جدلية البداوة والتحضر قائمة ما وجد بشر،وذلك لأن الحاضرة هي من صنع الإنسان بامتياز ،كما أن المدينة تمثل أرقى ما توصلت إليه الأمم وبها تمايزت وتفاخرت وتطورت.
وحينما نريد أن نخطط لمدينة ما فينبغي علينا أن نأخذ في الاعتبار كل المقومات الحضارية والتراثية والثقافية للبلد الذي يحتضننا شئنا أم أبينا ،وذلك لما للوجود الحضري من ارتباط عضوي بالواقع البدوي ،وكيف لا وهو الأصل والمنبع والممد والمفيض على المدينة بمواده الخامة ومنتجاته الفلاحية والزراعية والحيوانية…
وبينما ينتقل البدوي من عالم الفلح والزرع إلى عالم التنوع والتشكل والكماليات يحدث حينذاك بالتوازي تطور في البناء والتمركز ووضع اللبنات للعمران الكفيل باستيعاب الروافد والمتنقلات والثقافات والعادات المختلفة لكي تستوطن جنبا إلى جنب في دائرة موسعة ومحصنة ومقننة تسمى المدينة.
ومن الأمور التي أهملناها في دراساتنا وبحوثنا ،ووليناها ظهورنا ،هو مسألة المدينة في التاريخ الإسلامي والمعايير التي كانت تعتمد لجعلها مقرا حضريا بامتياز ومهيأ تهييئا هندسيا واجتماعيا واقتصاديا ،هذا مع مراعاة الحالة البيئية للمدينة والمخطط الشامل والكفيل بضمان الحياة السعيدة والرغيدة والآمنة مع أنها صحية بامتياز.
يقول الكاتب الفرنسي موريس لومبار في كتابه “الإسلام في عظمته الأولى” واصفا الواقع المديني في العالم الإسلامي وخاصة في العصر العباسي:”ماذا نقول عن بغداد ،التي خلال عدد أقل من السنين من 762 إلى 800 انتقل عدد سكانها من بضع مئات…إلى ما يقارب 2مليون نسمة؟إلى جانب هذه التجمعات المدينية التي احتفظ معظمها بدوره كمدن كبيرة حتى عصرنا هذا،ثمة مراكز مدينية دب فيها النشاط من جديد وبلغ اتساعها وسكانها وتأثيرها أبعادا لم تكن معروفة حتى ذلك الحين…”ص110.
هذا التحول الهائل وبالرغم من الإمكانيات التقليدية التي كانت سائدة آنذاك جعلت من هذه المدينة مستقرا ومعاشا وتنوعا ثقافيا وعلميا وتجاريا وفلاحيا لا نظير له في التاريخ .وفي نفس الوقت كانت مدينة صحية يطيب فيها الماء والهواء ويقل الوباء والطاعون وما إلى ذلك مما كان يجتاح غيرها من المدن.
وكما هو مشهور عن ابن خلدون، باعتباره فيلسوفا وراصدا عمرانيا، بامتياز أنه أول من أسس علم الاجتماع بمفهومه العلمي واهتم بالعمران البشري وما يتسلل عنه من مظاهر وقوانين وأعراف وعادات ،في حين كان التركيز على نظرياته وآرائه حول الدولة وجدلية البداوة والحضر ،ولكن لم ينتبه الكثير إلى بعض الإلماحات الصحية والبيئية في تصوره للمدينة وكيفية الحفاظ على سلامتها ،باعتبارها عنصرا مهما جدا في دعم التنمية وتحصيل الاستقرار لدى المجتمع والدولة معا.
الأبعاد النفسية والصحية
تحدث ابن خلدون في الفصل الخمسين من المقدمة – كتاب مقدمة ابن خلدون – عن مسألة جد مهمة وخطيرة ألا وهي حصول المجاعات بالمدينة ووقوع الوفيات أكثر مما عليه الحال في البوادي.
إذ المجاعات تكون بسبب الاضطراب والتوقف عن الإنتاج الزراعي وهذا معقول وبسيط ،كما يكون سببها الاحتكار عند العوام ،باستثناء احتكار الدولة للحبوب ،فيرى أنه إيجابي في حالة اهتزاز الاستقرار لأنها تكون الضامنة للتوزيع العادل للمؤونة بين السكان؟
أما الوفيات فهي إما من جهة المجاعة وإما من جهة الأمراض المترتبة عنها .فالأولى فلاحية والثانية صحية .وهذه الأخيرة قد تؤثر على الأولى وتلغي دورها ،باعتبار العنصر البيئي والصحي أخطر من الاحتكار.
يقول ابن خلدون:”وأما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرنا،أو كثرة الفتن لاختلال الدولة فيكثر الهرج والقتل، أو وقوع الوباء.وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة ،وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني ملابسه دائما فيسري الفساد إلى مزاجه، فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرئة. وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة.وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف ،فتكثر الحميات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك…”.
فلقد وضع ابن خلدون هنا أصبعه على أهم عنصر مؤسس للمدينة، قبل أشكال المباني وقبل التخطيط لفرص العمل وتنشيط العمل السياحي وتشييد المؤسسات العامة والحكومية.كما أنه وبكل وضوح يشير إلى مرض السل أو الدرن ومعه الربو وما يليه ،الذي يجتاح كثيرا من المدن غير مهيئة بيئيا ولا تتمتع بالقدر الكافي من الأكسجين النقي ومعه أشعة الشمس ،وذلك حينما ركز على مرض معين هو أصل الأمراض البيئية ألا وهو مرض الرئة ،أي غياب التنفس السليم الذي سيؤثر لا محالة على صحة المواطن الجسمية وصحته النفسية معا ،لأنه بقدر ما ضاق التنفس ضاقت معه النفس والتفكير وساء الخلق وبدت مظاهر الاضطراب العصبي والهذيان وما إلى ذلك.كما تقول القاعدة الطبية:”الهواء النقي ينعش ويجدد العقل”l’air frais rafraîchit l’esprit.
لكن ابن خلدون لم يتوقف عند هذا الكشف الدقيق عن أمراض العمران البيئية وإنما سيذهب إلى اقتراح التهيئة الحضرية من الناحية الهندسية مع مراعاة الفضاء البيئي الكفيل بتزويد المدينة بنسبة كافية من الأكسجين مع ترك ممرات للهواء والشمس لكي تنعش المدينة وأهلها.
وهذا ما لاحظه على أهل فاس القديمة من حيث ميلهم إلى الغم والقلق على الرزق وما إلى ذلك. والسبب في هذا هو ضعف التهوية وغياب الشمس كليا عن تلك المباني القديمة،باستثناء بعضها ذات الطابع الأندلسي، التي تكاد تشبه القبور بسبب الظلام الدامس داخلها والبرودة الرطبة كما وصفها ابن خلدون.
ولتفادي هذا الوباء يقول ابن خلدون:”ولهذا تبين في موضعه من الحكمة أن تخلل الخلاء والقفر بين العمرانضروري، ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات ويأتي بالهواء الصحيح.ولهذا أيضا فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير،كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب…”.