نظمت إدارة البحوث والدراسات الإسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر وبالتعاون مع مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعة قطر، الندوة الأولى من الموسم الثقافي الثاني لسلسلة ندوات “التكامل المعرفي” تحت شعار “التفاعل الثقافي.. دليل التكامل المعرفي” وذلك مساء يوم الثلاثاء الموافق 9 سبتمبر 2025، بعد صلاة العشاء، في جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب بالعاصمة القطرية الدوحة.
شهدت الندوة حضور سعادة السيد غانم بن شاهين الغانم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، وعدد من مسؤولي الوزارة ومديري الإدارات، وحضور الدكتور إبراهيم بن عبدالله الأنصاري عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر، وعدد من الباحثين والدعاة والمختصين.
وأوضح الشيخ الدكتور أحمد بن محمد بن غانم آل ثاني مدير إدارة البحوث والدراسات الإسلامية، أن الندوة، التي تعقد مرتين سنويا، تعد منبرا ثقافيا وفكريا يهدف إلى إشاعة ثقافة التكامل بين العلوم، والبحث في القضايا الاجتماعية من منظور إسلامي، منوها إلى سعي الإدارة عبر هذه الندوات إلى تعزيز الوعي بأهمية التفاعل الثقافي كوسيلة للنهوض الحضاري للأمة.
محاور الندوة
استعرضت الندوة نموذجين بارزين من مسيرة الحضارة الإسلامية، يمثلان تجسيدًا عمليًا للتكامل المعرفي:
- بيت الحكمة في بغداد خلال العصر العباسي تناول هذا المحور الأستاذ الدكتور عزيز البطيوي رئيس وحدة البحوث والدراسات بكلية الشريعة بجامعة قطر.
- إبداعات الحضارة الإسلامية في الأندلس وقدم هذا المحور الدكتور كمال أصلان أستاذ فلسفة الأخلاق والفكر الإسلامي
افتتحت الندوة بكلمة من رئيس قسم البحوث الإسلامية بإدارة البحوث، الشيخ مشاري علي النملان عبر فيها عن اعتزاز الإدارة بإطلاق هذه السلسلة المعرفية في موسمها الثاني. وأكد أن هذه الندوات تأتي في سياق إحياء النشاط العلمي الثقافي، وتسليط الضوء على موضوعات فكرية معاصرة، من خلال قراءة واعية لتجارب الأمة التاريخية.
وشدد على أن الحضارة الإسلامية قدمت أنموذجًا فريدًا في الرقي المعرفي والتكامل بين التخصصات، بفضل مؤسساتها الكبرى مثل بيت الحكمة ومدارس الأندلس، التي وفّرت بيئة علمية مزدهرة لتخريج العلماء والمفكرين.

من جهته، شدّد الدكتور بدران بن لحسن، ممثل مركز ابن خلدون، على أن موضوع الندوة يلامس جوهر المشروع الحضاري الإسلامي، والذي تميز منذ نشأته بقدرته على دمج العقل بالنقل، والوحي بالمعرفة الإنسانية.
ورأى أن بيت الحكمة ومؤسسات العلم في الأندلس ليست مجرد مراكز تعليمية، بل كانت بيئات حضارية مثمرة، أسهمت في تشكيل أنموذج للتكامل المعرفي والتفاعل الثقافي الهادف، داعيًا إلى استلهام هذه النماذج في مواجهة التحديات المعاصرة التي تعجز العلوم المنعزلة عن معالجتها بمفردها.
بيت الحكمة أنموذجًا
قدم الدكتور عزيز البطيوي، رئيس وحدة البحوث والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، ورقة بحثية موسعة حول بيت الحكمة، واقترح تناول التجربة من خلال ثلاثة محاور رئيسية:
- بيت الحكمة كدرس في سنن الاجتماع والعمران.
- مكانة بيت الحكمة ضمن منظومة التكامل المعرفي في الحضارة الإسلامية.
- إسهام بيت الحكمة في إثراء المشهد الثقافي والمعرفي.
واستهل مداخلته بـ أربعة مداخل تمهيدية:
- تاريخ العلم: حيث أكّد أن بيت الحكمة لم يكن مجرد مؤسسة علمية، بل كان البيئة الحاضنة لميلاد مفهوم “تاريخ العلم”، مشيرًا إلى أن ابن النديم، صاحب كتاب “الفهرست”، هو نتاج هذه البيئة العلمية المتقدمة.
- مأسسة العلم: اعتبر أن بيت الحكمة يمثّل أول مؤسسة أكاديمية ذات طابع عالمي، بل وتفوق في بعض النواحي على أكاديمية أفلاطون، لكونه ضم جماعات علمية متخصصة بقيادة رموز مثل الكندي، الخوارزمي، وحنين بن إسحاق.
- فلسفة الحضارة: أشار إلى أن ازدهار الحضارة الإسلامية كان مرهونًا بالتكامل بين العلوم، بينما كان الاحتراب بين التخصصات إيذانًا ببداية الانحدار.
- الوعي التاريخي النقدي: بيّن أن العودة لتجربة بيت الحكمة ليست لأغراض عاطفية أو فخرية، بل لاستلهام العبر وتوجيه المستقبل.
كما رفض الدكتور البطيوي القراءة “البطولية” للتاريخ، التي تنسب الفضل في تأسيس بيت الحكمة للخليفة المأمون وحده، مشيرًا إلى أن المؤسسة كانت ثمرة تراكمات حضارية سبقتها، مثل الفتوحات الإسلامية، وصناعة الورق، وجهود الخلفاء السابقين كأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد.
ثم تطرق الدكتور بطيوي إلى بنية بيت الحكمة في عهد المأمون والتي قامت على عناصر:
- التدريس العلمي الأكاديمي المنتظم.
- إعداد مصادر المعارف والعلوم.
- تهيئة بنية تحتية شاملة للتأليف والترجمة والمراجعة.
- تطوير مناهج دقيقة للترجمة ومراجعة النصوص.
- إطلاق مشاريع بحث علمي وتأليف موسوعي.
تجربة الحضارة الإسلامية في الأندلس
من جهته تناول الدكتور كمال أصلان، أستاذ فلسفة الأخلاق والفكر الإسلامي، في محوره الحديث عن “إبداعات الحضارة الإسلامية في الأندلس” وأوضح فيها أن الأندلس شكلت جسرًا حضاريًا بين الشرق والغرب، ومختبرًا معرفيا نابضا أبدع فيه المسلمون في مجالات الطب والفلك والرياضيات والهندسة والفنون، ولفت النظر إلى أن الحضارة الإسلامية في الأندلس مثلت واحدة من أزهى التجارب الإنسانية، حيث امتزج فيها الإبداع العلمي والفكري مع التنوع الثقافي والتسامح الديني لتشكل جسرا حضاريا بين الشرق والغرب
وأضاف أصلان أن الأندلس لم تكن مجرد حقبة تاريخية، بل مختبرًا حضاريًا نابضًا، أفرز منظومة متكاملة من القيم والإنجازات العلمية والفنية، وأسهمت في النهضة الأوروبية لاحقًا.
واستعرض الباحث مجموعة من المحاور، من أبرزها:
- الإبداعات العلمية: حيث برز أعلام مثل أبو القاسم الزهراوي، رائد الجراحة الحديثة، وابن زهر في علم الأمراض، وابن رشد في الفلسفة والطب، إلى جانب إسهامات عباس بن فرناس في الفلك، وابن الصفار في تطوير الأسطرلاب، وابن العوام في الزراعة.
- الإسهامات الأدبية والفنية: وظهر عبر مجموعة من الإبدعات الأدبية والفنية مثل شعر ابن زيدون وابن خفاجة، وتطور العمارة الإسلامية التي تجلت في جامع قرطبة وقصر الحمراء، كتحف خالدة تشهد على عبقرية العمران الأندلسي.
- حركة الترجمة والتأليف: لعبت الأندلس دورًا بارزًا في حركة الترجمة والتأليف، فانتقلت من خلالها علوم المسلمين إلى أوروبا عبر مراكز الترجمة في طليطلة وصقلية، وأسهمت مكتباتها الكبرى مثل مكتبة الحكم المستنصر بالله في قرطبة في حفظ التراث الإنساني وتطوير مناهج البحث العلمي.
- التفاعل الثقافي المتسامح: وجسد من خلال فكرة التعايش بين مختلف الديانات والطوائف، مما أفرز بيئة علمية منفتحة أثرت الفكر الأوروبي، وأسهمت في ظهور الفلسفة المدرسية والنهضة الحديثة.
ودعا الدكتور أصلان إلى دراسة تجربة الأندلس من أجل إعادة الثقة بقدرات الأمة الإسلامية، معتبرا أن سر ازدهارها لم يكن في عبقرية الأفراد وحدهم، بل في البيئة الحضارية التي احتضنت العلم والحرية ووفرت شروط الإبداع والتكامل بين المعارف، وشدد على أن مسؤولية الأجيال المعاصرة لا تكمن في الاكتفاء بالفخر بالماضي، وإنما في استلهام دروسه لبناء مستقبل يستند إلى العلم والأخلاق، ويجدد مكانة الأمة الإسلامية في الحضارة الإنسانية.