من المهم النظر للقرآن الكريم في رؤيته الكلية ومعانيه الأساسية؛ حتى ننتفع بهذا الكتاب الكريم، ولا تأخذنا المعاني الجزئية أو الانشغال بالتفسير على الطريقة المعتادة، بعيدًا عن هذه الرؤية وتلك المعاني.

ولهذا التفتت الدراسات القرآنية في العقود الأخيرة إلى أهمية “التفسير الموضُوعي”، بعد قرون من التفاسير المَوضِعِيَّة، رغم أهمية هذا النوع الأخير وضرورته بلا شك.

و”التفسير الموضوعي” قد يراد به النظر للسورة الواحدة كوحدة موضوعية ذات أهداف كلية مبثوثة في السورة.. أو يراد به جمع شتات الموضوع الواحد عبر سور القرآن الكريم؛ مثل الإنفاق في القرآن، أو المرأة في القرآن([1]).

وهذا “التفسير الموضوعي” بمعنييه يقترب بنا كثيرًا من مستوى التعامل مع القرآن في إطار الرؤية الكلية، وليس التعامل الجزئي لمفرداته وعباراته.. فضلاً عن الانشغال بمثل التفسير اللغوي أو البلاغي أو الفقهي.

غير أن هناك مستوى أكثر اقترابًا من الرؤية الكلية للقرآن الكريم، وهو محاولة استخلاص مقاصد عامة أساسية تدور عليها هدايات القرآن وتوجيهاته.. بحيث تتضمن هذه المقاصدُ الخطوطَ أو المعالمَ التي يقوم عليه البلاغ القرآني..

وقد قدم السيد محمد رشيد رضا، رحمه الله، في كتابه (الوحي المحمدي)، محاولة جديرة بالاهتمام في هذا الإطار.. ثم جاء من بعده الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، وقدم إسهامًا متميزًا عبر كتابه: (المحاور الخمسة للقرآن الكريم)، بالنسبة للقرآن ككل، وعبر كتابه: (نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم)، بالنسبة لكل سورة على حدة.

محاولة رشيد رضا

كتب الشيخ رشيد رضا كتابه (الوحي المحمدي) ليدعو شعوب المدنية: أوروبا وأمريكا واليابان، بلسان علمائها، إلى الإسلام؛ لإصلاح فساد البشر المادي وتمتيعه بالسلام والإخاء الإنساني العام([2]). وذلك بعد أن أثبت لهم (الوحيَ المحمدي)، وكونَ القرآن كلام الله عز وجل، وكونه مشتملاً على جميع ما يحتاجه إليه البشر من الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي”([3]).

وعبر ثلثي الكتاب تقريبًا بيَّن رشيد رضا أن القرآن الكريم له عشرة مقاصد لإصلاح أفراد البشر وجماعاتهم وأقوامهم، وإدخالهم فى طور الرشد، وتحقيق أخوتهم الإنسانية ووحدتهم، وترقية عقولهم، وتزكية أنفسهم([4]).

وفي تقديمه للمقاصد التي رصدها، أوضح رشيد رضا أن “القرآن كتاب تربية عملية وتعليم، لا كتاب تعليم فقط، فلا يكفي أن يذكر فيه كل مسألة مرة واحدة واضحة تامة كالمعهود في متون الفنون وكتب القوانين؛ وقد بين الله تعالى ذلك بقوله في موضوع البعثة المحمدية: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 1، 2)، فآياته المتلوة هي سور القرآن، المرشدة إلى سننه في الأكوان، والتزكية هي التربية بالعمل وحسن الأسوة، و(الكتاب) هو الكتابة التي تخرج العرب من أميتهم، و(الحكمة) هي العلوم النافعة الباعثة على الأعمال الصالحة، وما يسمى فى عرف شعوب الحضارة بالفلسفة؛ فجميع مقاصد القرآن وبيان السنة له تدور على هذه الأقطاب الثلاثة([5]).

وأكد أن “ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو أعلى وأكمل مما جاء به من قبله جميع الأنبياء والحكماء والحكام؛ فهو برهان علمي على أنه من عند الله تعالى، لا من فيض استعداده الشخصي”([6]).

أما المقاصد العشرة، كما استخصلها رشيد رضا، فهي:

المقصد الأول: بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة التي دعا إليها الرسل وضل فيها أتباعهم؛ وهي: الإيمان بالله، الإيمان باليوم الآخر، العمل الصالح.

المقصد الثانى: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل.

المقصد الثالث: إكمال نفس الإنسان من الأفراد والجماعات والأقوام.

المقصد الرابع: الإصلاح الإنساني الاجتماعي السياسي الوطني بالوحدات الثماني؛ وهي: وحدة الأمة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع بالمساواة في العدل، وحدة الأخوة الروحية والمساواة في التعبد، وحدة الجنسية السياسية الدولية، وحدة القضاء، وحدة اللغة).

المقصد الخامس: تقرير مزايا الإسلام العامة في التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات. وقد لخصَّ أهمها بالإجمال فى عشر جمل أو قواعد؛ مثل كون الإسلام وسطًا جامعًا لحقوق الروح والجسد ومصالح الدنيا والآخرة، ومثل كونه يسرًا لا حرج فيه ولا عسر.

المقصد السادس: بيان قواعد الإسلام في الحكم والسياسة: الشورى، العدل والمساواة، حظر الظلم.

المقصد السابع: الإرشاد إلى الإصلاح المالي.

المقصد الثامن: إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر؛ نظرة عامة فى فلسفة الحرب والسلم والمعاهدات.

المقصد التاسع: إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية.

المقصد العاشر: تحرير الرقبة.

محاولة الغزالي

والشيخ محمد الغزالي، كما أشرنا، قدَّم مقاربة للرؤية الكلية للقرآن الكريم، عبر مستويين:

الأول: عبر مستوى كل سورة من سور القرآن، وذلك في كتابه (نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم).

الثاني: عبر مستوى القرآن الكريم كله، وذلك في كتابه (المحاور الخمسة للقرآن الكريم).

في المستوى الأول بيَّن الغزالي أنه حاول في كل سورة أن يرسم لها “صورة شمسية” تتناول أولها وآخرها، وتتعرف على الروابط الخفية التي تشدها كلها، وتجعل أولها تمهيدًا لآخرها، وآخرها تصديقًا لأولها([7]).

وأشار إلى أنه تأسَّى في ذلك “بالشيخ محمد عبد الله دراز؛ عندما تناول سورة البقرة- وهى أطول سورة في القرآن الكريم- فجعل منها باقة واحدة ملونة نضيدة، يعرف ذلك من قرأ كتابه (النبأ العظيم)، وهو أول تفسير موضوعي لسورة كاملة، فيما أعتقد”([8]).

وفي المستوى الثاني أوضح الغزالي أن “القرآن الكريم، مع استفاضة معانيه، وكثرة سوره، يمكن القول بأنه يدور على محاور خمسة؛ فالتشابه قائم بين آياته، وتكرار المعاني والغايات مأنوس في سياقه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر: 23)”([9]).

وذكر الشيخ الغزالي أن هذه المحاور الخمسة هي:

1- الله الواحد.

2- الكون الدال على خالقه.

3- القصص القرآني.

4- البعث والجزاء.

5- ميدان التربية والتشريع.

إذن، هاتان محاولتان تقدِّمان “رؤية كلية” للقرآن الكريم.. ولا شك أننا بحاجة إلى هذه “الرؤية الكلية”؛ حتى نحسن الفهم عن كتاب الله تعالى، نحن المؤمنين به، ولا تستغرقنا التفاصيل الكثيرة.. وحتى نحسن تقديم هذا الكتاب الإلهي إلى غير المؤمنين به، ونضع أيدينا وأيديهم على معالم النجاة التي يقدمها للإنسانية جمعاء..

فهو كتاب، كما وصفه منزله تعالى بقوله: {هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 20). وقوله أيضًا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء: 82).

على أن البعض قد يرى فرقًا بين “المقاصد”، و”المحاور”، ولا بأس في ذلك.. إنما يهمنا في هذا المقام أن نشير إلى أهمية التعامل مع القرآن الكريم في الإطار الكلي والرؤية العامة، فيما يشبه محاولة تقديم “نظرية قرآنية”، أو “منظور قرآني”، دون الانشغال بالتفاسير الجزئية التي قد لا تنجح في بلورة هذه “الرؤية الكلية” بشكل يعين على الفهم من ناحية، ويحسن تقديم النص القرآني لغير المؤمنين به، من ناحية أخرى.


([1]) راجع: نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، الغزالي، ص: 6، دار الشروق، ط8، 2005م.

([2]) الوحي المحمدي، رشيد رضا، ص: 355، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، ط3، 1406هـ. وقد صدرت الطبعة الأولى عام 1352هـ.

([3]) المصدر نفسه، ص: 68.

([4]) المصدر نفسه، ص: 191.

([5]) المصدر نفسه، ص:191، 192.

([6]) المصدر نفسه، ص: 192.

([7]) نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، الغزالي، ص: 5.

([8]) المصدر نفسه، ص: 5.

([9]) المحاور الخمسة للقرآن الكريم، الغزالي، ص: 18، دار الشروق.