رغم ما قد يتصوره البعض من انفصال تام، ومن عدم وجود أية صلة بين المجدِّدين والمبدِّدين؛ فإنني أزعم أن ثمة جامعًا مشتركًا بينهما؛ يجب أن ننتبه له، ونوليه ما يستحقه من دراسة واهتمام.
وأعني بالمجددين أولئك الذين يعملون على إزالة الغبار الذي لحق بالثوابت والكليات، فحجب الرؤية عنها؛ والذين يحاولون أن يضبطوا ميزان الفهم لدى العقل المسلم، فيعرف للأصول أهميتها وللفروع قدرها، لا تجور إحداهما على الأخرى.. بجانب نفخ الروح في ممارسة الشعائر، حتى تؤتي ثمارها المرجوة منها في حياة الفرد والمجتمع([1]).
أما المبددون فهم من يتخذون من التجديد والإصلاح شعارًا يخفون به هدفهم في تشويه المفاهيم، وتطويع النصوص، وزحزحة الدين عن فاعليته ودوره في الحياة.
وعلى ما يبدو من مسافة كبيرة تفصل بين الفريقين، فإنهما يشتركان في أمر واحد، هو أن كليهما يعمل على “إعادة تشكيل العقل المسلم”؛ إدراكًا منهما بأن أي تغيير يُراد له أن يكون جذريًّا وفاعلاً، لابد أن يضع في اعتباره البعد المعرفي والمجال العقلي والمستوى التصوري والإدراكي.
ولاشك أن العقل المسلم الراهن قد ابتعد كثيرًا عن التصور الصحيح لكثير من المفاهيم والقضايا كما كان حالها في زمن النبي صلى عليه وسلم والصحابة والتابعين، نتيجة عوامل كثيرة؛ مثل بُعد العهد، ودخول مؤثراتٍ من خارج البيئة الإسلامية مغايرةٍ في الفكر والاعتقاد إبان ترجمة تراث الآخرين، إضافة إلى ترافق الهجمة الثقافية مع نظيرتها العسكرية على البلاد الإسلامية في العصور الحديثة.
هذه العوامل، وغيرها كثير، أحدثت تشوهًا واضطرابًا في مسيرة العقل المسلم؛ حتى أصبح من أوجب الواجبات أن نعود به إلى سيرته الأولى، ليصحح المفاهيم، ويضبط التصورات، ويحسن الفهم عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ.
فدور المجددين هو “إعادة تشكيل هذا العقل المسلم”؛ ليصل مسيرته المعاصرة بينابيعها الأولى الصافية..
والمفارقة هنا، أن دور المبددين يتمثل أيضًا في “إعادة تشكيل العقل المسلم”؛ لكن لقطع الطريق أمام محاولات الإصلاح الجادة الصحيحة، ولِدَفعِ هذا العقل إلى مزيد من المتاهات والانحرافات، حتى يظل تائهًا عن الطريق، مبتوتَ الصلة بالمصادر التي شكّلت ميلاده ومسيرته وحضارته.
رؤية تجديدية للإعادة
من بين الرؤى الكثيرة والمهمة في هذا الشأن، نتوقف عند رؤية د. عماد الدين خليل، المفكر والمؤرخ العراقي، والذي أصدر كتابه المهم، في أوائل الثمانينيات، تحت عنوان: “حول إعادة تشكيل العقل المسلم”([2]).
يرى عماد الدين خليل أنه “لما كان العقل المسلم قد أصيب بكسور خطيرة في العصر الراهن، ولما كان الإسلام نفسه قد أولى العقل تلك الأهمية القصوى التي تكاد تكون بداهة من البداهات.. فإن النتيجة الطبيعية، غير المفتعلة، أن يكون (التأكيد) على إعادة التشكيل العقلي في إطار إسلامي، ضرورة ملحة وأمرًا محتومًا”.
ويوضح أن الإسلام شكَّل العقل المسلم من خلال نَقْله نقلةً كبرى في المستويات كافة: التصورية الاعتقادية، المعرفية، المنهجية، الحضارية.
في النقلة التصورية الاعتقادية، يقول خليل: ما من خطوة في تاريخ البشرية حررت العقل، وكرمته، ووضعته في موقعه الصحيح كهذه الخطوة: تحويل التوجه الإنساني من التعدد إلى الوحدة، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن عشق الحجارة والتماثيل والأوثان إلى محبة الحق الذي لا تلمسه الأيدي ولا تراه العيون.. كسرٌ للحاجز المادي باتجاه الغيب، وتمكينٌ للعقل من التحقق بقناعاتٍ تعلو على معطيات الحس القريب.. لقد تحدث القرآن الكريم عن هـذه النقطة فقال: إنها خروج بالناس {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة: 257).
إن العقيدة الجديدة جاءت لكي تنقل الإنسان إلى السعة والعدل والتوحيد.. هـنالك حيث يجد العقل نفسه، وقد أعيد تشكيله بهذه القيم، قديرًا على الحركة والفعل عبر هـذا المدى الواسع الذي منحه إياه الإسلام، غير محكوم عليه بظلم من سلطة فكرية قاهرة ترغمه على قبول ما لا يمكن قبوله باسم الدين، متحققًا بالتقابل الباهر بين الإنسان والله.. حيث يملك وحده التوجه، والتعبد والمصير.
وأما النقلة المعرفية فيوضح عماد الدين خليل أنها عملٌ في صميم العقل من أجل تشكيله بالصبغة التي تمكنه من التعامل مع الكون والعالم والوجود، بالحجم نفسه، والطموح نفسه، الذي جاء الإسلام لكي يمنحهما الإنسان. فكانت الكلمة الأولى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ} (العلق: 1).
بل إن نسيج القرآن نفسه، ومعطياته المعجزة، من بدئها حتى منتهاها، في مجال العقيدة والتشريع والسلوك والحقائق “العلمية”؛ تمثل نسقًا من المعطيات المعرفية كانت كفيلة- بمجرد التعامل المخلص الذكي المتبصر معها- أن تهز عقل الإنسان، وأن تفجر ينابيعه وطاقاته، وأن تخلق في تركيبه خاصية التشوق المعرفي لكل ما يحيط به من مظاهر ووقائع وأشياء.
وأما النقلة المنهجية التي أتيح للعقل المسلم أن يتحقق بها، وأن يتشكل وفق مقولاتها ومعطياتها؛ فقد امتدت باتجاهات ثلاثة: 1- السَّببية (لتكوين العقلية التركيبية؛ التي تجمع، وتقارن، وتقيس، وتستشرف). 2- القانون التاريخي (لفهم حركة التاريخ البشري وفق السُّنَن والنواميس). 3- منهج البحث الحسي/ التجريبي (من أجل التنقيب عن السنن والنواميس في أعماق التربة، وفي صميم العلاقات المادية بين الجزئيات والذرات).
ثم كانت النقلة الحضارية، التي جاءت ثمرة لـ”العقلية” التي صاغها الإسلام، ومكّنها بتحولاته الخطيرة تلك من أن تؤدي دورها الشامل في تكوين وإغناء الحضارة الإسلامية.. بحيث كانت هذه النقلة الحضارية على درجة من الثقل والامتداد ما جعلها أمرًا تاريخيًّا مشهودًا، قدَّم إسهامه المتنوع الغزير؛ ليس فقط على مستوى الجغرافية الإسلامية، وإنما جغرافية العالم الحضاري كلها.. كما شهد بذلك كثير من المستشرقين.
واليوم- كما يخلص عماد الدين خليل- فإنه ليس بمقدور قوة في الأرض أن تبعث المسلمين من جديد للفعل الحضاري، ما لم تتهيأ له الشروط والمواصفات نفسها.. ما لم تتحقق بالتحولات الحاسمة ذاتها: عقيديًّا ومعرفيًّا ومنهجيًّا.
رؤية تبديدية للإعادة
في مقابل هذه الرؤية التجديدية لإعادة تشكيل العقل المسلم، ثمة رؤية أخرى تبديدية، يمثلها د.مراد وهبة، المفكر المصري، في كتاباته ومقالاته، وهو ينظّر للدور الثقافي المطلوب ليخرج العالمُ الإسلامي من “ثقافة التخلف”، كما يسميها وهبة.
يقول مراد وهبة: المطلوب تأسيس تيار الرشدية العربية؛ الذي في إمكانه إخراج العالم الاسلامي من ثقافة التخلف إلى ثقافة التقدم وما تنطوي عليه من علمانية تستلزم التنوير، ومن عقلانية تقوم على الإبداع وليس على المحرمات الثقافية التي تتميز بها مجتمعات التخلف، أو بالأدق مجتمعات الأصوليات الدينية التي تلتزم حرفية النص الديني، وتقاوم أي نظرية علمية تشي بأنها ضد حرفية النص… المطلوب تأسيس تيار أو صناعة تيار تكون الغاية منه إقصاء الأصولية الدينية واستدعاء العلمانية باعتبارها نقيضًا للأصولية)([3]).
ثم يوضح مقصوده من “تيار الرشدية العربية” قائلاً: إن قيمة ابن رشد الآن تكمن في أنه في إمكانه ردم الهوة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي. وسبب ذلك مردود إلى أنه كان له الفضل في تأسيس تيار «الرشدية اللاتينية» التي أدت إلى إخراج أوروبا من العصور الوسطى المظلمة، إذ أجهز هذا التيار على الدعوة القائلة بإبطال إعمال العقل في النص الديني؛ ومن ثم، مهَّد الطريق لمشروعية النظريات العلمية بوجه عام، ونظرية دوران الأرض حول الشمس بوجه خاص. وكانت السلطة الدينية قد أدانت هذه النظرية؛ إذ صادرت كتاب العالم الفلكي كوبرنيكس المعنون «عن حركات الأفلاك»، والذى كانت قضيته المحورية التدليل على صحة دوران الأرض. وأدانت جاليليو عندما أيدها، وأحرقت جثمان جيوردانو برونو عندما دعمها. والمفارقة هنا، أن العالم الإسلامي كفَّر ابن رشد وأحرق مؤلفاته، وبالتالي أصبح هامشيًّا. والمطلوب استدعاؤه لتأسيس تيار «رشدية عربية» يدخل في علاقة عضوية مع الرشدية اللاتينية؛ من أجل التحرر من الأصوليات الدينية التي تتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة، وبالأخص الأصولية الإسلامية المرتكزة على الفقيه ابن تيمية؛ الذى يكفر ابن رشد، ودعا إلى إبطال إعمال العقل. وإذا تم التحرر من هذه الأصولية تم القضاء على الارهاب؛ من حيث إنه أعلى مراحل الأصولية الدينية. والمراوغة في عملية التحرر من شأنها دفع العقلَ إلى أن يكون في حالة غيبوبة يمتنع معها الإفاقة([4]).
وبغض النظر عن المغالطات الكثيرة التي يستند إليها مراد وهبة- في تقييمه لابن رشد، وابن تيمية، واستدعائه للسياق الغربي المغاير تمامًا لمسار الفكر الإسلامي- فإنه يدعو إلى إعادة تشكيل العقل الإسلامي؛ ليتحرر من سلطة النص الديني، بل وليجعل من العلمانية حلاَّ للمشكلات؛ بدعوى “العقلانية” التي “تقوم على الإبداع وليس على المحرمات الثقافية”، حسب رؤيته!
إذن، هذا هو الجامع المشترك بين هاتين الرؤيتين المتناقضتين- التجديدية والتبديدية- والذي يتمثل في إدراك قيمة العقل، وضرورة إعادة تشكيله؛ حتى نصل إلى التغيير المنشود، والنهوض المطلوب.
([1]) عرف العلامة العلقمي “التجديد” بأنه: “إحياء ما اندرس من العمل والكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما”.
([2]) الكتاب رقم 6، ضمن سلسلة “كتاب الأمة”، ط2، 1403هـ، قطر. وسأكتفي بسرد رؤية د. عماد الدين خليل، باختصار، وتصرف يسير، من الصفحات 25- 64.
([3]) انظر مقاله “ثورة ثقافية”، الأهرام، 16 مايو 2017م.
([4]) انظر مقاله: “المطلق والنسبي في زمانين”، الأهرام، 27 ديسمبر 2016م.