تمثل الانتحالات والسرقات العلمية والأدبية قضية أخلاقية سنت لها الدول والمؤسسات العالمية التشريعات التي تحول دون انتشارها وتحفظ الحقوق الفكرية للمؤلف؛ ومن أهمها اتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية، والاتفاقية العالمية لحقوق المؤلف، وتأسيا بهذا النهج صدر قانون حماية قانون التأليف والنشر في مصر (1954م)، ثم الاتفاقية العربية لحماية حقوق المؤلف (1981م) ثم توالت القوانين والمواثيق التي تجرم الاعتداء على حقوق المؤلف خصوصا مع ذيوع النشر الالكتروني.
وربما أوحي التحرك القانوني المعاصر لتجريم السرقات العلمية أن هذه الظاهرة محدثة ليس لها جذور في التراث، وهو افتراض غير دقيق، فهناك من الشواهد ما يثبت وجودها قديما، ولكن الظاهر أنها استفحلت واتسع نطاقها مع انتشار الطباعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث تيسر معها وصول الكتب والصحف إلى نطاق واسع من القراء والبلدان فصار من اليسير أن يسطو أحدهم على كتاب أو مقال ثم يعمد إلى بعض التغييرات الطفيفة ويعيد نشره ناسبا إياه إلى غير صاحبه، وهو ما نستشفه مما كتبه رشيد رضا في عام (1900) وانتقد فيه إقدام بعض الصحف على الانتحال دون عزو إلى مصدر.
رشيد رضا ومفاسد الانتحال
اعتبر رشيد رضا أن الانتحال يمكن أن يكون سهوا أو عمدا فإن كان عن عمد كان أشر من سرقة الأموال والعروض؛ لأن في سرقة الأموال من رجل ذنبا واحدا، وفي سرقة الكلام والأفكار ذنوب كثيرة:
أولها: التعدي على حقوق الناس وانتحالها لنفسه، وهو المراد بتسميتها سرقة.
وثانيها: الخيانة في العلم وهو لا ينجح إلا بالأمانة، وهي نسبة كل قول إلى قائله وكل رأي إلى صاحبه.
وثالثها: الكذب وهو ظاهر.
ورابعها: التبجح والافتخار بالباطل، وقد ورد في الحديث الصحيح: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).
وخامسها: الغش فإن من الناس من إذا علم أن هذا القول لفلان يأخذ به ويقلده، لأن التقليد مبني على الثقة، فإذا نسب القول إلى غير صاحبه يتركه من لو علم صاحبه لأخذ به وانتفع لثقته به دون من نسب إليه، ويأخذ به من يثق بالمنتحل على أنه له وما هو له.
سادسها: الجناية على التاريخ الذي يبين مراتب الناس وأقدارهم في العلم[1].
عزو النصوص: أداة منهجية وقيمة خلقية
وما يشكو منه رشيد رضا في مطلع القرن العشرين يضرب بجذوره في التراث، فتوقف أمامه العلماء الذين نبهوا على ضرورة نسبة القول إلى قائله، واعتبروه أساس العلم وبركته، والغريب أنهم فطنوا لذلك في وقت مبكر فها هو سفيان الثوري (ت:161ه) يقول: “إن نسبة الفائدة إلى مُفيدها من الصدق في العلم وشكره، وأن السكوت عن ذلك من الكذب في العلم وكفره”، ويتابعه في ذلك أبا عبيد القاسم بن سلام القائل(ت: 224ه): ” إن من شكر العلم أن تقعد مع قوم فيذكرون شيئا لا تحسنه، فتتعلمه منهم، ثم تقعد بعد ذلك في موضع آخر، فيذكرون ذلك الشيء الذي تعلمته فتقول: والله ما كان عندي فيه شيء حتى سمعت فلانا يقول كذا وكذا فتعلمته، فإذا فعلت فقد شكرت العلم[2].
وهذه القاعدة المنهجية صارت متبعة لدى علماء القرون التالية، إذ يشرح الإمام القرطبي (ت:681 ه) في مقدمة تفسيره معالم منهجه بالقول “وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال من بركة العلم أن يُضاف القول إلى قائله، وكثيرا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما، لا يُعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث، فيبقى من لا خبرة له بذلك حائرا، لا يعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك علم جسيم، فلا يقبل منه الاحتجاج به، ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام والثقات المشاهير من علماء الإسلام”[3]. ومن هذا النقل يتضح أن عزو العلم لقائله ليس مجرد أداة منهجية خالية من القيمة كما يظن، وإنما هي ذات مضامين تربوية وخُلقية فالعالم تقع عليه مسئولية إرشاد المتعلم إلى مصادر المعرفة حتى يستطيع النهل منها بذاته ويغدو عالما بدوره، فالمعرفة ليست حكرا على أحد يستأثر بها ويصد عنها غيره.
المتصدون للسرقات العلمية
إن تشديد العلماء على أهمية عزو النقول إلى مصادرها لا يعني أنه لم تكن هناك خروقات لهذه القاعدة، وهو افتراض تكذبه المصادر التي تحدثت عن وقائع عديدة للانتحالات بعضها يقع في نطاق البحث العلمي وبعضها الآخر في النطاق الأدبي، وقد وجدنا من تصدى لها وسعى في كشف هؤلاء المنتحلين، ويمكن التوقف أمام نموذجين ضمن هذا السياق؛ أولهما سعى إلى حصر الإنتاج الفكري والأدبي للمنتحلين وذكر نماذج للمصنفات التي خصصت لبحث ظاهرة السرقات والانتحالات ويمثله محمد بن إسحاق النديم الوراق (ت: 438 ه)، والثاني وضع رسالتين كشف فيهما عما تعرضت له مصنفاته من سطو وانتحال وكشف عن الأثر النفسي للانتحال لدى المؤلف، وهو ما نجده لدى الإمام السيوطي (ت: 911ه).
أولا: ابن النديم
من المعلوم أن كتاب الفهرست لابن النديم هو” فهرست كتب جميع الأمم من العرب والعجم، الموجود منها بلغة العرب في أصناف العلوم وأخبار مصنفيها”، وأراد مؤلفه التأريخ للمعرفة والعلوم العربية في عصره، لكنه لم يكتف بذلك حيث انتبه الدكتور عبد الحكيم أنيس أنه عني بمسألة السرقات العلمية اعتناء ملحوظا، فأورد أولا نماذج لبعض المؤلفين الذين انتحلوا كتبا لغيرهم ثم أتبع بذكر عدد من المؤلفات التي كان محورها السرقات العلمية.
وأول ما يسترعي الالتفات أن ابن النديم لم يستخدم مصطلح السرقة واستعاض عنه بثلاثة مصطلحات حيادية لا تحمل قدحا أو ذما هي: “الادعاء” “الانتحال” “السلخ”، وقد استخدمها بحق خمسة مؤلفين- خلافا للشعراء- أفصح عن أسماءهم دون مواربة وهم: أبو معشر البلخي (ت: 272 ه)، أبو العنبس محمد بن إسحاق الكوفي الضميري (ت:275 ه)، محمد بن زكريا الرازي (ت: 313 ه) وهو الفيلسوف المعروف الذي أشيع أن تتلمذ على يد البلخي وانتحل بعض كتبه، محمد بن يحيى الصولي (ت: 330 ه)، وأحمد بن محمد بن الفقيه الهمذاني (كان حيا 367 ه)، وقال ابن النديم في ترجمته ” له من الكتب كتاب (البلدان) .. أخذه من كتب الناس، وسلخ كتاب الجيهاني[4].
وعلاوة على ذلك ذكر ابن النديم أربعة عشر كتابا ألفها العلماء والشعراء لبيان السرقات، نذكر منها: سرقات الكميت من القرآن وغيره لابن كناسة (ت:207هـ)، وسرقات الشعراء وما اتفقوا فيه لابن السكيت (ت: 246هـ)، والسرقات لابن المعتز (ت:296هـ)، والسرقات لجعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه(ت: 323ه)، الذي قال فيه ابن النديم “ولم يتمه ولو أتمه لاستغنى الناس عن كل كتاب في معناه”، وكتاب في أن الشاعرين لا تتفق خواطرهما للحسن بن بشر الآمدي البصري (ت: 371ه)[5].
والذي يمكن استخلاصه من هذه القائمة من المصنفات الواقعة بين مفتتح القرن الثالث الهجري والربع الأخير من القرن الرابع الهجري أن جعلها يقع ضمن نطاق سرقة الأشعار (9 كتب من أصل 14)، وهو ما يعني أن السرقة الفكرية كانت أقل ذيوعا من السرقة الأدبية ربما تحت تأثير هيبة العلم واحترامه التي كانت لم تزل قائمة ومرعية في النفوس، والأمر الآخر أن هذه الظاهرة وجدت ضمن الجماعة العلمية والأدبية من يتصدى لها ويقوم بواجبه صيانة للشعر، وحفظا لجلال العلم من أن يجترئ عليه مجترئ.
ثانيا: الإمام السيوطي
يعد الإمام السيوطي (ت: 911 ه) نموذجا فريدا بين المصنفين حيث اتسعت دائرة مصنفاته لتشمل علوما ومعارف كثيرة مع جودتها وإتقانها، ويبدو أن هذا شجع السراق على اقتباس كتبه ونسبتها لأنفسهم، فأورثه معاناة نفسية نجدها جلية في رسالتيه (الفارق بين المصنف والسارق)، و(البارق في قطع يد السارق) اللتان شرح فيهما حال المصنفين مع السراق المنتحلين.
ورسالة الفارق هي أولى الرسالتين، وهي تدور حول السراق وأقسامهم، حيث يقسمهم السيوطي إلى ثلاثة أقسام: “الأول، سراق الحديث وهم مجروحون بإجماع أهل الحديث، وطبقتهم تلي طبقة الوضاعين، وقد أدى الأمانة إمامنا الشافعي رأس المؤتمنين …. الثاني سراق التصانيف وهم مذمومون أيضا، ومازالت العلماء ينبهون عليهم في تصانيفهم، ويذكرون أن ذلك من أسباب عدم الانتفاع بذلك المصنف المسروق، ويروون في ذلك الحديث الذي أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله ﷺ “تناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله”، وبعد أن يروي جملة من أقوال العلماء في ذلك يذكر القسم الثالث وهم “سراق الشعر وأكثرهم يسرق المعاني ويصوغها في نظم له، وقليل منهم من يذكر الشعر بلفظه”.
ويختم السيوطي رسالته بالقول، “وقد اقتديت بهؤلاء وعملت مقامة سميتها الفارق بين المصنف والسارق، بسبب رجل استعار من تلامذتي أربعة كتب من مصنفاتي وهي: كتاب المعجزات والخصائص الكبرى، وكتاب أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب، وكتاب مسالك الحنفا في والدى المصطفى، وكتاب طي اللسان عن ذم الطيلسان، فسرق جميع ما فيها وضمنها كتابا جمعه، ونسب التتبع لنفسه، وأنا أقمت في تتبعها عشرين سنة”[6]
خلفت السرقة أثرا نفسيا عميقا لدى السيوطي الذي افتتح رسالة رسالة الفارق بعبارات قوية لا أثر فيها للحياد العلمي الذي انتهجه ابن النديم في الفهرس، ونصها ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، هل أتاك حديث الطارق، وما أدراك ما الطارق الخائن السارق والابن المارق، الذي نؤمله إلينا بأبناء الحنفاء نوصله إلينا بأولاد الخلفاء، فأوسعناه برا فقابلنا بجفاء، وعاملنا بغدر إذ عاملناه بوفاء” إلى آخر ما قاله والذين لا يتضح معه شخصية السارق ولكن يتبين منها معاناة المسروق من سرقة سنوات نصبه وتعبه في البحث.
الخلاصة، أن ظاهرة السرقة والانتحال ليست جديدة وإنما تضرب بجذورها في أعماق التاريخ وفي جميع الحضارات والثقافات، وإذا كانت الحضارة العربية لم تسبق إلى وضع مواثيق لحفظ حقوق المؤلفين إلا أن علماءها كانوا سباقين إلى وضع المصنفات وكشف الانتحالات والمنتحلين.