أوضح الإمام ابن عاشور الترابط بين الآيات الخمس في سورة آل عمران (من الآية: 137 إلى الآية 141) – التي نزلت إثر مرارة هزيمة المسلمين في غزوة أحد – ببيان بديع، بدءًا بقوله أن الآية 137 {قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} “مقدّمة التَّسلية والبشارة الآتيتين”، وأن هاته المقدّمة ابتدأت “بحقيقة تاريخية: وهي الاعتبار بأحوال الأمم الماضية”، مؤكدة بـ ((قد)) “الدّالة على تأكيد الخبر، تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك؛ لما ظهر عليهم من انكسار الخواطر من جراء الهزيمة الحاصلة لهم من المشركين، مع أنّهم يقاتلون لنصر دين الله، وبعد أن ذاقوا حلاوة النَّصر يوم بدر، فبيّن الله لهم أنّ الله جعل سنّة هذا العامل أن تكون الأحوال فيه سجالاً ومداولة، وذكّرهم بأحوال الأمم الماضية…
وبين ابن عاشور معنى هذه الآية فقال:
والمعنى: قد مضت من قبلكم أحوال للأمم، جارية على طريقة واحدة، هى عادة الله في الخلق، وهي أنّ قوّة الظالمين وعتّوهم على الضعفاء أمر زائل، والعاقبة للمتّقين المحقّين….
وأشار إشارة لطيفة إلى أن “في الآية دلالة على أهميِّة علم التَّاريخ؛ لأنّ فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها…”.
ثم ربط ابن عاشور بين هذه الآية والتي تليها {هَٰذَا بَيَانٞ لِّلنَّاسِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٞ لِّلۡمُتَّقِينَ}، من حيث إن الإشارة فيها ترجع إلى مضمون قوله: {قد خلت من قبلكم سنن}، “فإنَّها بيان لما غفلوا عنه من عدم التَّلازم بين النَّصر وحسن العاقبة، ولا بين الهزيمة وسوء العاقبة، وهي هدى لهم لينتزعوا المسببات من أسبابها….
وبعد هذه المقدمة يأتي النهي في قوله تعالى:
{وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ}، فهو “نهي للمسلمين عن أسباب الفشل“، ومن ذلك “الوهن”، وهو هنا – كما يقول ابن عاشور – “مجاز في خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأساً، والشَّجاعة جبناً، واليقين شكّاً، ولذلك نُهوا عنه. ومن ذلك أيضا “الحزن” وهو “شدّة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار”.
وبين ابن عاشور سر النهي هنا عن “الوهن والحزن”، فقال: “والوهنُ والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتّب عليهما الاستسلام وترك المقاومة. فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما وهو الاعتقاد…”.
وأشار ابن عاشور إلى العطف بالبشارة في قوله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}، فقال: “الواو للعطف، وهذه بشارة لهم بالنَّصر المستقبل، فالعلوّ هنا علوّ مجازيّ وهو علوّ المنزلة”.
وبين أن التَّعليق بالشرط في قوله: {إن كنتم مؤمنين} “قصد به تهييج غيرتهم على الإيمان إذ قد علِم الله أنَّهم مؤمنون ولكنَّهم لمّا لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة، كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم: إن علمتم من أنفسكم الإيمان…”.
وتأتي بعد ذلك التسلية في قوله تعالى:
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ}.
ففي الآية – كما بين ابن عاشور – “تسلية عمَّا أصاب المسلمين يوم أُحُد من الهزيمة بأن ذلك غير عجيب في الحرب، إذ لا يخلو جيش من أن يغلب في بعض مواقع الحرب، وقد سبق أنّ العدوّ غُلب…”، وبين أن معنى ((المس)) هنا “الإصابة، كقوله في سورة [البقرة: 214] {مستهم البأساء والضراء}”، وأن ((القرح)) هنا “مستعمل في غير حقيقته، بل هو استعارة للهزيمة الَّتي أصابتهم، فإنّ الهزيمة تشبّه بالثلمة وبالانكسار، فشبّهت هنا بالقرح حين يصيب الجسد، ولا يصحّ أن يراد به الحقيقة لأنّ الجراح التي تصيب الجيش لا يعبأ بها إذا كان معها النصر، فلا شكّ أنّ التسلية وقعت عمّا أصابهم من الهزيمة…”.
ثم بين معنى {إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ}, فقال: “إن هُزِمتم يوم أُحُد فقد هُزم المشركون يوم بدر وكنتم كفافاً. ولذلك أعقبه بقوله: {وتلك الأيام نداولها بين الناس}…”.
ثم بين ابن عاشور أن قوله تعالى {فقد مس القوم قرح} ليس هو جواب الشرط في المعنى، ولكنّه “دليل عليه أغنى عنه على طريقة الإيجاز، والمعنى: إن يمسكم قرح فلا تحْزنوا أو فلا تهنوا وهَناً بالشكّ في وعد الله بنصر دينه إذ قد مسّ القومَ قرح مثله فلم تكونوا مهزومين ولكنّكم كنتم كفافاً، وذلك بالنِّسبة لقلّة المؤمنين نصر مبين”.
وقال ابن عاشور أنه “وبهذه المقابلة بما أصاب العدوّ يوم بدر تعيِّن أن يكون الكلام تسلية وليس إعلاماً بالعقوبة، كما قاله جمع من المفسّرين…”.
أما الربط مع قول الله تعالى {وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، والله لا يهدي القوم الظالمين}، فبين ابن عاشور أنها عطف على جملة {وتلك الأيام نداولها بين الناس}، “فمضمون هذه علّة ثانية لجواب الشرط المحذوف المدلول عليه بقوله: {فقد مس القوم قرح مثله}…”.
ثم بين الربط بين ما سبق وقوله تعالى {وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمۡحَقَ ٱلۡكَٰفِرِينَ}، بقوله:
“التَّمحيص: التنقية والتخليص من العيوب، والمحق: الإهلاك، وقد جعل الله تعالى مسّ القرح المؤمنين والكفار فاعلاً فِعلاً واحداً: هو فضيلة في جانب المؤمنين، ورزّية في جانب الكافرين، فجعله للمؤمنين تمحيصاً وزيادة في تزكية أنفسهم، واعتباراً بمواعظ الله تعالى، وجعله للكافرين هلاكاً…”، وعلق في ختام تفسيره للآية بقوله:
“وكذلك شأن المواعظ والنذر والعبر قد تكسب بعض النُّفوس كمالاً وبَعْضها نقصاً قال أبو الطيب:
فحُبّ الجبان العيش أورده التُّقى *
وحبّ الشجاع العيش أورده الحربا
ويختلف القصدَان والفعل واحد
إلى أن نَرى إحسانَ هذا لنا ذنبــا
وقال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} [ التوبة : 124، 125]، وقال: {وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} [الإسراء:82] وهذا من بديع تقدير الله تعالى”.