عرّف الفقهاء الفتوى بأنها “إخبارٌ وتبليغٌ” عن الله، ولكن هذا التعريف يثير عدة إشكالات خصوصا مع ما نشهده اليوم من التلاعب بالفتوى وتسخيرها لخدمة سياسات بعينها من قِبل بعض المفتين الذين يبلّغون عن السلطة السياسية، وفي ظل التنازع والسجال بين مدارس فقهية معينة حول مسائل محددة كلٌّ يدّعي أنه الحق ويريد أن يحمل الناس على رأيه وقد يتورط بعضهم في اتهام الآخر بأنه خالف “حكم الله”.

من بين الإشكالات التي يثيرها التعريف السابق للفتوى إشكالان رئيسان:

الأول: أن الأحكام منها ما هو ثابتٌ بالنصّ (منقول)، ومنها ما هو ثابتٌ بالاجتهاد (مُستَنبط من المنصوص)، بل إن أغلب الفتاوى إنما يقع من جهة الاجتهاد، والتبليغُ لا يكون إلا بالمنقول كما هو شأنُ الرسل -صلى الله عليهم وسلم- الذين يبلّغون الوحي.

الثاني: أن الأحكام المنقولة (التي ورد بها النص) لا تنفكّ عن النظر الاجتهادي؛ سواءٌ من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية وبناء الأحكام عليها، أم من جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الوقائع المحددة التي بان للمفتي أنها تشملها، فكيف يقال: إن الفتوى هي إخبار وتبليغٌ عن الله في هذه الحالة الأخيرة؟

الذي جرى عليه عملُ الفقهاء أن الأحكام الفقهية هي أحكام الله، سواءٌ ثبتت بالنصّ أم بالاجتهاد؛ بضوابطه المعروفة في علم أصول الفقه التي تتلخص في أن يَصدر من أهله في محله، وذلك أن (إنشاء) الأحكام إنما هو للشارع، والاجتهادُ أو القياسُ إنما هو (مُظهِرٌ) للحكم الثابت أصلاً، وإن كانوا يفرّقون بين الأحكام من حيث مصدرُ ثبوتها ودرجةُ الثبوت هل هي قطعية أو ظنية.

ولكن الفقهاء حين يقولون هي “أحكام الله” يَعنون أمرين: (1) أنها أحكامٌ ترجع إلى الشرع، أي أنها أحكامٌ دينية يترتب عليها الثواب والإثم بناء على عدة اعتبارات ترجع إلى النصوص والقواعد، (2) وأنها ثابتةٌ بالنص في المنصوص (ما ورد به النص)، وثابتة في الجملة في غير المنصوص (المستَنبط)؛ لأن “حكم الله على كل أحد هو ما أدى إليه اجتهاده”، وأنه “إذا غلب على ظنه شيءٌ فهو حكم الله في حقه وحق من قلّده”. فـ “وجوب اعتقاد أن هذا حكمُ الله أو الفتوى به أو القضاء: غيرُ نفس الحكم بأن هذا حلالٌ أو حرامٌ أو صحيحٌ أو فاسدٌ؛ لاختلاف المتعلَّقات فيها”.

وبيان الأمر أن المسألة مبنية على أربعة أمور: الأول: أن التشريع هو لله وحده دون غيره من البشر، والثاني: أن لله حكمًا في كل واقعة من وقائع الحياة، وهو ما سلّم به عامة الفقهاء والعلماء؛ لأنهم رأوا أنه لا تخلو واقعةٌ عن حكم لله فيها؛ وهو مسلك أشعريّ قائمٌ على مبدأ التحسين والتقبيح الشرعيين، أي أن العقل لا يستقل بمعرفة الحسن والقبيح ما لم يَرد شرعٌ يوضح ذلك. والثالث: أن الاجتهاد الشرعي الذي يقوم به الفقيه هو إظهار حكم الله والبحث عنه حتى يصل إليه (في ظنه الراجح)، ولذلك حينما عرّفوا الاجتهاد قالوا: هو استفراغ الوُسع أو بذل غاية الجهد، وأنه لا يُعتبر اجتهادًا (شرعيًّا) إلا إذا صدر من أهله وفي محله، أي صدر عن مؤهَّل له ووقع في المسائل التي يجوز فيها الاجتهاد. والأمر الرابع: وجوب العمل بما غلب على الظن في المسائل العملية/الفقه، وأنه حكم الله العامّ الثابت في حق المجتهدين ومقلديهم.

وبناء على هذه الأمور تَرَتب نسبةُ كل حكم شرعي إلى الله بهذا المعنى؛ لأنه لا يُشترط في كل مسألة القطع (اليقين) فيها حتى يجب العمل، فالمسائل العملية تتكرر في الشؤون الفردية واليومية واشتراط القطع في كل شأن عملي من شأنه أن يعطل العمل من حيث المبدأ أو أن يتصرف الناس على وفق أهوائهم من دون محاكمة وتعليل واهتداء بالوحي، ولذلك وجب العمل بما غلب على الظن صحتُه، وقال الفقهاء: إن هذا الأصل مقطوعٌ به في القرآن والحديث كالعمل بخبر الواحد والحكم بشهادة الشاهدَين، والصوم بناء على رؤية الواحد للهلال، وغير ذلك.

نعم ذهب بعض الفقهاء إلى أن الفقيه المجتهد (يُنشئ) الأحكام بحسب نظره واجتهاده، أو بحسب اجتهاده في فهم النصوص وتنزيل الأحكام على الوقائع وأفعال المكلفين، فهو من هذه الوجوه شارعٌ أيضًا، أي أنه يُخبر الناس بالفتيا عن حكم الله الذي فَهِمه عن الله عز وجل بمقتضى الدليل الراجح عنده من أدلة الشريعة، والمسألة بهذه الصورة لفظية؛ لأن الفقيه لا يستطيع أن يزعم لنفسه المرجعية الذاتية أو التشريع برأيه هو مجردًا عن الاستدلال المنهجي الذي ينتمي إلى تقاليد علمية محددة (Tradition).

وبين مجرد (الكشف والإخبار)، وبين كون الفقيه (شارعًا) من وجه دون وجه، تدور المسألة على أسس منهجية لا بد من فهمها بشكل متكامل حتى ندرك تصورات الفقهاء ومَبنى مسائلهم وحِجاجهم، وهي -كما وضح الآن- تجمع بين مسائل كلامية وأصولية وفقهية من جهة، وتعيد المسألة إلى (اختيار) المكلف/المقلد من جهة أخرى؛ لأن سلطة الفتوى ليست مُلزِمة إلا لمن اعتقد بها أو اختار تقليد هذا المفتي أو ذاك، وبهذا افترقت عن سلطة القضاء التي لها سلطة إلزام قهري (صارت تسمى قانونًا اليوم). أي أن العمل على وفق قناعة الفرد هو عملٌ مُلزِمٌ شرعًا، لأن تصرف الإنسان الحر باختياره على خلاف قناعته عملٌ غير أخلاقي؛ لأنه تصرفٌ على وفق الهوى ما دام لا يملك تعليلاً لفعله بل بالعكس يملك تعليلاً على خلاف فعله هو، فوقع في لون من النفاق؛ لأن باطنه لم يتوافق مع ظاهره، أو وقع في الخطأ على أقل تقدير ويعلم أنه أخطأ لأن قناعته على خلاف فعله، هنا يدخل الضمير الأخلاقي.

وهذا الإيضاح والبيان الذي ربما يلتبس في كتب الأصول والفقه على غير المختصين يوضح كيف أن علماء المسلمين حلّوا مأزق الوحدة والتعدد، بمعنى: كيف يكون لله حكمٌ في كل واقعة، وتتعدد الفتاوى وتختلف في الواقعة الواحدة؟ أفيكون لله أكثر من حكم في الواقعة نفسها؟ فالجواب بناء على ما سبق هو ما توصل إليه لاحقًا الفيلسوف الألماني كانط، حينما فرّق بين الشيء في ذاته والشيء في ظاهره، فالفقهاء حين ميزوا بين المنصوص وغير المنصوص، والنص والاجتهاد، والقطعي والظني، كانوا على وعي تام بالفارق بين إدراك حكم الله في ذاته وهو الهدف المقصود، وبين السعي إلى اكتشاف هذا الحكم والعمل وَفقه، فإذا كان الأول متعسّرًا فإن التكليف يقع تحت الثاني الذي هو في مقدور الإنسان، وهو ما يضفي على “حكم الله” نوعًا من الغموض الإيجابي.

فالمسألة عند الفقهاء السابقين تدور على أركان: العلم والمعرفة، بذل الجهد واستفراغ الوسع من المجتهد، أخلاقية المفتي نفسه لأنهم حذروا من المفتي الماجن، واختيار المقلد لمن يقلده في فتواه، وفي النهاية فإن الواجب على الفقيه أن يعمل بما أداه إليه اجتهاده هو بعد استفراغ الوسع، والواجب على المقلد أن يقلد في عمله من تطمئن إليه نفسه ومن يختاره هو إذ يجده أقرب إلى الصواب أو الديانة. وهذا عملٌ أخلاقيٌّ بامتياز تتحقق فيه أركان أساسية في النظرية الأخلاقية، ويتسع لمختلف الآراء التي ستتعدد بحسب اجتهادات المجتهدين المختلفين، وكلهم سيعمل بما أداه إليه اجتهاده لأنه الواجبُ عليه دون غيره من المجتهدين، ما دام الأمر يدور على مسائل خارج دائرة القضاء وحقوق الناس التي صار يتكفل بها القانون اليوم.

مشكلة الجماعات الإسلامية ومن ينتقدون الفقهاء اليوم من دون الوقوف على مسائل العلم من مصادرها أنهم يُغفلون هذه الفلسفة التي تستوعب مسألتين رئيستين: الأولى: الحرية الواسعة التي يتمتع بها الأفراد في المسائل الفردية (وهو صلب موضوع الفتوى)، والثانية: أنها تحل مأزق الحق الواحد والمتعدد في المسائل العملية، ومن ثم اتسع الاجتهاد، ما دام صادرًا من أهله وفي محله أي على أسس منهجية وعلمية.