نسمع قول الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89] وهي آية غاية فى تمام المعنى بأن القرآن مصدر متكامل لمن أراد الهداية والرشاد الكاملين فى حياته، وهو الفصل وليس بالهزل، وفيه أخبار ما سبق وحكم ما بين العباد إلى يوم القيامة.
ويجب على قارئ القرآن أن يتعامل معه بهدوء وبلا تعسف أو تنطع حتى يجد المتعة واللذة فى قراءته، وأن نأخذه كما أخذه الصحابة، وأنا على يقين أننا كلما ازدادت صلتنا بكتاب الله ودوام القراءة له ومحاولة الفهم المتدرج البسيط والمستمر سنشعر بمتعة وفهم وإدراك لمضمون الآيات بما لم نتوقعه من قبل، ومحاولة الربط بين الآيات والواقع المعيش، ونجد أنفسنا نقارن بين الأحداث والأشخاص والأمم السابقة وبين ما يدور فى حياتنا المعاصرة، ونجد التشابه بين أصناف البشر سواء فى المزايا أو العيوب، ومصائر الأمم فيما سبق ومصائر الأمم الحالية بما يتوافق مع نفس المقدمات والنتائج.
أكره من يتعامل مع القرآن أحيانا بمنهج علمي بحت ودراسة جافة للآيات، ولكني أعشق من يتناول القرآن كحليب يمتصه ببطء، فيجد الري فى جسده شيئا فشيئا ويتمتع به، ولا يمل من تلاوته أو سماعه، فهناك من يفقد القدرة على التركيز أثناء القراءة أو الذهول عنه عند الاستماع، وهذا التيه وهذه الحيرة تكون من أشخاص لم يعرفوا مضمون الآيات وأسباب نزولها فيشعرون بالغموض فى القرآن أثناء تلاوته أو استماعه.
ولكن لا بد أن يقوم الإنسان الراغب فى التعايش مع كتاب الله بصدق بالتهيئة المناسبة لنفسه قبل القراءة وأثنائها وبعدها.
أولا: نعلم أن من يتناول طعاما وهو مشغول البال والخاطر بالكثير من الأعباء والمشاغل والهموم لا ينال اللذة من هذا الطعام، فيبدأ وينهى أكله وهو لا يدري ماذا أكل، وكم تناول منه مهما كانت لذته وروعته إلا أن الانشغال بأكثر من مؤثر يمنع القدرة على التركيز فيما أمامك ويشتت الذهن عنه.
بصدق يجب عليك أن تهيىء نفسك قبل البدء فى القراءة بأن لا تشغل بالك بشىء فأنت أمام أهم مصدر ومرجع فى حياتك، وهو الرزق الحقيقى لك ومصدر الرخاء والاستقرار النفسي والذهني والاقتصادي والاجتماعي لك.
إذا كانت أعباؤك كثيرة ووقتك ضيق وكنت صادقا مخلصا مع نفسك ومع الله تعالى سوف توفر لنفسك وتوفر الوقت والكيفية بأى وسيلة، وسوف تتغلب على معاناتك ومشاغلك، وإذا وجد الله منك الصدق سوف تجد البركة فى الوقت والفهم والحفظ والقدرة على الاستيعاب والتنفيذ لما تقرأه، وسوف تمر السنوات وتتعجب من مهارة قد وهبها الله لك وكفاءة لم تتوقعها، ولكنه فضل الله لمن يصدق معه فى القول والفعل.
ثانيا: حاول أن تقرأ فى بداية الأمر لمجرد القراءة وبدون رغبة إلا فى التعود على كتابك المقدس والألفة مع الكلمات والصفحات، ولا تحمل نفسك أكثر من قدرتها أول الأمر، وبمرور الوقت ستجد أن عينك وذهنك قد تعود على الكثير من المواضع، ثم حاول بعدها أن تفهم معانى الكلمات وبعدها أسباب نزول الآيات وقصص القرآن والأحكام بما يستطيع ذهنك وعقلك وقدراتك التى تختلف من شخص لآخر.
ثالثا: التهيئة قد تكون بعدم الجوع الشديد أو العطش أو الرغبة فى دخول الخلاء أو توفير مكان هادئ بعيدا عن الضجيج والضوضاء والمؤثرات الخارجية، وفي مكان منفصل عن بقية المنزل لا يزعجك الأبناء أو الأم وأصوات أجهزة المطبخ أو صراخ الأبناء، وبالطبع هم يعلمون أنك تقرأ القرآن فتكون القدوة لهم، وهم يشعرون أنك عندما ترغب في القراءة تحاول الاستعداد لهذا التلقي، بهدوء وعدم الإزعاج وتأجيل حوارهم معي إلا بعد هذا اللقاء مع الله تعالى، فيحدث لهم هذا الأثر وتلك المشاعر أن أباهم يجلس مع الله فلا تزعجوه ويريد التركيز والهدوء ليفهم ما يقرأ، وأن هذه التلاوة هي سبب البركة والرزق والهدوء والسكينة فى البيت.
قد يروقني أحيانا أن يسمع أبنائي صوتي أثناء القراءة وأن تصل إليهم بعض الكلمات والآيات ليعتادوا عليها معي.
رابعا: هناك أمر آخر لا يتم التعامل مع كتاب الله إلا به، وهو التهيئة النفسية لك أثناء التلاوة بالفهم للسور والآيات وأن تستعد عند البدء فى سور محددة لتلقي هذه السورة بانطباع معين وفهم خاص وفقا لمواضيع السورة ومناسباتها، فهناك فرق بين تلاوتك لآيات تتحدث عن الجنة والنار والعذاب والنعيم، وبين آيات تتحدث عن الفترة المكية وثبات المسلمين، والعقيدة الصحيحة وعدم التنازل عن ثوابت الدين إلا في الخوف المحقق فلك الحق فى التقية وفقا لقدراتك الشخصية.
خامسا: أن تتغير طريقة استيعابك للآيات والانتباه لها وفقا لما تدور حوله، وأقصد أنك عندما تقرأ فى سورة الأنفال تعرف أنها نزلت في بداية العهد المكي، فتؤهل نفسك أنها بداية زمن دولة وحكم وليس زمن اختفاء وسرية فى الدعوة، وسوف تتحدث عن المعركة الأولى بين المسلمين والكفار في غزوة بدر.
وعندما تقرأ سورة آل عمران تؤهل نفسك أنها المرحلة التالية من عهد المسلمين فى المدينة وغزوة ” أحد ” وهزيمة المسلمين، لعدم التزامهم بأوامر الرسول ﷺ، وأن نصر الله الذي تم فى غزوة بدر لن يستمر بشكل دائم طالما لم تتخذوا التدابير الصحيحة لذلك.
وسورة ” الأحزاب ” والتجمع الكبير لمواجهة المسلمين ومحاولة القضاء التام عليهم وخداع اليهود للمسلمين ثم نصر الله لهم، وعندما تقرأ سورة ” الحشر ” تعرف أنها تدور حول يهود بني النضير وموقف المنافقين معهم وإنهاء الله تعالى لخطرهم.
وسورة ” الفتح ” والتي توضح فترة دخول المسلمين مكة بعد حروب طويلة وبعد بيعة الرضوان مع الرسول ﷺ بعد إشاعة مقتل عثمان رضى الله عنه.
وغزوة ” حنين ” التي اغتر المسلمون فيها بكثرة العدد فكانت المفاجأة بهزيمة عنيفة لهم، وإذا بهم يهربون ويتركون الرسول ﷺ، وعدد قليل من المسلمين يدافعون عنه حتى تحقق الثبات مرة أخرى، ثم النصر الصعب والدرس القاسي لهم كما كان درس ” أحد “من قبل.
وعندما نقرأ سورة التوبة نعرف أن الفترة الزمنية بينها وبين السورة السابقة لها كانت طويلة، فلقد نزلت الأنفال فى أول العهد المكي وسورة براءة فى السنة التاسعة، فيجب عليك أن تغير إدراكك ومحاولة الاستيعاب أن السورتين تختلفان فى وضع الدولة المسلمة بين بداية ضعيفة غير ثابتة الأقدام، ومرحلة قد اختفت فيها الكثير من العداوات “اليهود”، وأصبح خطر المنافقين أشد، وعداوة الدول المجاورة وخشيتها من هذه الدولة الجديدة ومحاولة القضاء عليها أصبح واضحا.
أما القراءة في سورة المائدة والنساء والتوبة وآخر البقرة فيجب أن يكون له نصيب من الفهم والاستيعاب لكثرة الأحكام بها، خاصة أنها من أواخر السور فى عهد الرسالة، وتعتبر الأحكام النهائية التى يجب أن يعتمد عليها المسلمون فى حياتهم إلى يوم القيامة خاصة وقد اقتربت النهاية المحتومة بوفاة الرسول ﷺ المصدر الوحيد لتلقي الوحي من السماء.
عسى الله أن يكتب لنا الفهم الجيد والعمل الصالح والإخلاص والقبول وحسن الخاتمة وحسن الوقوف بين يديه.