يعد موضوع التقليد في أمور الدين من القضايا الفقهية التي لاقت اهتماما عاليا لدى العلماء في القديم والحديث، وأثره في المجتمع والحركات الإسلامية المعاصرة ملموس بشكل صارخ، ووضع العلماء تعاريفه حسب توجهاتهم، فنرى ابن عبد البر ومن نحا نحوه يختارون أن يكون التقليد قبول قول الغير من دون مطالبة بحجة، وأبو المعالي الجويني يحرر المقصود بالتقليد أنه اتباع من لم يقم باتباعه حجة، وبين هذين التعريفين فرق واضح من حيث المحترزات، لكن يتفق القولان إلى حد معين على أن المقلد في غالب أمره يأخذ بالقول دون الاكتراث لدليله أو قائله، والتقليد بهذا الوصف نقل ابن عبد البر إجماع الفقهاء على فساده، وحكى نحوه ابن القيم وأضاف بأن المقلد ليس معدودا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله[1].

واتفق كلام الفقهاء على أن التقليد المحذور هنا تقليد العالم أو القادر على الاجتهاد لغيره، ويخرج من هذا المعنى تقليد العامي غير طالب العلم لمذهب أو مجتهد، وكذا اختار العلماء أن التقليد لا يعد منهاجا قويما للعلم وتحصيله، وأن العمل بمقتضاه دون الوقوف على دليل القائل أو منزلته ممنوع، وعلى حسب تعبير ابن القيم رحمه الله فإن المتعصب بالهوى والمقلد الأعمى يخرجان عن زمرة العلماء، ويكفينا في إبطال التقليد جملة ما استقر لدى فقهاء المذاهب من إبطال تقليد قولهم ومعارضته بما ثبت في النصوص الشرعية الصحيحة.

وإن التقليد في الدين من أشنع ما ابتليت به الأمة بعد انقراض القرون الفاضلة وتدوين فتاوى الفقهاء المجتهدين، وإنما أحدث التمذهب عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين[2]، وتواضع الناس دعوى لا اجتهاد بعد استقرار المذاهب وانقراض أئمتها، كأن عقول الناس محتجزة، والأحداث على أعقاب العصور ثابتة أبدا، فأي حادثة وقعت فكأنه يستحيل أن يلفى لها حكم خارج إطار المذهبية، فالخيار والخلاص للناس هو التقليد لا غير! وهذا تحكم بعينه!

وبالدخول في المائة الرابعة للهجرة النبوية مال العلماء إلى التقليد واتسم به مدارس العلم وحلقاته، وغلبت نسبة العلماء المقلدين على أهل الاجتهاد المطلق، وكلما تقدم زمن قلت نسبة المجتهدين، وتقلص عددهم، حتى صار الفقه في أقوال الفقهاء، وزهد في السنة النبوية والتفقه منها، ونشأت سدود بين الأمة ونصوص الشريعة، وأجهض الاجتهاد المطلق تماما في هذا القرن، وكان النووي يرجح انقطاع الاجتهاد المطلق دهرا قبل المائة الرابعة[3]، وحرمت مخالفة المذهب كما حكى القاضي عياض عن بعض المشايخ: “أن الإمام لمن التزم تقليد مذهبه كالنبي عليه السلام مع أمته، ولا يحل له مخالفته.[4]

وهذه الفتوى قصرت مهمة الفقيه والمتفقه على حفظ نصوص المذاهب وترديدها والاجتهاد في إطارها دون الخروج عنها، مما نشط كثرة التآليف ووضع الحواشي على كتب المذاهب.

ويبلغ عدد ما وضع في المذهب الواحد من الكتب كثرة، يضعف اجتهاد الطالب دون إدراكها، وهذا مما عقد مهمة التحصيل والتفقه، وهذه الظاهرة يصفها ابن خلدون في تاريخه حين قال: فإن ممّا أضرّ بالنّاس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التّآليف واختلاف الاصطلاحات في التّعاليم وتعدّد طرقها ثمّ مطالبة المتعلّم والتّلميذ باستحضار ذلك. وحينئذ يسلّم له منصب التّحصيل فيحتاج المتعلّم إلى حفظها كلّها أو أكثرها ومراعاة طرقها. ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرّد لها فيقع القصور ولا بدّ دون رتبة التّحصيل.

وجنت الأمة جراء هذا التقليد المستحكم أضرارا  متعددة أذكر بعضها:

تجميد الرصيد الفكري لدى الأمة وكوادرها: فإن الاجتهاد هو روح الأمة وقلبها النابض، إذ الحياة حولها لا تتوقف لحظة، وحين يغلق دون علمائها الاجتهاد فإن ذلك يجمد رصيد الأمة العلمي والفكري، وتنقطع صلة أبنائها بالتراث والتاريخ، وتتوقف نوالها، وتبقى تكرر الماضي دون مواكبة الحادث واستشراف المستقبل، وهذا يخالف مبدأ التجديد الذي تشوفت الشريعة إلى تحقيقه.

ضعف الملكة الفقهية وصناعة الفتوى: وبات التفقه حفظ نصوص المذاهب والفتوى بمقتضاها، وعدم الخروج عنها بحال، حتى انتشرت مقولة “إذا كان في المسألة قولان فلا تحدث ثالثا”، وتبنى البعض مقولة الإمام أحمد: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام، ولا يفرقون بين القضايا العقدية وغيرها، وبين الخلاف السائغ وغير السائغ، وبين ما وجد له نص من أقوال العلماء وما لم يوجد له نص. وهذا السقف الموضوع أخفى ظهور كفاءة العلماء المجتهدين في عصور لاحقة لوقت التدوين.

وتجذر هذا الضعف في المكنة الفقهية حين عوملت أقوال الفقهاء واجتهاداتهم مثل النصوص الشرعية التي هي أدلة الأحكام. يقول القرافي مثلا: الناظر في مذهبه والمخرج على أصول إمامه نسبته إلى مذهبه وإمامه كنسبة إمامه إلى صاحب الشرع في اتباع نصوصه والتخريج على مقاصده[5].

ضياع الثقة في العلماء : انتشر التقيد بالمذاهب الفقهية في المدن الكبرى، فكان كل مدينة تقلد إماما من الأئمة ولا يقبل الناس أن يستقل عالم أو مفت برأيه خارج عن مذهب أهل بلده، بل أغرب من ذلك أن العالم المجتهد يهاب مخالفة مذهب أهل مدينته، فهنا مثلا أحمد بن ميسَر – ابن الأغبش[6] – كان يقول في فتواه: إن الذي أذهب إليه كذا، وإن مذهب أهل بلدنا كذا[7]. وكان منذر بن سعيد البلوطي[8] قاضي القضاة بقرطبة أيام الحكم المستنصر ظاهري المذهب، وكان لا يقضي ولا يفتي إلا بمشهور مذهب مالك[9]. وكذا الطحاوي – العلامة – ذاكره أحدهم فأفتى بخلاف مذهب أبي حنيفة فاعترض عليه[10].

بل ظهر حيال ذلك أن أي مجتهد يتجرأ بالفتيا بخلاف مذهب أهل بلده ، يساء الظن به، ويحرض عليه الحكام والعامة حتى صار شرطا يؤخذ على قضاة قرطبة في الأندلس أن يتقيدوا بمذهب المالكية، ولا يخرجوا عنه، وسبب ذلك كله دعوى ضياع الورع والثقة في أهل الفتوى[11].

وهذه الحقائق المذكورة تتجلى أكثر في عصرنا فإن جميع الحركات الإسلامية بدون استثناء تنصب لنفسها مرشدا أو شيخا تتقيد برأيه ولا يخرج الأتباع عن فتواه قيد الأنملة، ويحتكر صاحب رأيهم الحق ويؤثره دون غيره، ويصنف الناس تحت مسميات متعددة حسب قبولهم للحق الذي يتزعمه ورفضهم، إما أن تكون معه أو ضده، وإذا حاول أحد أن ينبري برأي يخالف ما عليه ناله نصيب من الاتهامات والألقاب، وألب عليه عوام الناس الذين يباح في حقهم التقليد، فما أشبه الليلة بالبارحة! وكأننا نسينا أن الحق يعرف فيعرف أهله، وأنه لا يقاس الحق بالرجال.

 

 

 


 

[1]  إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/6).

[2]  القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد (45).

[3]  المجموع شرح المهذب (1/43)، وهنا كلامه: المفتي الذي ليس بمستقل ومن دهر طويل عدم المفتي المستقل وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة، ثم قال: وللمفتي المنتسب أربعة أحوال.. وذكر هذه الاحوال بالتفصيل.

[4]   ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/63). ويتبين أن القاضي عياض ناقل لهذا القول ولم يقره، ليس كما انتشر لدي المصنفين في هذا الموضوع، أن القاضي يقول: “إن لفظ الإمام يتنزل عند مقلده بمنزلة ألفاظ الشارع”، ويتبنى هذا المذهب، وإنما الصواب أنه أقر هذا النوع من التقليد في العامي أو طالب العلم المبتدئ، وحجته في طالب العلم أنه لو كلف بالاجتهاد على كل أمر يقع له يعسر ذلك عليه، لكن دعا بعدُ باستغنائه عن التقليد متى توفرت لديه آلية الاجتهاد.

[5]  الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق (2/107).

[6]  كان ميالا للنظر والحجة، توفي سنة 328 ثمان وعشرين وثلاثمائة. انظر: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/127).

[7]  الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/181).

[8]  كان فقيها محققا، وخطيبا بليغا مفوها، قاضي الجماعة بقرطبة، ينسب إلى قبيلة يقال لها: كزنة، وهو من موضع قريب من قرطبة، يقال له: فحص البلوط. سير أعلام النبلاء (16/173) .

[9]  الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/522).

[10]  جاء في لسان الميزان (1/280): قال ابن زولاق وسمعت أبا الحسن علي بن أبي جعفر الطحاوي يقول سمعت أبي يقول وذكر فضل أبي عبيد بن جرثومة وفقهه فقال كان يذاكرني بالمسائل فأجبته يوما في مسألة فقال لي ما هذا قول أبي حنيفة فقلت له أيها القاضي أو كل ما قاله أبو حنيفة أقول به فقال ما ظننتك إلا مقلدا فقلت له وهل يقلد إلا عصي فقال لي أو غبي قال فطارت هذه الكلمة بمصر حتى صارت مثلا وحفظها الناس.

[11]  الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (1/510)، (2/522)، الموافقات للشاطبي (5/101).