الحج والحياة : انتهى موسم الحج، لقد قام ملايين الحجاج المسلمين بأداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وستبقى ذكريات وروحانيات الحج مثيرة للمشاعر الجياشة، فلا يمكن للحاج منع نفسه من الدموع أثناء مشاهدته لهذا الجمع الرائع. أكثر من مليون ونصف إنسان في طريق واحد إلى بيت الله الحرام وتأدية الفريضة بكل خضوع وتفانٍ.
لقد صلى الحجاج وودعوا ربهم وهم في غاية الانكسار، طالبين مغفرة من ذنوبهم، وقبولا لحجتهم، وسعادة في الدنيا والآخرة.
هل يجب أن يقتصر تأثير الحج على أيام قليلة؟ أعتقد أن الحج رحلة مقصودة لتوجيهنا في كيفية قيادة رحلتنا الكبرى في الحياة. إنه النموذج الذي ينبغي للمسلمين أن تستقيم حياتهم عليه. هذا الارتباط بين الحج والحياة مهم للغاية؛ فبعد كل شيء، كلاهما رحلتان تتطلبان استعدادًا خاصًا وتهدفان إلى أهداف خاصة.
الحج والحياة : هل هناك تشابهات؟
لنأخذ مثالًا على الخطوات الأولى التي يقوم بها الحجاج في استعدادهم لرحلة الحج. إنهم يسددون ديونهم ويغتسلون. الدرس هنا هو أن تكون حياتنا مبنية على النقاء والنظافة.
كم ستكون الحياة جميلة لو حاول كل واحد منا الالتزام بهذا المبدأ. لو حاول الجميع تجنب أي شيء قد يلوث إيمانهم أو يعكر صفو علاقتهم بالله.
بالطبع، قد يحدث أن يرتكب المسلمون خطيئة أو يستجيبون لوسوسة الشيطان، ولكن بمجرد حدوث مثل هذا الأمر، يسارعون إلى “تنظيف” و”غسل” أرواحهم.
تمامًا كما يرتدي الحجاج ملابس نقية ونظيفة خلال رحلة الحج، فهم حريصون على أن يلتقوا الله بقلب نقي وطاهر بعد رحلة الحياة.
لبيك اللهم لبيك
ها أنا هنا، يا الله، في خدمتك. هذه النداءة الأبدية التي يرددها ملايين الحجاج المسلمين كل عام، تمنحنا مزيدًا من الإلهام.
الحجاج يجيبون على نداء الله بسرور. لا يولون اهتمامًا للمتاعب التي قد يواجهونها. بل يأتون إليه يعلنون بالأقوال والأفعال خضوعهم لأوامره.
إن الحجاج يعبرون عن طاعة غير مشروطة لأوامر الله تعالى ومحبة لما يحبه سبحانه واحترامًا لما يكرمه جل وعلا.
هذه هي الروح التي يجب على المسلمين الحفاظ عليها طوال حياتهم.
“ لبيك اللهم لبيك “ ليست مجرد عبارة “طقوسية” تتردد على الألسن في الحج ثم تُنسى، بل شعار لكل مسلم ومنهاج للحياة.
الوصول إلى مكة
بعد ساعات وربما أيام وأشهر طويلة من السفر، يصل الحجاج إلى مكة ويستمتعون برؤية المواقع المقدسة. طوال حجهم وأثناء تنقلهم من مكان إلى آخر، ومن مناسك إلى أخرى، يستذكرون مشاهد عظيمة من التضحية والشجاعة.
يتذكرون شخصيات كبيرة مثل النبي إبراهيم عليه السلام مع أسرته، والنبي محمد ﷺ مع أصحابه رضوان الله عليهم.
تلهمنا هذه المشاهد العظيمة لمواجهة تحديات الحياة بقلوب شجاعة، وتحفزنا على العمل والتضحية من أجل ديننا وللنهوض بأمتنا.
المؤمنون جسد واحد
يشعر الحجاج بمشاعر المودة والأخوة في الحج والالتقاء بالمسلمين من جميع أنحاء العالم من آسيا وأفريقيا من الشمال والجنوب، عربًا وغير عرب، بيضًا وسودًا، أغنياء وفقراء. يجتمع المسلمون من جميع أرجاء الأرض في هذا الجمع المهيب، ويبذلون قصارى جهدهم ليكونوا صالحين فيما بينهم ويتجنبوا ما يؤذي أو يزعج بعضهم بعضًا.
إنه شعور رائع أن تنغمس في مثل هذا الشعور بالوحدة والتضامن مع إخوانك المسلمين؛ أن تكون عضوًا في عائلة كبيرة تحتضن المسلمين أينما كانوا؛ أن تهتم بإخوانك وأخواتك؛ لتتجنب فعل أي شيء قد يزعجهم؛ وأن تشعر بالحزن لألمهم وبالسرور لسعادتهم. كل هذا أمر مهم، ليس فقط في الحج، بل في حياتنا بأسرها.
تعلم الصبر
وعلاوة على ذلك، يُعتبر الحج فرصة جيدة لممارسة الصبر وتذوق حلاوة الحلم. في وسط هذه الجموع الكبيرة من الناس، من المؤكد أنك ستواجه بعض الصعوبات والمتاعب، ومن المحتمل أن تنزعج من سلوك بعض الحجاج.
ولكن من أجل أن تحصل على أجر حج مقبول عليك أن تمارس ضبط النفس وتظهر الصبر والحلم، هذا درس يجب أن نتعلمه ونطبقه في حياتنا اليومية.
يجب أن نطبقه في منازلنا وأماكن عملنا، نحتاج إلى أن نظهر الصبر مع أزواجنا وزملائنا وأصدقائنا. هذا أمر مهم لتسير حياتنا بسلاسة، والأهم من ذلك، ليحبنا الله.
في الختام الدروس التي يجنيها الإنسان من الحج لا تحصى، فالمؤونة الروحية التي تزود بها الحاج من أجل إكمال رحلة الحياة لا توصف حقًا. ومن خلال ربط كلتا الرحلتين – الحج والحياة – والتفكير في الحكمة الكامنة في الحج، يمكن للحجاج تعظيم الفوائد التي يحصلون عليها والاستفادة من حج حقيقي مدى الحياة.