بالسيرة النبوية واسهام في الصحافة، وهذا الاهتمام بالتربية له ما يبرره فقد كان لانتشار مدارس الإرساليات الأجنبية في بلاد الشام منذ القرن التاسع عشر أثره الحاسم في دفع الإصلاحيين الشوام إلى الاهتمام بالتربية باعتبارها أداة مهمة للحفاظ على الهوية. ويتألف هذا المشروع الإصلاحي من بضع نقاط بيانها كالتالي:
إصلاح التعليم
احتلت الدعوة إلى إصلاح التعليم موقعا مركزيا في منظومة الشيخ الغلاييني الإصلاحية، ولا عجب في ذلك فقد كان الرجل من رجال التربية وممن يرون أن النهضة لا تتحقق إلا بها، وقد انتقد الجمود التعليمي في المؤسسة الأزهرية في سلسلة من المقالات نشرت بجريدة الأهرام عام 1903، وواصل انتقاداته بعد ذلك لممارسات بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي ممن حرموا الاشتغال بغير علوم الدين التي “يقصدون بها أقوال متأخري الفقهاء وفيها من الآراء ما لا يستند إلى كتاب ولا سنة”.
وتتأسس رؤية الشيخ الغلاييني لإصلاح التعليم على دعامتين؛ الأولى الابتعاد عن تلقي العلم من كتب المتأخرين من الفقهاء، وذلك لأن جلها شروحات وحواشي كتبت بلغة غير يسيرة، والعودة إلى تلقي العلم وتدريسه من كتاب الفقهاء المتقدمين لأنها غزيرة العلم وسهلة المأخذ، والثانية إزالة التمييز بين العلوم الشرعية وبين العلوم الحديثة، لأن “علوم الدين الحقيقية هي كل ما يعين على فهم الكتاب والسنة فيدخل في ذلك علوم اللسان والأخلاق والسياسات بفروعها والطب والطبيعيات والجغرافيا والفلك وجميع ما يسمونه اليوم بالعلوم الكونية أو العصرية”.
نبذ التقليد والدعوة إلى الاجتهاد
صرف الشيخ الغلاييني جهده نحو نزع ما التصق بالدين من ممارسات حجبت وجهه الحقيقي واتخذها البعض ذريعة للطعن في الإسلام واتهامه بالجمود ومخالفة المدنية، وفيما يعتقد فإن جهل بعض الفقهاء المتأخرين هو الذي جرأ أمثال كرومر على الطعن به ووصفه بما لا ينطبق عليه، لأنهم أوصدوا الباب دون من يروم أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله بحجة أن الفقهاء المتقدمين قد استخرجوا تلك الأحكام ولم يبق أمامهم إلا أن يأخذوا بها ويعتصموا بها وادعوا أنه لا يمكن أن ينبغ أحد لدرجة تمكنه من الاستنباط من الكتاب والسنة.
ويرد الغلاييني هذا القول من جهتين، الأولى أن الأحكام الشرعية تدور مع المصالح العامة، وأن حكم الفقهاء الذين استندوا فيه إلى القياس والاجتهاد البحت لا يناسب إلا الزمان الذي وجدوا فيه، وليس له صفة الإطلاق والصلاحية لأي زمان ومكان. والثانية أن العلماء المتقدمين أوجبوا أن يوجد في كل عصر مجتهدون يشرحون للناس ما يناسبهم من أحكام الدين والدنيا وجرموا أن يأخذ أحد بأقوالهم إن لم تكن مستندة إلى دليل، ويخلص من هذا إلى نتيجة هامة هي “أن حجر العمل بالكتاب والسنة ووجوب العمل بقواعد الفقهاء من أعظم الأسباب التي أودت ببقية الروح التي كانت مختلجة في جسم الإسلام ومرفرة فوق عقول المسلمين”.
واستعادة تلك الروح لا يكون إلا بالدعوة إلى إحياء الاجتهاد على قاعدة المصالح المرسلة التي عدها الإمام مالك أصلا من أصول أدلة التشريع استنادا إلى أن مصلحة العباد ينبغي أن تراعى وإن خالفت ظاهر النص لأن حكم الله تعالى إنما شرع لمنفعة العباد، ويشرح الغلاييني ذلك بقوله “يعني بذلك [الإمام مالك] أنه إن وجدت مصلحة للأمة تخالف النص والإجماع فتراعى المصلحة ومراعاتها لا لعدم رعايتهما بالكلية بل لأننا نقول أن النص والإجماع بمنزلة العام ورعاية المصلحة الثابتة بالدليل بعض مخصصات هذا العام فالعمل بها لا ينافي العمل بالنص والإجماع لأن حديث لا ضرر ولا ضرار هو بمنزلة أن يقال بعد كل حكم نُص عليه إلا إذا اقتضت المصلحة خلافه”.
انتقاد البدع والعادات الاجتماعية الضارة
لم يقتصر جهد الغلاييني على الجانب الفكري وإنما امتد إلى محاولة تصويب الممارسات الاجتماعية المتمثلة في البدع والعادات المضرة، وفيما يخص العادات فقد حرص على إقامة التمييز بين العادات الموروثة والعادات الوافدة من الغرب والتي تسللت إلينا بفعل ولع عوام الشرقيين بتقليد الغربيين في عاداتهم السيئة من قمر وتهتك وتعري دون تقليدهم في المعارف والعلوم والصناعات. والتمييز من جهة أخرى بين الحسن والقبيح من العادات المحلية الموروثة، وحسب الغلاييني فإنه لا يحكم على عادة بالضرر أو القبح إلا بعد معرفة آثارها فإن كان حميدا كانت كذلك والعكس صحيح. والعادات السيئة لا تستوي في الضرر فهي تختلف قوة وضعفا باختلاف أثرها وسواء أكانت شديدة الضرر أم خفيفته ينبغي العمل على إزالتها لأنها “العامل الأكبر الذي يتوقف عليه ترقية الأمة ونجاحها”.
الوجه الانتقادي الآخر للممارسات الاجتماعية كان موجهًا نحو التصدي للبدع والخرافات التي التصقت بالدين واختلطت به حتى ظنها البعض من قواعده الأساسية، وقد خلفت آثارا سلبية على الإسلام ومن ثم وجب العمل على استئصالها بكل الوسائل الممكنة من الوعظ اللساني في المساجد إلى نشر الرسائل والكتب والمجلات. ويذهب الغلاييني إلى أن نشر هذه الخرافات على الجرائد والمجلات يفيد الإسلام حتى وإن اطلع عليها أهل الديانات الأخرى وذلك لأن اطلاعهم عليها شرف للدين وإثبات أنه دين عصري لا يخالف المدنية.
وبالجملة، كان الشيخ الغلاييني أحد رجالات الإصلاح في الشام، وقد امتلك مشروعا إصلاحيا متكاملا ربطته وشائج قوية بمشروع الإصلاح الإسلامي العام الذي أسسه الأفغاني ومحمد عبده.