في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت “الموضة” تقتضي أن يكون المغامر البريطاني متقنا لعدة لغات، وقادراً على التسلل إلى مكة في هيئة رجل مسلم.
في عام ١٨٨٢ للميلاد ولد آرثر جون وافل، الطفل البريطاني المنتمي إلى عائلة تشربت العمل العسكري وتوارثته أباً عن جد، ولأن الولد سر أبيه؛ فقد التحق آرثر بالكلية الحربية، وبعد تخرجه انتظم في صفوف القوات الحربية البريطانية، وغادر إلى جنوب إفريقيا ليشارك في العمل العسكري وهو لا يزال شاباً غضاً في الثامنة عشرة من عمره.
كانت تلك المشاركة بدايةَ حياةٍ حافلة ثرية، عريضةٍ للغاية ولو لم تكن طويلةً، فقد نشط في العمل الحربي ليكون واحداً من الأيادي الباطشة للاحتلال البريطاني في جنوب إفريقيا، وكان من حظه أن تلك البقعة من الأرض ظلت مشتعلة لمدةٍ من الزمان، ما جعله يخوض تجربةً حربيةً حقيقية، ويشارك في معارك تلو معارك، ويثبت كفاية في الميدان أهلته لينال أكثر من ترقية في وقت قصير.
لما بلغ آرثر الثالثة والعشرين من عمره قام بواحدة من المغامرات الجسورة، منطلقاً إلى منطقة شلالات وبحيرة فيكتوريا التي تعد منبع نهر النيل.. وكانت مغامرةً ممتعةً لم تخل من بعض الحوادث الخطرة.
بعد عامين من بدء المغامرة، وفي الخامسة والعشرين من عمره؛ يتخلى آرثر عن عمله في الجيش البريطاني المحتل لجنوب إفريقيا، ويغادر إلى كينيا ممضياً وقته في الصيد مدة من الزمان..
ويبدو أنه شعر بأن العمر أقصر من أن يمضي في مطاردة بعض الحيوانات الرشيقة وسط سهول كينيا المعشبة؛ فاتجه نحو التجارة، وأصبح واحداً من تجّار كينيا التي كانت بقرةً حلوباً ينهب الإنجليز خيراتها بلا ثمن، أو بثمن بخس إن تكرموا.
كان من قدر آرثر أن يعيش حياة عريضةً كثيفةً بحساب التجارب وإن كانت قصيرة بعدد السنوات، لذا انتهز مدة بقائه في كينيا فتعلّم اللغتين العربية والسواحلية، وقرر بغتةً أن يضيف إلى حياته بعض الإثارة، ولم يجد لنفسه عملاً أكثر إثارةً من التسلل إلى مكة، المدينة المحرمة على من لا يدين بالإسلام.
لم تمض مدة طويلة قبل أن يشد آرثر الرحال إلى مكة المكرمة، ويستخرج جواز سفر عثمانياً باسم علي بن محمد. وسافر مع رفيقين: عربي وإفريقي، من مرسيليا إلى جنوة، ثم أبحر من جنوة إلى الإسكندرية، ثم أبحر منها إلى بيروت، ومنها إلى دمشق التي أخذ يتدرب فيها على الظهور بمظهر رجل مسلم، وقضى في دمشق شهر رمضان وشطراً من شوال قبل أن يتجه إلى المدينة المنورة بواسطة قطار الحجاز الذي استغرق أربعة أيام من السير قبل أن يبلغ طيبة الطيبة.. وجدها آرثر مدينةً نظيفةً، مثيرة للاهتمام ومتنوعة المشاهد.
قضى آرثر ثلاثة أسابيع صعبة في المدينة، كان مهدداً فيها بافتضاح أمره في حال قدم المدينةَ أحد من أهل مومباسا، كما أن المدينة شهدت مواجهات عسكرية بين الجيش العثماني وبعض البدو الحانقين على مشروع سكة حديد الحجاز الذي حرمهم من مصدر كبير للدخل يتمثل في تأجير الجمال، والمبالغ النقدية التي كانوا يتلقونها من الدولة مقابل عدم التعرض للحجيج.. ولما هدأت الأمور التحق آرثر بقافلة متجهة إلى ينبع، ليبحر من ينبع إلى جدة ويقضي بها عدة أيام قبل الانطلاق إلى مكة المكرمة على ظهر جملٍ منهكٍ أدركته منيته أثناء الطريق..
يلفت انتباه آرثر ذلك الهدوء المسيطر على الحجيج المتدفقين إلى مكة، فيقول: “من الصعب على الغريب أن يفقه كنه مشاعر المسلم عند اقترابه من مكة المكرمة، فبالنسبة إليه، إنها مكان يكاد لا ينتمي إلى هذا العالم، فجلال الإله يهيمن فوق الجميع مثل تابوت العهد لدى اليهود، إن المسلم يتوجه إلى هذا المكان خمس مرات في اليوم طوال حياته، وهو يقترب منها الآن ليكشف كنهها وأسرارها بأم عينيه”.
أدى آرثر مناسك العمرة، وأمضى الوقت المتبقي قبل موسم الحج في استكشاف مكة المكرمة التي أعجبته، وإن كانت المدينة المنورة قد حصلت على المزيد من إعجابه.
طوال مدة بقائه في مكة، كان آرثر يعيش رعباً قاتلاً من أن يلتقي مصادفةً بإنسان يعرفه من أهل مومباسا، إن هذا يعني افتضاح أمر تسلله إلى مكة، وهو أمرٌ شديد الخطورة على حياته!
شهد آرثر مناسك الحج، وبعد انتهائها غادر إلى جدة.. سعيداً بنجاته من الافتضاح، صحيح أنه كان متنكراً على نحو جيد، واتخذ ما يلزم من الاحتياطات، إلا أن ما فعله لم يكن ليضمن له السلامة، كان آرثر محظوظاً وحسب.
انتهت المغامرة بنجاح، قالها آرثر لنفسه، فلنضف إليها مغامرة أخرى! ولنذهب إلى صنعاء، شرع آرثر في تنفيذ فكرته التي انتهت بفشل ذريع، حيث وقع آرثر أسيراً في يد القوات العثمانية التي كانت تحكم اليمن في تلك الأيام.
مضى بعض الوقت قبل أن ينال آرثر حريته، ويعود إلى الجيش البريطاني ضابط احتياط، قبل نشوب الحرب العالمية الأولى بشهور معدودة!
تندلع الحرب العالمية الأولى، ويجد آرثر نفسه في وضع صعب؛ فهو في منطقة مومباسا التي تعني الكثير لدولته المحتلة، ولكن مومباسا المسكينةَ ليس فيها إلا القليل جداً من الجنود البريطانيين، وهنا ينهض آرثر بمهمة عجيبة، هي تكوين جيش صغير من العرب يتصدى للقوات الألمانية التي كانت تستهدف مومباسا الكينية.
كان جيشاً صغيراً، لكن فعالاً، وبعد مقاومة باسلة للزحف الألماني قُتل آرثر على يد الألمان الذين دفنوه وكتبوا على قبره: “هنا يرقد ضابط شجاع قدّم عملاً رائعاً منذ بداية الحرب”.
حينها كان عمره أربعاً وثلاثين سنة وحسب! إنها لحياةٌ عريضة!