كتب الأستاذ الفاضل د. مسعود صبري مقالا بعنوان: “أساب النزول تاريخ ودين” رد فيه متفضلا ومشكورا، (وبأسلوب غاية في الأدب والرقي الأخلاقي) على بعض الأفكار المتواضعة التي كتبتها في مقال لي بعنوان: “أسباب النزول تاريخ لا دين“، فشكر الله له نصحه، وجزاه خيرا على تبيينه لما يراه، ونقاشه العلمي للموضوع.
ولي على المقال بعض الملاحظات:
أولا: إذا كان مقصود الأخ بالعنوان إثبات تاريخية أسباب النزول فنعم، وإذا كان يعني “بدينية” أسباب النزول، ما عني المحدثون بكون الإسناد دينا فنعم، أما إذا كان الأستاذ الفاضل يقصد أنه توقيفي ينغلق معنى الكتاب بدونه، ولا يمكن معرفته بدونه، فلا أرى ذلك لما سأبين لاحقا إن شاء الله.
ثانيا: لم أقصد بالانتقاد الواحديَّ رحمه الله، وإنما المادة العلمية المكتوبة في الموضوع “أسباب النزول” بشكل عام، بغض الناظر عن كاتبها، وذلك حسب اطلاعي المحدود.
ثالثا: أتفق مع الأخ في أنه: “حاشا أن يكون حديث النبي ﷺ تاريخا، أو مرويات الصحابة وفهمهم وبيان الأسباب التي نزل بها القرآن تاريخا لا علاقة له بالدين”، فلو كان قد صح عن النبي ﷺ حديث واحد صحيح النقل صريح الدلالة في الموضوع لكان التسليم له والإذعان، أما والصحيح نادر، وصراحة الدلالة أندر، وما توفر فيه الشرطان في الغالب لا يحتاج فيه إلى سبب النزول، بمعنى أن فهمه لا يتوقف حتميا على سبب النزول.
أما مرويات الصحابة التي تبين التاريخ، فهي على أهميتها تاريخ، وذلك لا ينقص من قيمتها، ولا يجعلها لا علاقة لها بالدين، بل نستفيد منها كتاريخ، لكنها لا تحجز المعنى ولا تحجره، وحين يضعف موردها لا نتوقف عن الأخذ بالنص من أجل العجز عن استجلاء التاريخ. وأستغفر الله من كل تعميم لا يستند إلى دليل
رابعا: لست من قال إن معرفة سبب النزول عائق عن فهم كتاب الله بهذا المعنى، لكن اشتراط بعض الأصوليين في المجتهد معرفة أسباب النزول صوَّر لكثيرين أن السبب حين لا يعرف لا يمكن استجلاء معنى الآية، ومعرفة السبب في الحقيقة مساعدة على الفهم، لا شرط فيه، وهذا ما أقصد.
خامسا: كلام الصحابة في أسباب النزول لا يمكن أن ينزل –في أقل الاحتمالات- عن فهم الصحابي ومعاذ الله أن أقلل من شأنه، أو أنزل من درجته، لكن أشرت فقط إلى أن المسند من أسباب النزول لا يكاد يسلم منه حديث واحد مرفوع، فالذي أريد الوصول إليه هو أن: فهم القرآن لا يتوقف فيما سوى التفهم المحض –من ذوي الأهلية- المبني على القواعد اللغوية، والوحدة الموضوعية للكتاب، إلا على التأكد من أن المعنى المتوصل إليه لا يناقضه:
– معنى قرآني آخر.
– ولا فهم متواتر للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم .
– ولا نص صحيح من رسول الله ﷺ. (ولا يضر مخالفة آحاد الصحابة للمعنى ما دام جمهورهم عليه، ولا معارضة عدد منهم لعدد مماثل، لكن ينبغي التحفظ من مخالفة الصحابي حتى ولو كان واحدا – لا يعارضه غيره- احتراما لمذهب الصحابي، ومراعاة للخلاف في مذهبه).
سادسا: أسباب النزول في الغالب لا تفيد في معرفة الناسخ والمنسوخ؛ لأن النص القرآني الثابت النزول، الواضح المعنى لا يمكن رده بالتخرص والتخمين، والاستقراء يشهد لذلك.
سابعا: ما ينقلونه في فوائد معرفة أسباب النزول إذا حصر ونُزِّل على الأمثلة سقط أغلبه.
ثامنا: تأخرنا زمانا عن زمن النبي ﷺ والصحابة والتابعين، ثم من بعدهم –على ما فيه من فوات الفضل- لا يمنعنا من أن نجمع المحفوظ من أسباب النزول، ونقارن الأقوال وندرس الأسانيد، ونناقش القيمة العلمية للمادة بعد أن اجتمعت. وما وصلتُ إليه من ذلك –على تواضعه- هو ما جعلني أجزم بأن الأسباب لا تفيد إلا فيما يفيد فيه التاريخ، وهو مهم لكنه ليس بتلك الجوهرية.
تاسعا: لنختم بالمثال الذي أورده السيد الفاضل على ما نقصد إليه، فقد أورد في: “قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران: 188]”، “ما أخرج البخاري ومسلم أن مروان قال: اذهب يا رافع (لبوَّابه) إلى ابن عبَّاسٍ فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عبَّاسٍ: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب سألهم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه”.
وهذا الحديث أورد البخاري نفسه حديثا آخر -عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه- يرده: “«أَنَّ رِجَالًا مِنَ المُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا»، فَنَزَلَتْ: (لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) الآيَةَ.
فهذا الحديث ينفي الحجة التي احتج بها ابن عباس ويرد المعنى إلى عمومه، ويثبت أن السببية ليست يقينية في هذا النص، وحديث ابن عباس هذا من أصح الأحاديث في الأسباب، ومن أكثرها ورودا في كتب “الأسبابيين” فليقس عليه غيره.