يشهد عالم اليوم تطورا تقنيا سريعا و مدهشا ، فقد شكلت الابتكارات التكنولوجية فرصة لتطوير مناحي الحياة وتسهيل الخدمات وزيادة كفائتها وتسريعها ، وقد ألقت هذه الثورة التقنية بظلالها على جميع القطاعات الاقتصادية سواء كانت قطاعت خدمية أو قطاعات صناعية، وتعدى ثمار هذا التطور قطاعات الإنتاج ليشمل قطاعات الخدمات الصحية والمصرفية والتعليمية، وعلى الرغم من أهمية الإيجابيات التى أحدثتها الثورة التقنية الحديثة إلا أن المخاوف من سلبيات هذه التقنية قد بدأت تظهر تدريجيا وهي مخاوف قديمة ومتجددة في ظل صراع البقاء الذي يقوده الإنسان ضد الآلة التي اكتسحت عالم الانتاج منذ الثورة الصناعية وتسببت في فقدان ملايين الوظائف، بعد أن نجحت الآلة في تقليص حجم العمالة في المصانع.
تعالج هذه المقالة دور التطور الرقمي في الاقتصادات المعاصرة و إلى أي حد يمكن أن تفاقم هذه الثورة التكنلوجية مشكلة البطالة إذا لم تتم تطبيق التقنيات الحديثة بطريقة ملائمة تراعي ظروف اقتصاد الدولة.
التطور الرقمي يجتاح القطاع الخدمي
من خلال الدراسات والبحوث التى تعالج مدى تأثير التغيرات التكنولوجية الحديثة على التشغيل أظهرت النتائج بأن العديد من الدول تحاول تغليب الجانب الخدمي على الجانب الانتاجي فيما يتعلق بتطبيق البرامج التقنية وذلك لتجنب خلق إختلال في سوق العمل نتيجة الآليات التقنية الجديدة، هذه السياسة ساهمت بشكل كبير في التقليص من حجم تأثير هذه التقنيات على العمالة وتفادي الوقوع في فخ زيادة البطالة وما يتسبب فيه ذلك من مشاكل اقتصادية واجتماعية تعيق النمو.
وقد أطلق على هذه الظاهرة ( TECHNOLOGICAL UNEMPLOYMENT ) وهي الزيادة في حجم البطالة الناجم عن تطبيق التقنيات التكنولوجية الحديثة، ففي دراسة لمعهد ( CATO INSTITUTE ) أظهرت الدراسة أن استخدام الروبوتات في المصانع الأمريكية في بداية 1990 تسببت في فقد 100 ألف شخص لوظائفهم. استطاعت دول عديدة تركيز التطور الرقمي في مجال الخدمات حيث استفاد هذا القطاع من التطورات الجديدة للثورة الرقمية وحقق تطورات مهمة سواء من حيث سهولة الخدمة أو من حيث سرعتها. هذا الإجراء خفف من اجتياح المنظومة التقنية لقطاع الإنتاج وبالتالي حد من آثارها على العمالة في قطاعات الصناعة ، لقد تسبب التطور التقني وإدخال الآليات التكنلوجية المتطورة إلى المصانع في العديد من دول العالم إلى تسريح آلاف العمال حيث استخدمت الربوتات والمنظومات الرقمية في عمليات الإنتاج عوضا عن العمال.
آثار “الرقمنة “
تتسبب التطورات التكنولوجية المتلاحقة والتي يتم ادخالها إلى قطاع الإنتاجي وقطاع الخدمات إلى فقد من 5–10 ملايين وظيفة سنويا ، هذا الرقم يشكل تحديا كبيرا للحكومات التي يقع على توفير التوظيف. ويرى أصحاب المصانع ورواد القطاع الخاص بأن الهدف الأساسي للعملية الاقتصادية هدف ربحي ،لذلك يلجأ هؤلاء إلى استخدام المنظومة التي تمنحهم تكلفة إنتاج أقل.
في بعض الدول الآسيوية و خاصة الصين تم تقليص العديد من مراكز بيع التجزئة وتسريح عمالها بسبب قدرة المنظومة التقنية الجديدة على إدارة هذه المعاملات بطريقة سريعة ومرنة وهكذا وجد الآلاف من الموظفين أنفسهم بلا عمل. تفشي ظاهرة البطالة الناجمة عن إحلال الآلات والأنظمة الإلكترونية أدى بالحكومة وبعض المنظمات غير الحكومية إلى إقامة مؤتمرات و ندوات حول خطورة هذه الظاهرة وسبل مواجهتها من طرف القطاع العام والخاص على حد سواء.
في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي لا يبدو الأمر مختلفا جدا ، فقد أشارت تقارير لخبراء صناعة الأنظمة الآلية أن 47% من الوظائف في عموم الولايات المتحدة الأمريكية ستختفي خلال الفترة من 10–20 سنة قادمة حيث سيتم إدخال أنظمة تشغيل أوتوماتيكية للمصانع ووحدات الإنتاج لا تحتاج سوى عدد قليل من الخبراء لتشغليها، في أوروبا أوضحت نفس التقارير أن نسبة الوظائف المفقودة نتيجة إحلال المنظومات التكنولوجية في القطاع الصناعي تبلغ 53% في السويد و 42% في ألمانيا ، هذه النتائج تضع الحكومات أمام تحدي حقيقي يفرض عليها إيجاد حل لهذه المعضلة،غير أن هذه النتائج لاقت انتقادات واسعة من العديد من الخبراء ومراكز البحث واتهمت الجهات التي أصدرت هذا التقرير بالمبالغة ، حيث أشار تقرير عن منظمة دول التعاون الاقتصادي ( OECD ) أن تأثير المنظومات الرقمية سيتسبب في فقد 9% من الوظائف في أسواق هذه الدول وترتفع هذه النسبة من بلد لآخر داخل المنظمة حيث تصل هذه النسبة 12%في ألمانيا والنمسا ، لكن تنخفض هذه النسبة إلى 6% في أستونيا.
على الرغم من هذه الآثار التى أحدثتها الثورة التقنية خاصة على سوق العمل في البلدان التي تتبني هذه التطورات إلا أن بعض الدول استطاعت عبر سياسات واستراتيجيات فعالة المواؤمة بين هذا التطور التكنلوجب السريع ومتطلبات سوق العمل فمثلا تعتبر أستونيا من أكثر دول العالم استخداما للمنظومة الرقمية حيث تغطي هذه المنظومات خدمات الصحة ،الإسعاف ، الخدمات الحكومية ، التجارة الإلكترونية وحتى الإنتخابات حيث يمكن للشخص التصويت عبر المنظومة الإلكترونية الخاصة بالانتخابات،
تظهر النتائج التي أصدرتها منظمة دول التعاون الاقتصادي أن أستونيا تعتبر من أقل أسواق العمل تأثرا بتسارع التطور التكنولوجي ويرجع الخبراء هذا النجاح الذي حققته أستونيا ودول أخرى مثل كوريا الجنوبية ونجاحهم في التوازن بين التطور الرقمي السريع وسوق العمل إلى استراتيجيات هذه الدول في تركيز المنظومة الرقمية في قطاع الخدمات وتقليصها في قطاعات الإنتاج الأخرى حد الإمكان. لا تزال الآثار التى أحدثها التطور الرقمي محل نقاش ساخن بين مختلف المدراس الاقتصادية بين التقليل من حجم هذه الآثار و المبالغة في تأثيراتها وبين هؤلاء وأولئك مساحة للدراسة والبحث لتقديم حلول مناسبة لهذه المعضلة الاقتصادية.