أوْلَى علماء المسلمين عناية كبيرة لظاهرة التكرار في القرآن الكريم، ويبدو أن مواقفهم كانت متباينة من هذه الظاهرة القرآنية، فكان هنا فريق يقول بوجود التكرار في القرآن الكريم للتأكيد، وفريق آخر يرى أن التكرار في القرآن الكريم لا يأتي للتأكيد دون فائدة جديدة وحجة وبيان، ومن هؤلاء تاج القراء محمود بن حمزة الكرماني (توفي نحو 505 هـ) الذي ألف كتاباً تحت عنوان: (البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحُجة والبيان)، وتحدث فيه عن “الآيات المتشابهات التي تكرَّرت في القرآن وألفاظها متَّفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان أو تقديم أو إبدال”[1].
ولعل من أبزر العلماء الذين جاؤوا بعد الكرماني واهتموا بظاهرة التكرار في القرآن الكريم وتوصّلوا إلى أن القرآن الكريم لا توجد فيه لفظة زائدة لا تفيد معنى “شيخ الإسلام وعلامة الأنام الحبر البحر في علوم العقل والنقل” أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت: 728 هـ)، الذي ألف رسائل وكتباً عديدة في القرآن الكريم وعلومه وتفسيره، وكان مشهوراً في الأوساط العلمية بترجيحاته الجميلة، وكانت له مدرسة خاصة في التفسير؛ أوضح معالمها في كتابه المشهور (مقدمة في أصول التفسير).
وقد دفع هذا التميز في التفسير والترجيح البعضَ إلى اعتبار ابن تيمية فارس التفسير في عصره، حيث شهد له الكثير من العلماء بالتميز والفطنة والدقة في تفسير القرآن الكريم وعلومه، فقال فيه الشيخ علم الدين البزرالي (ت: 738 هـ): “وكان إذا ذكر التفسير أبهت الناس من كثرة محفوظه، وحسن إيراده، وإعطائه كل ما يستحقه من الترجيح والتصنيف والإبداع”، فيما قال عنه ابن رجب (ت: 795 هـ): “برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه، بطبعٍ سيَّال، وخاطرٍ إلى مواقع الإِشكال ميّال، واستنبط منه أشياء لم يُسبق إليها”.
ولا جدال في أن مؤلفات ابن تيمية -رحمه الله تعالى- تنطق بجهوده الجبارة في المجالات العلمية المختلفة، ومنها تفسير القرآن الكريم وعلومه، وقد وردت في كتاب (أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية) عناوين عدة رسائل لابن تيمية حول القرآن الكريم، والظاهر أن بعض رسائل ابن تيمية أحياناً تركز على آية قرآنية واحدة، مثل: “رسالة في تفسير قوله تعالى: {وَأَقِم الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}”، و”رسالة في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ}”. كما يبدو أن أحجام رسائل ابن تيمية تختلف من رسالة إلى أخرى، فأحياناً تكون (70 ورقة)، وأحياناً (20 ورقة)، وأحياناً (خمس ورقات)، وهناك رسائل أخرى لابن تيمية تهتم بآيات قرآنية عديدة، مثل (رسالة في علوم القرآن) التي تتحدث عن التكرار في القرآن الكريم، ولذلك فهي موضوع هذه المقالة.
أهمية رسالة التكرار في القرآن الكريم
تعتبر (رسالة في علوم القرآن) من أهم رسائل ابن تيمية النفيسة، فهي رسالة خفيفة تسعى إلى التأكيد على أن ليس في القرآن لفظة زائدة لا تفيد معنى أو لمجرد التأكيد المحض دون فائدة جديدة، ويبدو أن هذه الرسالة كانت مخطوطة فانبرَى لها الشيخ علي بن أحمد الكندي المرر وقام بتحقيقها معتمداً على نسختَيْن خطّيتَيْن[2]، فصدرت عن مؤسسة بينونة عام 2008.
والحق أن هذه الرسالة النفيسة مهمة في بابها، ويحتاج إليها المشتغلون بدراسة القرآن الكريم، ولذا فهي جديرة بالاهتمام والدراسة والتمحيص، خصوصاً أنها تعكس رؤية ابن تيمية بخصوص ظاهرة التكرار في القرآن الكريم، التي تعتبر من أهم الظواهر القرآنية المهمة التي شغلتْ بالَ العلماء والباحثين في حقل الدراسات القرآنية قديماً وحديثاً.
إن (رسالة في علوم القرآن) عبارة عن دراسة تطبيقية على مجموعة من الآيات القرآنية التي يرى بعض العلماء أنها تتضمن تكراراً للتأكيد، وقد استطاع ابن تيمية من خلال هذه الرسالة أن يؤكد خلوَّ لغة القرآن الكريم من التكرار للتأكيد المحض دون فائدة جديدة، حيث صرّح في ديباجة رسالته بأن “ليس في القرآن لفظة واحدة زائدة لا تفيد معنى، ولا كلمة قد فُهم معناها {مما} قبلها فأُعيدت لا لمعنى، أو لمجرد التأكيد المحض دون فائدة جديدة، وهذا في اللفظ المستقل بنفسه بخلاف الحروف التي لا تستقلّ كالباء واللام”[3].
وقد قام ابن تيمية، من خلال هذه الرسالة، بتطبيق منهجه في التفسير والترجيح على حوالي 28 آية قرآنية من سور مختلفة، لينفي وجود أي لفظة واحدة زائدة لا تفيد معنى في القرآن الكريم، فكان يذكر الآية القرآنية، ثم يشير إلى نوع التكرار الذي قال البعض به، ثم يقوم بنفي وجود أي تكرار بدون فائدة، مقدماً الأدلة اللغوية والمنطقية على رأيه في كل آية قرآنية، وقد كان ابن تيمية حريصاً على أن يقول دائماً بعد عرضه لبعض أقوال المفسرين في الآية: “والأحسن من هذا أن يُقال (كذا)”.
أنواع التكرار في القرآن الكريم
قبل الدخول في خضم الآيات القرآنية التي توقف معها ابن تيمية في رسالته النفيسة، قد يكون من المهم التذكير بأن التكرار في القرآن الكريم ينقسم إلى نوعين: النوع الأول التكرار في اللفظ والمعنى، مثل قوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ** ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}، (القيامة: 34-35)، وقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ** وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، (الفجر: 21-22)، أما النوع الثاني فهو التكرار في المعنى دون اللفظ، مثل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}، (الحشر: 24)، وقوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وقد أورد ابن تيمية في رسالته هذه آيات قرآنية تعكس هذيْن النوعيْن من التكرار، سنشير إلى بعضها في السطور الآتية:
أولا: التكرار في اللفظ والمعنى
في سياق التكرار في اللفظ والمعنى، توقف ابن تيمية مع قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ** وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، (الفجر: 21-22)، فقام بتفنيد رأي الطائفة التي ترى أن هذا التكرار جاء للتأكيد، وقال إن المراد هنا هو “الدَّكُّ المتتابع، أي: دكَّا بعد دكٍّ”، مؤكداً أن الحكم نفسه ينطبق على قوله تعالى: {صَفًّا صَفًّا}، فالمراد هنا صفاً بعد صفٍّ.
أما التكرار المشار إليه في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} من طرف بعض المفسرين، فقد ذهب ابن تيمية إلى أنه “ليس من التكرار في شيء، فإن إضافة الزلزال يفيد معنىً زائداً، وهو زلزالها المختص بها المعروف منها المتوقع منها، كما تقول: غضب زيدٌ غضبه، وقاتل قتاله، أي: غضبه الذي يعهد منه، وقتاله المختص به الذي يعرف منه، ومنه أبو أبو نجم، وشعري وشعري”[4].
ويتعلق المثال الثالث على التكرار في اللفظ والمعنى بقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، وقد قال ابن تيمية إنه ليس من التكرار، نظراً لاختلاف مقصود الفعليْن، فـ “الأول منهما دعاء يراد به الإنشاء، والثاني خبر: أي تبت يدا أبي لهب وقد تبّ”، أما قوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ** ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}، فذكر ابن تيمية أيضاً أنه ليس من باب التكرار، بل هو وعيدٌ ودعاءٌ: يعني قرب منك ما يهلك قرباً بعد قرب[5].
ثانيا: التكرار في المعنى دون اللفظ
في سياق التكرار في المعنى دون اللفظ، استعرض ابن تيمية بعض الآيات القرآنية التي تشير إلى وجود هذا النوع في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، حيث قام ابن تيمية بنفي وجود التكرار في هذه الآية، وقال إنها تتضمن جملتيْن مفيدتيْن معنييْن، الأول: أن الله سبحانه وتعالى إذا أمر الملائكة بالأمر لا يعصونه في أمره، والثاني: أنهم لا يفعلون شيئاً من عند أنفسهم، بل أفعالهم ائتمار وطاعة لأمر ربهم[6].
أما بخصوص التكرار الذي يرى البعض أنه موجود في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}، فقال ابن تيمية إنه ليس بتكرار، بل هي معان مغايرة بينها قدر مشترك، وبيانه أن الإيجاد يتعلق بالمادة وبالصورة وبمجموعهما، ولهذا فإن البارئ للمادة، والمصور للصور، والخالق لهما جميعاً[7]، وبالتالي لا يوجد أي تكرار.
فوائد التكرار في القرآن الكريم
وهكذا يبدو أن التكرار في القرآن الكريم لا يأتي إلا لتقديم فائدة جديدة وحجة وبيان، لذلك يمكن القول إن من فوائد التكرار في القرآن الكريم أنه يأتي للتذكير، والرفع من قيمة الشيء، وتنبيه الغافل، وإزالة التوهم، وتعديد الآلاء والنعم، وقد ذكر ابن تيمية في رسالته بعض الآيات القرآنية التي تعكس جانباً من فوائد التكرار في القرآن الكريم.
ولعل من أبرز الآيات الدالة على أن التكرار قد يأتي لإزالة التوهم والغموض، قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}، (الأنعام: 38)، وقد توقف ابن تيمية مع هذه الآية ونفى أن تكون {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} زائدة في هذه الآية، بل ذهب إلى أن هذه الآية فيها “فائدة زائدة، وهي أن الطيران يستعمل في الخفة وشدة الإسراع في الشيء”، واستدل على ذلك بأشعار العرب.
ومن هنا، أوضح ابن تيمية أن الآية لو اقتصرت على: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ} “لكان ظاهر العطف يوهم ولا طائر في الأرض، لأن العطف المعطوف عليه إذا قيد بظرفٍ أو حال تقيد به المعطوف، فكان ذلك يوهم اختصاصه بطير الأرض الذي لا يطير بجناحيه، كالدجاج والأوزِ والبط ونحوها”[8]، ولذلك كان من اللازم وجود قوله {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} لإزالة التوهم، فبدون هذا القول سيكون هناك توهم جليّ في الآية.
ولا تقتصر فوائد التكرار في القرآن الكريم على ما سبق ذكره، بل هناك أيضاً آيات قرآنية تشير إلى أن التكرار يأتي لتعديد الآلاء والنعم الإلهية الجليلة التي لا تُحصى، ومن تلك الآيات قول الله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، حيث ذهب ابن تيمية إلى أن هذه الآية “تعديد ذلك في مقابلة تعديد الآلاء”[9]، وقارئ القرآن الكريم يلاحظ أن {فَبِأَيِّ آلَاءِ} وردت مرات عديدة.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن تكرار (أنَّكم) أو (أنَّ) في بعض الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}، (المؤمنون: 35)، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}، (التوبة: 63)، جاء لكي لا يطول الفصل بين أنَّ واسمها وخبرها، لكن يبدو أن ابن تيمية لم يُعجبه هذا الرأي كثيراً، فعلق قائلاً: وأحسن من هذا أن يُقال: إن كل واحد من هاتين الجملتين جملة شرطية مركبة من جملتين خبريتين، فأكدت الجملة الشرطية، ثم أكدت الجملة الجزائية[10].
ويبدو أن هناك نوعاً من التكرار في القرآن الكريم من الصعب الكشف عن المغزى منه بدقة، ولذلك ذكر ابن تيمية في ختام رسالته النفسية أن قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}، (الروم: 49)، من الآيات القرآنية التي أشْكل على الناس فهمها، وقد كشف ابن تيمية عن بطلان أقوال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية من وجهة نظره، مثل الزمخشري الذي قال إنها من باب التكرار والتأكيد، في حين ذهب ابن تيمية إلى عكس ذلك، فقال إنه “ليس من التكرار بل تحته معنى دقيق، والمعنى فيه: وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم الودق من قبل هذا النزول لمبلسين”[11].
[1] محمود بن حمزة الكرماني، أسرار التكرار في القرآن المسمى البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، 63.
[2] انظر، ابن تيمية، رسالة في علوم القرآن، تحقيق: علي بن أحمد الكندي المرر، 8.
[3] ابن تيمية، المصدر نفسه، 17.
[4] المصدر نفسه، 30.
[5] المصدر نفسه، 45.
[6] المصدر نفسه، 30.
[7] المصدر نفسه، 37.
[8] المصدر نفسه، 24.
[9] المصدر نفسه، 45.
[10] انظر، المصدر نفسه، 40-41.
[11] المصدر نفسه، 44.