يبدو العنوان صادما، وذلك سر استقطابه لنقاش النخبة، فتقديس الجهل آخر دركات الإنسانية، كما أن آخر مراحل موت الدين هو أن يصبح بلا ثقافة، تحت هذا العنوان المركب غاص الكاتب الفرنسي أوليفيه روا على واقع ومآلات المسألة الدينية في ظل علمانية معولمة.
صدر الكتاب عن دار الساقي سنة 2012 بترجمة صالح الأشمر، ويقع في 341 صفحة من الحجم المتوسط، ويحوي مقدمة وسبعة فصول، اضطلع كل واحد منها بالحفر في أطراف إشكالية البحث القائمة على أن الذي يقدسه الناس اليوم ليس دينا حقيقيا لانفصاله عن الثقافة وإنما هم يقدسون الجهل بدلا عن الدين.
لا يختص الكتاب بالحديث عن الإسلام فقط، فهو كما قال كاتبه:”هذا الكتاب ليس بالضرورة كما يبدو: عمل اختصاصي في الإسلام، يخرج عن مجال اختصاصه لينتقل إلى مجال المقارنة، مع ما ينطوي عليه ذلك من هواية”، كما أنه أيضا ـ حسب كاتبه ـ “ليس تصفية حساب مع الإنجيلية(…) فقد عانيت في الواقع حيرة أكثر مما حملت ضغينة”، وإنما هو دراسة شاملة تطرقت لمختلف الديانات السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وبعض الديانات الوضعية كالبوذية مثلا.
عودة الديني وإحراج العلمانية
حين يتحدث مفكر فرنسي بحجم أوليفيه عن عودة الديني فذلك مؤشر كبير على أن العلمانية لم تستطع إقناع الروح الحرة داخل الإنسان الذي ينزع بفطرته للدين، ولكن الأهم من ذلك هو أن توضع العلمانية ذاتها أمام سؤال الحرية.
يطرح أوليفيه جملة أسئلة تمهيدية عن الأسباب الكامنة وراء الهجرات النشطة من دين إلى آخر، أي كيف أمكن لكنيسة بروتستانتية إنجيلية أن أن تتجذر في المغرب أو الجزائر؟ ولم تحقق الإنجيلية البروتستانتية اختراقا مدهشا في البرازيل(بلغ عدد أتباعها 25 مليون عام 2007)؟
والأهم من ذلك لم يقود الاحتدام العقائدي للدين في إيران إلى علمنة المجتمع المدني؟
يذهب أوليفيه روا في الإجابة على تساؤلاته إلى أن فرضيتان تواجهتا في الربع الأخير من القرن العشرين: إحداهما ترى في العلمنة سيرورة محتمة، هي شرط للحداثة ونتيجة لها في آن، والأخرى تسجل أو تحيي عودة الديني، مدركة إما على أنها احتجاج على ثقافة مستلِبَة أو وهمية، وإما كشكل مختلف للدخول في الحداثة.
السؤال المحرج للعلمانية هو: هل ينبغي فرض اللائكية في مقابل الديني، وعلى حساب الحرية الفردية إذا اقتضى الأمر، أم إن التجديد الديني ما هو إلا انعكاس للتنوع، وللغنى وللحرية الإنسانية؟
يبدو أن العلمانية الفرنسية اختارت فرض اللائكية في خصوصيات الأفراد رغم أن ذلك يضرب أحد شعارات الثورة التي أنتجتها في الصميم(الحرية ـ العدالة ـ المساواة)، فالموقف الحاد من الحجاب في المدارس الفرنسية يعكس هذه الرؤية المقيدة للحرية في العلمانية.
الديني والسياسي وادعاء التناقض
يرى أوليفيه روا أن المزج بين الديني والسياسي يقضي عليهما معا في آن، السبب في ذلك هو أن منطلقهما مختلف، فالديني فردي والسياسي جماهيري، الأول يستدعي الحرية والثاني يستدعي التبعية أو التضامنية على الأصح، لذلك فهو يرى أن من حسنات العلمانية على الدين أنها أبعدته عن السياسة، لأن تسييس الديني ـ من وجهة نظره ـ تؤول في كل مرة إلى علمنته، لأنه يتورط في السياسة اليومية، لذلك فالعلمانية تؤدي إلى الإنعاش الديني بل إنها تصنع الديني نفسه.
يقارب المؤلف المسألة من زاوية أخرى فيطر ح سؤالا: هل إمكانية الرؤية المتنامية للديني، وأهميتها في وسائل الإعلام وفي السياسة، تناظران حقا زيادة الممارسة الدينية؟ ويجيب، في أوروبا، لا شيء من ذلك البتة : لقد جسدت بابوية يوحنا بولس الثاني الحداثة الإعلامية للديني، ولكن إذا ما كانت أعداد متزايدة من الشبان قد حثت الخطى خلال عشرين عاما لملاقاة البابا في أيام الشبيبة العالمية، فإن عدد المسجلين في المدارس الكهنوتية الكاثوليكية لم يكف عن الهبوط إبان الحقبة نفسها.
هل الدين جزء من الثقافة؟
هذا من أهم القضايا التي ناقشها أوليفيه روا في كتابه، هناك أديان محايدة ثقافيا وهي أقدر على الانتشار من غيرها، الإسلام مثلا، يمكنه الانسجام مع مختلف الثقافات، هناك أيضا أديان عرقية تؤكد انفصال الديني عن الثقافي، اليهودية مثلا دين عرقي في البداية، لأنها تتماهى مع شعب، لكنه شعب غدا شتاتيا وإذا مواجَها بتغير ثقافي: ومذ ذاك تشهد اليهودية إشكالية التفريق بين المعالم الدينية والمعالم الثقافية.
في أثناء مقاربته لعلاقة الدين بالثقافة يؤكد الكاتب على ضرورة تفكيك العلاقة بين الدين والثقافة قبل الحديث عن صدام الحضارات أو حوار الأديان، وهو ينتقد تأسيس صاحب صدام الحضارات نظريته على الترابط الحتمي بين الدين والثقافة، ويرى أن هذا الطرح يفتقد الاستقراء العلمي والنظرة العميقة في الدين، والفصل بين الأديان وسلوك المتدينين.
في الخلاصة، يعتبر كتاب الجهل المقدس، أحد أهم الكتب الفكرية التي قدمت رؤية عميقة حول الدين كمكون رئيسي في الكون البشري والتدين كظاهرة معاصرة مدهشة رغم عقود من الترويض على عولمة العلمنة، وقد أصدر الكاتب مع انطلاقة شرارة الربيع العربي الذي مثل في وجه من وجوهه نهضة الضمير الديني أو عودة الديني إلى الواجهة.
وهو كتاب لا تغني قراءة تلخيص له عن قراءته، وذلك لما يكتنز به من معلومات ورؤى وأطروحات لا يمكن لأي قارئ أن يفي باستخلاصها كلها.