حين يقرع صوت النذير العريان الأسماع تفزع القلوب ويشتد الانتباه، لكن قد يكشف التبين أن الأمر لا يستدعي كل ذلك، لولا تفنن ذلك النذير في طرق شد الانتباه، التي قد تجعل مما له مثال سابق أمرا في غاية الطرافة! ذلكم هو شأن الدعوة إلى وضع حد أدنى للأجور التي تحمل لواءها بعض المنظمات الدولية، وتُعْزى المبادئ التي قامت عليها إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ثم تصدر بعد ذلك إلى العالم الإسلامي.
وهذا ما يثير الاستغراب؛ إذ الواقع أن الإعلان العالمي المؤسس لتلك المبادئ إنما صدر سنة: 1948م، أي بعد مُضِيِّ ما يزيد على ثلاثة عشر قرنا ونصف من نزول شريعة الإسلام، بما تحمله من مبادئ تربو عددا، وتعلو سُمُوًّا على تلك المبادئ، وفي هذا يرد قول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “إن المبادئ التي طالما صدرناها للناس يعاد تصديرها إلينا على أنها كشف إنساني ما عرفناه يوما، ولا عشنا به دهرا ..!! ولا غرو، لقد كان ظهور هذه المبادئ منذ اندلاع الثورة الفرنسية شيئا جديدا في حياة الغرب، والكعكة في يد اليتيم عجب!([1]).
لكن لا ينبغي أن نجادل في الأمر كثيرا، فالحسن حسن من أي جهة جاء، ومجيئه أو لنقل: رجوعه إلى منبعه ليس من المنكر، بل الحاجة داعية إليه، فالأصل الموجود في العالم الإسلامي يشكو كثيرا من الإهمال وتراكم الإعراض، حتى صارت المنظمات الدولية هي المنادية الداعية إلى مضمون المبادئ الإسلامية، وتريد من الدول الإسلامية أن تلتزم بها وتطبقها، وهذا أمر مؤسف! وفيه يرد المثل العربي: “استنوق الجمل”!.
ركزت جهود بعض المنظمات الدولية على مراعاة حقوق العمال، فعملت على التعريف بها، والسعي إلى وصولهم إليها، ويمكن القول إن تلك الجهود قد أثمرت شكلا عرفيا عالميا لمضمون العقود، يسعى لضبط حقوق العامل وحمايتها، ومن أبرز الحقوق التي تدعو إليها تلك المنظمات: تحديد الحد الأدنى للأجور، فكيف اعتنت الشريعة الإسلامية بالأجور؟ وما الوسائل التي شرعتها لتكون الأجور في المستوى المقبول؟ وما حكم تحديد الحد الأدنى لها؟
خطة بحث دراسة الحد الأدنى للأجور
- كيف اعتنت الشريعة الإسلامية بالأجور؟ وما الوسائل التي شرعتها لتكون الأجور في المستوى المقبول؟ وما حكم تحديد الحد الأدنى لها؟
- تعريف الأجر في اللغة والاستعمال الشرعي.
- كيف تنظر الشريعة الإسلامية إلى الأجور؟
- ما تعريف التسعير، وما حكمه؟
- الإجابة على الأسئلة الثلاثة: ما حكم التسعير؟ وما صفة التراضي الذي تصح به العقود؟ وهل يشرع تدخل ولي الأمر بين التعاقدين؟
- الرضا لا يحصل مع الإكراه، فهل يحصل مع الاضطرار أو الحاجة الشديدة؟ ما حكم بيع المضطر؟
- هل تكمل أهلية التعاقد مع الاضطرار أو الحاجة الشديدة؟ وما ضابط الحاجة التي لا تقدح في الرضا؟
- الإجابة عن أدلة القول بعدم جواز التسعير.
- بيان أدلة جواز التسعير، ومنه تحديد الحد الأدنى للأجور.
- كيف نحقق الحد الأدنى للأجور؟
تعريف الأجور
أولا تعريف الأجر لغة: الأجور لغة جمع أجر، ومادة (أ ج ر) ترد لعدة معان، يقال: أجره الله أجرا من باب قتل وضرب، وآجره بالمد لغة ثالثة إذا أثابه، وآجرت الدار والعبد باللغات الثلاث، قال الزمخشري: وآجرت الدار على أفعلت فأنا مؤجر ولا يقال مؤاجر، وبعضهم يقول فهو مؤاجر في تقدير فاعلته، والأجرة الكراء والجمع أجر مثل غرفة وغرف، وربما جمعت أجرات بضم الجيم وفتحها، ويستعمل الأجر بمعنى الإجارة وبمعنى الأجرة، وجمعه أجور مثل فَلس وفلوس، وأعطيته إجارته بكسر الهمزة أي: أجرته، وبعضهم يقول: أجارته بضم الهمزة لأنها هي العمالة فتضمها كما تضمها([2]).
ثانيا الأجر في الاستعمال الشرعي: وقد ورد الأجر في القرآن لمعان:
- الأَول: بمعنى المهر: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]،
- والثاني: بمعنى ثواب الطَّاعة: {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ} [النحل: 96]،
- والثالث: بمعنى الجُعْل والغُرْم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47]، {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [القلم: 40]،
- الرّابع: بمعنى ما تستحقه الأم في مقابل إرضاع الولد، {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، والأَجر في الأصل: ما يعود من العمل، دنيويّاً أَو أَخرويّاً، ويعبر بالأُجرة عن العائد الدّنيوي، كما يعبر بالأجْر عن الثواب في الآخرة، والأجر والجزاء يلتقيان في الدلالة على ما يعود بالنفع، وينفرد الجزاء بالدلالة على ما يعود بالضر أيضا، قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان: 12]، وقال تعالى: {جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ} [الكهف: 106].([3])
وجاء استخدام الأجر في الحديث النبوي بمعنى الثواب الدنيوي والأخروي، قال ﷺ: “في كل ذات كبد رطبة أجر”([4])، وقال ﷺ: قال الله تعالى: “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أَعْطَى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا، فاستوفى منه ولم يعطه أجره”([5]).
الخلاصة: أن معنى الأجر في الأدلة الشرعية لا يختلف عن المعنى اللغوي، فهو ليس من الألفاظ ذات المعنى الاصطلاحي.
كيف اعتنت الشريعة الإسلامية بالأجور؟
الأدلة الشرعية تعظم حق الغير، وتفرض العدل والإنصاف في تقييم ملكه، وتقدير جهده وعمله، قال الله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 185]، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25].
هكذا ترسم الأدلة ضوابط النظر إلى ملك الآخرين، حيث يُفْترض التساوي بين الناظر والمنظور إليه من حيث المكانة، وعند حصول التفاوت بين المكانتين نجد من الأدلة ما يمنع من الاستغلال السيئ لذلك التفاوت فيما يؤدي إلى ظلم الطرف الأضعف ماديا، كما يدل عليه قوله ﷺ، فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال: “قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أَعْطَى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره”([6])، وقال ﷺ: “أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجف عرقه”([7]).
فإذا لم تبلغ تلك الضوابط في نفوس أرباب العمل المبلغ الذي يؤدي إلى إنصاف العامل، وقطع النزاع، فهنا يأتي دور رعاة العدل والقسط الذين كلفهم الله بالحكم بين العباد، وأوجب طاعتهم فيما يأمرون به من وسائل تحقيق العدل الذي هو غاية الشرع، قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا” [النساء: 58-59].
فإن قال قائل إن تحقيق ما شرع في العقود فيما يتعلق بالأجور يكفي فيه حصول التراضي بين طرفي العقد –العامل وصاحب العمل- وإن تحديد حد أدنى للأجور يعد تدخلا بينهما، والأصل عدم مشروعية ذلك، ولو كان ولي الأمر هو الذي يقوم به؛ لأن دوره يقتصر على رعاية ما بينه الشرع في شأن العقود، أو القيام بحل النزاع إن حصل بين المتعاملين، فليس تحديد الأجور مما يدخل في اختصاصه؛ لأنه يعد من باب التسعير، وهو مالم يفعله النبي ﷺ، والفقهاء مختلفون في مشروعيته.!
باب التسعير
الرد على هذه الاعتراضاتيتطلب الإجابة على الأسئلة التالية:ما حكم التسعير؟ وما صفة التراضي الذي تصح به العقود؟ وهل يشرع تدخل ولي الأمر بين التعاقدين؟
نبدأ بالإجابة على السؤال الأول: فما تعريف التسعير، وما حكمه؟
ما تعريف التسعير؟
التسعير لغة: سعَّر كعلَّم تسعيرا جعل للشيء سعرا معلوما ينتهي إليه، وأسعرته بالألف لغة، وله سِعْر إذا زادت قيمته، وليس له سعر إذا أفرط رخصه، والجمع أسعار مثل: حِمْل وأحمال، وسعرت النار سعرا من باب نفع وأسعرتها إسعارا أوقدتها فاستعرت([8]).
التسعير اصطلاحا: التسعير: أن يقول الإمام: بيعوا من طعام كذا كل مَنٍّ بكذا([9])، قال ابن عرفة: “التسعير: تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه قدرًا للمبيع بدرهم معلوم”([10]).
ذكرنا فيما سبق أن تحديد الأجور من باب التسعير، أي أنه نوع منه أو فرع من فروعه، يختص بتقدير قيمة العمل والجهد البشري، وإن كان المعنى الاصطلاحي للتسعير يختص بتحديد العوض العيني المبذول في مقابل البضاعة، فهو الذي يعنيه الفقهاء عند الكلام على التسعير، لكن المعنى العام للتسعير يشمل تحديد الأجور، فما هو إلا تقدير للثمن الذي ينبغي أن يبذل في مقابلة الجهد البشري، والمعنى اللغوي يعم النوعين كما سبق، وعليه يمكن تنزيل كلام الفقهاء في التسعير على تحديد الحد الأدنى للأجور.
ما حكم التسعير؟
لا خلاف أن الأصل في التسعير المنع، وجمهور الفقهاء ذهبوا إلى أن درجة المنع تتجاوز الكراهة إلى التحريم، وهذا الحكم يستند إلى النقل وإلى التعليل من جهة المعنى، وينزل على الحال المشابهة لمورد النص والأثر، حيث لا يوجد داع للخروج عن الأصل المؤيد بالنقل، أما حين تختلف الظروف والأحوال فذلك يقتضي حكما مختلفا، كما دلت على ذلك أقوال الفقهاء في المذاهب الأربعة المشهورة، حيث لا يخلو مذهب منها من قول بجواز التسعير، إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك.
بيان أقوال الفقهاء
- نجد في المذهب الحنفي قول صاحب الهداية: ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس؛ للحديث([11])، ولأن الثمن حق للعاقد فإليه تقديره، فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصيرة”([12])، فالحنفية منهم من صرح بالكراهة كما في ملتقى الأبحر، قال: “ويكره التسعير إلا إذا تعدى أرباب الطعام([13])، ومنهم من صرح بالتحريم، كما في شرح مختصر الطحاوي، قال: “ولا يجوز التسعير على الناس”([14])، وعبارة صاحب الهداية المذكورة سابقا تحتمل الأمرين، وإن كان الأظهر فيها الكراهة.
- أما المالكية فتدل أقوالهم على أن التسعير يمكن أن يقع بصفات مختلفة في حالات متباينة، لكل منها حكمها:
- الصفة الأولى: أن يكون التسعير بطريق الإجبار لأهل السوق على البيع بسعر معين، دون النظر إلى كون ذلك السعر يوقعهم في الخسارة أم لا، فالتسعير على هذا الوجه ممنوع قولا واحدا.
- الصفة الثانية: أن يجري العمل بين أهل السوق بسعر معين، فيشذ فرد أو أفرادعن ذلك السعر على وجه قد يؤدي إلى الإفساد على أهل السوق، فهذا هو الذي يعبر عنه المالكية بقولهم: يقال لمن حط عن سعر أهل السوق إما أن تلحق بالسعر، وإما أن تقوم من السوق، وهذا الذي يقول به مالك رحمه الله، وهو الذي ورد فيه أثر عمر رضي الله عنه مع حاطب، وسيأتي الكلام على ذلك الأثر عند ذكر الأدلة المتعلقة بالتسعير.
- الصفة الثالثة: أن يحد لأهل السوق سعر يبيعون عليه فلا يتجاوزونه، ويكون ذلك عن مشورة ونظر بين أهل السوق والقائمين عليه من طرف ولي الأمر، فهذا النوع من التسعير منع منه مالك، وقال بمنعه ابن عمر وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، وأرخص فيه سعيد بن المسيب وربيعة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري، وروى أشهب عن مالك في العتبية في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن ثلث رطل، ولحم الإبل نصف رطل، وإلا خرجوا من السوق قال إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق.([15]) فلمالك في هذا النوع من التسعير قولان.
الصفات الثلاث للتسعير تنزل عليها الأقوال التالية للمالكية:
قال محمد بن يونس رحمه الله: “والتسعير عند مالك على أهل الأسواق غير جائز؛ لأن الناس مالكون لأموالهم، وللتصرف فيها، فلا يجبرون على بيعها إلا بما يختارونه”، وإنما يكون التسعير بتراض ومشورة، وأما أن يكره الناس على سعر فلا([16])، قال ابن عرفة: إن حط عن قدر السوق أمر بمساواته أو قيامه([17])، وقد اختلف المالكية في المقصود بحط السعر الذي يؤمر فاعله أن يلحق بأهل السوق، أو ينعزل عنهم، فقال البغداديون: من باع خمسة أرطال بدرهم، والناس يبيعون ثمانية بدرهم، وقال بعض البصريين: هو من باع ثمانية، والناس يبيعون خمسة، قال القاضي عبد الوهاب: وعندي: أن الأمرين ممنوعان([18]).
ومعنى ذلك أنهم اختلفوا في المقصود بحط السعر، هل هو البيع بسعر أعلى من سعر السوق، أم هو البيع بسعر أخفض مما يبيع به الناس؟ لأن رفع السعر حط من كمية البضاعة في مقابل الثمن، وخفض السعر حط من الثمن في مقابل البضاعة، وهذا يدل على تسمية البضاعة سعرا، كما يسمى مقابلها من النقد بذلك.
أما الشافعيةفيعلم مذهبهم في التسعير من الأقوال التالية: قال الشافعي: “الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها ولا شيئا منها بغير طيب أنفسهم، إلا في المواضع التي تلزمهم، وهذا ليس منها.([19]) وقال الجويني: ليس للإمام أن يسعر في وقت رخاء الأسعار وسكون الأسواق؛ فإنه حجرٌ على الملاك، وهو ممتنع، فأما إذا غلت الأسعار، واضطر الناسُ، فهل يجوز للإمام أن يسعّر؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما: المنع طرداً للقياس الكلي، والثاني: الجواز، نظراً إلى مصلحة العامة.([20])
وأما الحنابلة فقد قال ابن قدامة: قال ابن حامد: ليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون”، وقال التسعير سبب الغلاء؛ لأنه يؤدي إلى صدود الجالبين، وكتمان البضائع، فيكثر الطلب ويرتفع السعر([21])، وقال في المبدع: “يحرم التسعير على الناس بل يبيعون أموالهم على ما يختارون”([22])، وقال في الإنصاف: “ويحرم قوله: بع كالناس على الصحيح من المذهب، وفيه وجه: لا يحرم، وأوجب الشيخ تقي الدين([23]) إلزامهم المعاوضة بمثل الثمن، وقال: لا نزاع فيه، لأنها مصلحة عامة لحق الله تعالى”([24]).
بعد ذكر أقوال الفقهاء مع ما تستند إليه من التعليل العقلي، ننتقل إلى بيان مستندها من النقل والأثر:
أدلة تحريم التسعير
– قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء/ الآية: 29]. وجه دلالة الآية على تحريم التسعير: أنه يتنافى مع التراضي الذي جعلته الآية وصفا لازما لزوم الشرط؛ ليتحقق البيع الذي جعله الله سبحانه وسيلة لانتقال الأموال بين الناس.
– حديث أنس رضي الله عنه، قال: غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله ﷺ، فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر، فسعر لنا: فقال رسول الله ﷺ: “إن الله هو المسعِّر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال”.([25]) وجه الدلالة من الحديث واضح، فهو نص في عدم مشروعية التسعير في مثل ذلك الواقع الذي كان يعيش فيه أهل المدينة.
ومن الأدلة على منع التسعير أيضا: الحديث: “لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه”([26])، ويشهد له في المعنى حديث أبي هريرة: “كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه“([27]). وجه الدلالة على منع التسعير: أن طيب نفس المؤمن بما يخرج من يده من ماله معتبر شرعا في حل تملكه والانتفاع به، فإذا لم يحصل ذلك بقي مال المسلم على الأصل وهو الحرمة كالدم والعرض.
مناقشة الأدلة: نورد في أثناء مناقشة الأدلة الإجابة على السؤال الثاني الذي سبق إيراده، وهو: ما صفة التراضي الذي تصح به العقود؟
– قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء/ الآية: 29].
تحرير محل النزاع: مما لا ينبغي أن يتنازع فيه:
– أن الآية تدل على اعتبار الرضا شرطا لصحة المعاملة.
– أن القول بجواز التسعير فيه ما يعارض اشتراط الرضا.
– أن الرضا لا يحصل مع الإكراه؛ لأنه من عوارض الأهلية المكتسبة التي تزيل الرضا، سواء كان الإكراه ملجئا أو غير ملجئ، والملجئ ما خشي منه فوات النفس أو عضو من الأعضاء، وغير الملجئ ما يخشى منه الضرر كالحبس والضرب ([28]).
– أن الأدلة الشرعية قد أثبتت عدم اعتبار الرضا في بعض المسائل، كالشفعة، وسراية العتق الشريك.
– أن الشرع قد نهى عن بعض المعاملات مع حصول الرضا فيها: كتلقي الركبان، والنجش، وكل صفقة حصل فيها غش.
أما المسائل التي هي محل النزاع فهي:
– هل الرضا الذي يتعارض مع التسعير هو الرضا الذي يشترط لصحة المعاملات، كما دلت على ذلك الآية؟ أم هو من الرضا الذي لا اعتبار له في الشرع؟ كما دلت على ذلك المسائل المستثناة بالأدلة.
– هل نهي الشرع عن تلقي الركبان وعن النجش([29]) والغش يدل على عدم اعتبار الرضا إذا صاحبه جهل بالقيمة السوقية للبضاعة، أو غفلة عن النظر إلى ذلك، فيكون الرضا الذي خالطه أحدهما أو ما شابهه معيبا، فلا يصلح لترتب الحكم الشرعي عليه.
الجواب: الرضا نوعان: الأول: الرضا الذي يحقق المصلحة المقصودة من المعاملة للمتعاقدين، وليس فيه اعتداء على حق لأحد، فهذا النوع من الرضا معتبرفي الشرع، وهو شرط في صحة المعاملات، وهو المقصودفي الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ …} [النساء/ الآية: 29].
النوع الثاني من الرضا: هو ما لا يحقق المصلحة؛ لجهل أو غفلة أو غش، أو فيه اعتداء على حق الطرف الآخر، وهذا النوع ألغاه الشرع ولم يعتبره؛ لذلك حكم الشرع للشريك في العقار بحق الشفعة([30])، وإن باع شريكه لشخص آخر، ما دام شريكه مستعدا لدفع القيمة، ومن ذلك أيضا حُكْم الشرع بسراية العتق على نصيب الشريك إذا أعتق شريكه نصيبه، وكان له مال يبلغ قيمة حصة شريكه([31])، ومن الرضا الملغي في الشرع ما يحصل مقترنا بتلقي الركبان([32])، وكذا ما اقترن به غش أو نجش.
رضا المتعاقدين إذن شرط في صحة المعاملة كما دلت عليه الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء/ الآية: 29]. ومما لا خلاف فيه أن الرضا لا يحصل مع الإكراه، فهل يحصلمع الاضطرار أو الحاجة الشديدة؟
تتطلب الإجابة على هذا السؤال بيان حكم بيع المضطر، فمن المضطر؟ ومن المحتاج؟ وما الفرق بينهما؟ وما حكم بيع المضطر؟
الاضطرار لغة: الاحتياج إلى الشيء، وقد اضطر إلى الشيء أي ألجئ إليه؛ والضرورة اسم للمصدر الذي هو الاضطرار، تقول: حملتني الضرورة على كذا وكذا.([33])
الاضطرار شرعا: بلوغ الإنسان حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب([34])، قال تعالى في شأن تناول الميتة: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
الحاجة لغة: الحاجة تطلق على نفس الافتقار، وعلى الشيء الذي يفتقر إليه([35])، والفرق بين الحاجة والفقر: أن الحاجة هيالنقصان؛ ولهذا يقال الثوب يحتاج إلى خزمة، وفلان يحتاج إلى عقل، أما الفقر فهو خلاف الغنى، فأما قولهم فلان مفتقر إلى عقل فهو استعارة، ومحتاج إلى عقل حقيقة([36]).
الحاجة شرعا: هي ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي إلى الحرج والمشقة غالبا([37])، كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يهلك، غير أنه يكون في جَهد ومشقة([38]).
الفرق بين الحاجة والاضطرار: أن الاضطرار أن يكون الإنسان في حال يخشى فيها على نفسه لو لم ينل المطلوب، أما الحاجة فهي أن يكون عدم حصول المطلوب يجعل الشخص في مشقة وحرج.
ما المقصود ببيع المضطر ؟
بيع المضطر: هو البيع الذي يجريه الإنسان مدفوعا بالحاجة الشديدة إلى الطعام أو المال الذي لزمه لغرم أو تغريم من ذي سلطان، فيبيع بأقل من قيمته كثيرا، أو يشتري بسعر مضاعف لاحتياجه([39]). قال الخطابي: بيع المضطر يكون من وجهين، أحدهما: أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه فهذا فاسد لا ينعقد، والوجه الآخر: أن يضطر إلى البيع لدين يركبه، أو مؤنة ترهقه، فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة، فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه جاز في الحكم ولم يفسخ، وسبيل مثل هذا في الدين والمروة أن يعان ويقرض ويُنظر([40]).
حكم بيع المضطر
اختلف أهل العلم في حكم بيع المضطر، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى فساده، وقال الشافعية يصح إذا كان بثمن المثل، فإن لم يكن كذلك فهل يصح أم لا؟ قولان.
بيان أقوال الفقهاء
عد الحنفية بيع المضطر من البيوع الفاسدة، ومثلوا له: بأن يضطر الرجل إلى طعام أو شراب أو لباس أو غيرها، ولا يبيعها البائع إلا بأكثر من ثمنها بكثير، وكذلك في الشراء منه، والقول بالفساد هنا يمكن أن يجمع بينه وبين قول بعض الحنفية بصحة بيع المصادر من قبل السلطان -إذا لم يقل له بع كذا من مالك- وذلك بأن يحمل القول بالصحة على الحالة التي يبيع فيها المضطر ماله بثمن المثل، فلا يعارض ذلك القول بفساد بيع المضطر؛ لأن ذلك يحمل على البيع مع الغبن الفاحش.
أما المالكية فالمضطر عندهم من أجبر على دفع مال فباع لذلك بعض ما يملك، والمذهب عند المالكية: أن البيع فاسد، وبعض المالكية يقول بالصحة، والشافعية يقولون لا يلزم المضطر الشراء إلا بثمن المثل، فإن اشترى بثمن غال وقد أمكنه أخذ حاجته قهرا صح البيع؛ لكن إن كان لا يمكنه الحصول على حاجته إلا بغلاء، فهل يصح بيعه؛ لأنه غير مكره؟ أم لا يصح لأنه في حكم المكره؟ وجهان، أقيسهما أنه لا يعد إكراها، وكذا حكم المصادر([41]) من قبل السلطان، والأصح صحة البيع.
وللحنابلة في بيع المضطر قولان أيضا، هما: التحريم، والكراهة مع الصحة، وقد فسر بعض الحنابلة بيع المضطر بقوله: يجيئك محتاج فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين([42]). وقد جعل ابن حزم بيع المضطر بيعا صحيحا، معللا ذلك بأنه حصل عن تراض، وأن القول بإبطاله يقتضي إبطال بيع كل من لا يصيب القوت من ضيعته، وهذا باطل([43]).
بناء على ذلك يجدر بنا أن نطرح السؤال التالي: هل تكمل أهلية التعاقد مع الاضطرار أو الحاجة الشديدة؟ وما ضابط الحاجة التي لا تقدح في الرضا؟
من الواضح من أقوال الفقهاء في مسألة بيع المضطر ترددهم في كمال أهليته للتصرف؛ وذلك للشبه الواضح بين حاله وحال المكره الذي اتفقوا على عدم صحة تصرفه، وهذا التردد والاختلاف يفيد القطع بأن الرضا الكامل الذي أفادت الآية اشتراطه لم يحصل، فما ضابط ذلك الرضا؟
ننطلق في الجواب عن هذا السؤال من الأدلة التالية: الآية السابقة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ …}.
– {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 185].
– قوله ﷺ: “إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه”.([44])
فالرضا المعتبر شرعا يختلف عن مجرد الموافقة، بل هو أمر فوق ذلك، وهو: الرضا الذي لا يكدره بَخْسٌ لأموال الناس ولا لجهودهم، ولا يشوبه سوء استغلال للحاجة والضعف الناتج عنها، كما أوضح النبي ﷺ في الحديث السابق.
فلنقف ولنتأمل في قول النبي ﷺ: ” فليطعمه مما يأكل وليلبسه …”. فلم يقل النبي ﷺ: فليطعمه ما يسد حاجته، أو يرضى رضا ظاهرا، بل أمر بما يحقق الرضا الكامل بشكل لا يقبل الشك، وذلك بمساواة رب العمل للعامل في نوع ما يطعم وما يلبس، حتى لا يبقى في نفس العامل شيء في الحالة البشرية العادية، ومعنى ذلك أن رب العمل يعطي العامل مقابل عمله ما يُمَكِّنه من تلبية الحاجات الأساسية، وإن كان ظاهر الحديث يقتضي المساواة في مستوى المعيشة، إلا أن هذا الظاهر غير مراد على ما فهمه العلماء من الحديث؛ لأن تفاوت المستويات تابع لحالة الغنى والفقر، وهو أمر اقتضته الحكمة الربانية.
لذلك قال العلماء إن ظاهر الحديث محمول على التفضل والتكرم، لا على الإلزام والوجوب([45])، لكن أقل ما يدل عليه الحديث هو: أن الرضا المعتبر في الشرع يختلف عن الموافقة الظاهرة التي تدفع إليها الظروف المختلفة التي قد تحيط بالعامل: كالفقر، وقلة فرص العمل، وتراكم الأعباء المادية، فالقبول بأجر زهيد تحت وطأة تلك العوامل أو بعضها، لا يعني تحقيق الرضا الذي نصت الآية على اشتراطه لصحة المعاملات المالية.
وهنا تتبين الحاجة لتحديد الحد الأدنى للأجور إنصافا للعامل من جشع الذين يسيئون استغلال ضغط الحاجة والفقر، فلهذا المعنى حرم الشرع بابا عظيما من أبواب الربا، وهو: ربا القرض، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279]. فأعظم الأسباب الداعية لقبول ربا القرض هي الحاجة، فسد الله على أهل الجشع ذلك الباب، ونخشى أن يكونوا قد فتحوا لأنفسهم باب جديدا تحت مسمى: “حرية تحديد الأجور”.
الإجابة عن أدلة القول بعدم جواز التسعير:
أما الحديث السابق عن أنس رضي الله عنه، قال: غلا السعر … فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر، فسعر لنا …”.
يجاب عن هذا الحديث بأنه وارد في عدم مشروعية التسعير، حيث لم يكن ارتفاع السعر راجعا إلى تواطؤ التجار، بل إلى أمر خارج عن إرادتهم وقصدهم، وهذا ما يحدث في البلدان التي تعتمد على ما يجلب إليها من خارجها، فلا يتحكم تجارها في السعر، فعلى هذا المعنى حمل ابن تيمية رحمه الله الحديث، فقال: والمدينة إنما كان الطعام الذي يباع فيها غالبا من الجلب([46])، وقرر هذا المعنى ابن القيم، فقال: لم يكن بالمدينة من يطحن ويخبز بكراء، ولا من يبيع طحينا وخبزا …،([47]) أي أن أهلها لا يتحكمون في الأسعار، فقد يحصل الغلاء دون حصول سبب منهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا وجه للتسعير عليهم.
وأما الاستدلال على منع التسعير بالحديث السابق: “لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه”، وما في معناه، فهذا يجاب عنه بأن نظر الشرع إلى طيب النفس فيما يتعلق بالمال إنما يكون حيث يراد أخذ مال الشخص بغير حق، أما إذا أريد أخذ حق الغير منه، فلا ينظر إلى طيب النفس من عدمه.
أما التعليل الذي استدل به على منع التسعير، كقولهم: إن الناس مسلطون على أموالهم، فلا يمنعون من ذلك إلا بدليل، وكذا القول بأن التسعير يؤدي إلى الغلاء، فهذا يجاب عنه بأن تقييد تسلط الناس: أي تصرفهم الحاصل بالتسعير ونحوه -كتحديد الأجور- على الوجه الذي يصح أن يقال بجوازه، حاصل بالأدلة كما سيأتي بيانه، وأما أنه يؤدي إلى الغلاء فغير مسلم؛ لأن التسعير الذي نرجح القول بجوازه هو ما كان بمشورة ونظر واتفاق بين الأطراف كلها، سواء كانوا بائعين أو مشترين، أو عمال أو أرباب عمل.
بيان أدلة جواز التسعير، ومنه تحديد الحد الأدنى للأجور
- حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: “من أعتق شركا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه، وإلا فقد عتق منه ما عتق”([48]). وجه الدلالة منه إخراج الملك من يد المسلم دون النظر إلى رضاه، وذلك حين يتعارض الرضا مع أمر مقدم عليه في الشرع كحصول الحرية، ومثله المصلحة العامة، فهي مقدمة على المصلحة الخاصة([49])، فمصلحة تحديد الحد الأدنى للأجور إذا دعت إليها الحاجة مقدمة على مصلحة مضاعفة الربح للتاجر أو التجار، وكلما كانت مصلحة أعم من أخرى كانت أولى منها بالتقديم.
- أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعن سعيد ابن المسيب قال: “مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له بالسوق، فقال له عمر رضي الله عنه: “إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا”([50]). الأثر مرسل، ومراسيل سعيد بن المسيب من أصح المراسيل، كما قال غير واحد من أهل العلم.([51]) استدل مالك بالأثر السابق على لزوم العمل بسعر السوق الغالب، فمن خالف من أهل السوق استحق أن يقال له: إما أن تلحق بالسعر وإما أن تقوم من السوق، كما في الأثر المذكور عن عمر، وقد ترجم مالك رحمه الله للأثر المذكور بقوله: “الحُكْرة والتربص”، ومعنى ذلك أن هذا التصرف يمنع منه فاعله كما يمنع فاعل الاحتكار، فهذا المعنى هو الذي يظهر أن مالكا رحمه الله أراد الاستدلال بالأثر عليه، وهو الذي يدل عليه ما نقله الباجي عن عيسيى ابن دينار في تفسير هذا الأثر([52]). قال البيهقي: -معلقا على اللفظ السابق لأثر عمر رضي الله عنه، كما ذكره مالك في الموطأ- “فهذا مختصر، وتمامه فيما روى الشافعي عن الدراوردي، عن داود بن صالح التمار، عن القاسم بن محمد، عن عمر رضي الله عنه أنه مر بحاطب بسوق المصلى، وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له مدين لكل درهم، فقال له عمر رضي الله عنه: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا، وهم يعتبرون بسعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه، ثم أتى حاطبا في داره فقال له: إن الذي قلت ليس بعزمة مني ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع. قال البيهقي: وهذا فيما كتب إلي أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني، أن أبا عوانة أخبرهم، قال: ثنا المزني، ثنا الشافعي، فذكره.([53]) وقد ورد هذا الأثر بلفظ آخر عن عمرو بن شعيب قال: وجد عمر بن الخطاب ابن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة، فقال: “كيف تبيع يا حاطب؟ فقال: مدين، فقال: تبتاعون بأبوابنا، وأفنيتنا وأسواقنا، تقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعا، وإلا فلا تبع في سوقنا، وإلا فسيروا في الأرض واجلبوا، ثم بيعوا كيف شئتم”([54]). الأثر مرسل.([55]) هذا الأثر استدل به المالكية على جواز بعض أنواع التسعير السابق ذكرها، وهو إلزام أهل السوق ألا يرفع بعضهم على بعض في السعر، بل عليهم أن يبيعوا بسعر واحد، فمن خالف استحق أن يقام من السوق.([56]) وقد رأى ابن حزم([57]): أن أثر عمر رضي الله عنه مع حاطب باللفظ الذي ذكره مالك في الموطأ يدل على منع خفض السعر إذا خالف سعر أهل السوق، ثم قال: إن ذلك لا ينكر، وضعف الأثر بذلك اللفظ، واختار اللفظ الذي أورده عبد الرزاق في مصنفه؛ لأنه يدل على كون السبب في تعرض عمر لحاطب هو رفعه للسعر، وقد سبق ذكر لفظي الأثر: لفظ الموطأ، ولفظ عبد الرزاق في المصنف، وكأن ابن حزم لم يطلع على تفسير المالكية للأثر، إذ لو اطلع على ذلك لعرف أنه لا يخالف ما ذهب إليه، وقد سبق أن بعض المالكية يرى منع البيع بسعر أعلى من سعر السوق، وكذا السعر الأخفض من سعر السوق. أما رجوع عمر رضي الله عنه عن أمره لحاطب بمغادرة السوق؛ فلأنه لم ير للإلزام بالأمر حاجة في ذلك الوقت؛ لذلك لم يقض فيه قضاء، كما يدل عليه قوله الذي سبق: “إن الذي قلت ليس بعزمة مني ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد…”، فكأنه لما تردد في وجود الحاجة الداعية إلى ذلك النوع من التسعير ألغى الأمر ولم يعزم عليه، وعلى ذلك لا يكون رجوع عمر دليلا على منع التسعير.
- مشروعية تقييد التصرف لتحقيق المصلحة العامة: من الأمثلة على ذلك: الحكم في الاحتكار ([58])، وتلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي([59]): هذه أمثلة من المعاملات التي حكم فيها الشرع بتقييد تصرف الشخص في ماله إذا أدى ذلك إلى تفويت المصلحة العامة، فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة([60])، فلا يجوز للتاجر أن يغلق مخازنه على البضاعة التي يحتاج إليها الناس طلبا لارتفاع السعر، فهذا هو الاحتكار المحرم، ولا يجوز للتاجر أن يستغل جهل الموردين بسعر السوق التي يقصدونها ببضاعتهم، فيشتريها منهم قبل أن يصلوا على السوق؛ ليستأثر بالربح الحاصل من بيعها في السوق بسعر يومها؛ لأنه بذلك يضر بالموردين بنقص قيمة بضاعتهم، ويضر بالمشترين من السوق حيث يفوت عليهم الحصول على البضاعة بسعر أخفض عند شرائهم من الموردين، وهم الذين سموا في الأحاديث ب “الجلب” أو الركبان، ونهي عن تلقيهم لهذا المعنى المذكور، ومن هذا يعلم جواز تقييد تصرف الشخص في ماله إذا عارض إطلاق التصرف مصلحة عامة، وهذا هو الذي يحصل بتحديد الحد الأدنى للأجور، حتى لا يتمكن أرباب العمل من استغلال غفلة العمال وجهلهم، فيبخسوهم أجورهم، فمصلحة العمال أعم من مصلحة أرباب العمل؛ لأن عددهم لا يقارن بعدد أرباب العمل.
- جواز الإكراه إذا تعارض الرضا مع حق الغير، مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب وأداء النفقة الواجبة، ومثل البيع للمضطر إلى طعام أو لباس، ومثل الغراس والبناء في ملك الغير، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل([61])، وقد سبق الكلام فيما يتعلق بالرضا المعتبر شرعا عند الكلام على الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ …} [النساء/ الآية: 29].
- مراعاة مقصد قطع النزاع، فهو مقصد شرعي، فما دلالته في مسألة تحديد الأجور؟ رعاية الشرع لمقصد قطع النزاع تمتد من العقائد إلى الأخلاق مرورا بالمعاملات، فقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، فدعا أهل الكتاب إلى أمور جامعة بيننا وبينهم، وقاطعة لاستمرار النزاع. ومن ذلك أيضا: نهيه ﷺ عن النجش، وعن بيع المسلم على بيع أخيه، وعن الغش كما في الحديث: أن النبي ﷺ: “نهى أن يبيع حاضر لباد، أو يتناجشوا، أو يخطب الرجل على خطبه أخيه، أو يبيع على بيع أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لِتَكْفأ ما في إنائها أو ما في صحفتها”([62]). وأما ما يتعلق بالآداب والأخلاق فقد ذكر منها في سورة الحجرات ما يؤكد هذا المقصد، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}[الحجرات:12]. فالنهي عن بيع الرجل على بيع أخيه، وعن الخطبة على خطبته، وكذا النهي عن النجش والغش فيه سد باب عظيم من أبواب النزاع والاختلاف، بالإضافة إلى الاحتياط للحقوق، وهذا المعنى يساهم فيه تحديد الأجور مساهمة معتبرة، فكم يثور النزاع بين العمال وأرباب العمل بسبب الأجور؟ وكم تجري الاحتجاجات بمختلف أنواعها بسبب ذلك!.
- النظر السياسي في المسائل الفقهية يؤيد مشروعية وضع حد أدنى للأجور: النظر السياسي في الفروع الفقهية اختلفت حوله أفهام العلماء قديما، ويبدو أن القول بإنكاره يعود لتوهم معنى غير مراد عند الذين أثبتوه، فالنظر السياسي الذي يلزم اعتباره هو ما كان من جنس التطبيق العملي الصادر من الصحابة الكرام، وإن لم يُنَظِّروا له بألفاظ تترجم الفكرة بأسلوب تتناقله الأجيال، فالذين أنكروا لزوم النظر السياسي نظروا إلى غياب الترجمة اللفظية للفكرة النظرية، وغفلوا عن التطبيقات العملية، وهي أوضح دليلا وأقوى حجة، وقد جرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل وبعض الفقهاء، قال ابن عقيل في “الفنون”([63]): “جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنه هو الحزم، ولا يخلو من القول به إمام، فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ﷺ ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك: “إلا ما وافق الشرع” أي لم يخالف ما نطق به الشرع: فصحيح، وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، فغلط، وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف، فإنه كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة …..” وقال ابن القيم معلقا على ذلك: وهذا الموضع مَزَلَّة أقدام، ومضلة أفهام، حصل فيه تفريط من طائفة، فأدى إلى تعطيل الحدود، وتضييع الحقوق، وجَعْل الشريعة قاصرة عن القيام بمصالح العباد، وسد طرق صحيحة لمعرفة الحق؛ ظنًّا منهم أنها تنافي قواعد الشرع، والحق أنها لا تنافي إلا أفهامهم، وأنهم مقصرون في معرفة حقيقة الشريعة والتوفيق بينها وبين الواقع.([64]) مسألة النظر السياسي في المسائل الفقهية تنطبق تماما على موضوعنا، فالذين أنكروا تحديد الأجور بحجة أن النبي ﷺ لم يفعل ذلك غاب عن أذهانهم النظر السياسي الذي ينبني على تغير الأحوال في الزمان والمكان، وهو الذي جعل الصحابة الكرام يستنبطون أحكاما لم تكن في عهد النبي ﷺ؛ لأن المقتضي لتلك الأحكام والداعي لها إنما حدث في عصرهم، فكانت أفهامهم ناضجة متسعة لإخراج تلك الأحكام من معاني الشريعة ومقاصدها، وهذا هو الواجب في عصرنا.
كيف نحقق الحد الأدنى للأجور؟
تمهيد: الهدف من تحديد الحد الأدنى للأجور هو منع نزولها إلى المستوى الذي يعد ظلما، وذلك قد يتحقق دون تحديد مبلغ معين؛ لذلك اكتفت الشريعة الإسلامية في أول الأمر بوضع إطار ضابط، وإيجاد وسائل لضمان ذلك، فهذا هو المنهج الذي سلكته الشريعة الإسلامية، وهو الذي يراعي الاعتماد عليه اختلاف البيئات والظروف والأسباب المتعلقة بهذا المكان أو ذاك، أو هذه الجهة أو تلك، فإذا لم نحسن تطبيق تلك الضوابط، واستعمال تلك الوسائل، فإن المعاني العامة للنصوص الثابتة توفر الدليل الذي يُمَكِّن من القيام بما تقتضيه المتغيرات الجديدة من وضع حد أدنى للأجور، فما ذلك الإطار الضابط؟ وما تلك الوسائل؟
الإطار الضابط: هو مراعاة الحكمة، وتحقيق الكفاية:
- تحقيق الحكمة الربانية في اختلاف المستويات المادية بين الناس، وتنوع حاجاتهم، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]. أي ليخدم بعضهم بعضا([65])؛ فذلك سبيل قضاء حاجة المخدوم والخادم، فالمخدوم بحاجة إلى من يقوم له بالعمل، والخادم أو العامل بحاجة إلى من يدفع له أجرة يسد بها حاجته، فإذالم تؤد خدمة بعضهم لبعض إلى ذلك لم تتحقق الحكمة والمقصد الإلهي من ذلك التفاوت المادي القدري، وذلك ينذر باختلال في النظام العام للحياة البشرية؛ إذ لولا ذلك لما صلح لتلك العناية الإلهية.
- تحقيق الكفاية: فالهدف المشروع للعامل -كما تشير إليه الحكمة المذكورة في الآية السابقة- هو تحقيق الكفاية من العائد من العمل -إذا كانت مقدرة رب العمل أو جهة العمل تسمح بذلك- فإذا لم يحصل ذلك، فلا أقل من أن تدفع إلى العامل أعلى أجرة مناسبة ممكنة، بالنظر العادل إلى المستوى المادي لجهة العمل، فهذا ما دلت عليه السنة العملية للنبي ﷺ، في معاملته لأهل خيبر، فكانت غاية في الإنصاف والسعي لتحقيق الكفاية للعامل، بل قد جاءت السنة القولية بالنص على ذلك صريحا، كما في قول النبي ﷺ: “من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادما، أو ليست له دابة فليتخذ دابة”([66]) وقوله النبي ﷺ: “إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه”.([67]) فإذا لم يجد العامل المساواة، فلا أقل من حصول الكفاية المتناسبة مع العمل.
الوسائل الشرعية لتحقيق الحد الأدنى للأجور؟
- تربية النفوس على تجنب الشح: بينت الأدلة الشرعية مدى الحاجة إلى ذلك، فالأنفس البشرية مطبوعة على الشح وقلة الإنصاف، فلا يمكن أن يوكل إليها النظر للغير، قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:128]. والشح هو أن لا يسمح الإنسان لغيره بشيء من حظوظ نفسه([68])، وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. وقد راعت الأدلة الشرعية في علاج هذه الحالة تنوع النفوس البشرية من حيث المؤثرات، فبعضها يعالج برفع الهمة إلى معالي الأمور، كما يظهر من قول النبي ﷺ: “رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى”([69]). ومن ذلك قول النبي ﷺ في حق الرجل الذي جاء يتقاضاه فأغلظ القول: “دعوه فإن لصاحب الحق مقالا، ثم قال: “أعطوه سنا مثل سنه”، قالوا: يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سنه، فقال: “أعطوه فإن من خيركم أحسنكم قضاء”.([70]) فالنبي ﷺ يريد أن يرفع بهذه الأقوال والأفعال همة متعاطي الاستدانة إلى أن يكون حسن القضاء، وكذا البائع والمشتري، فهذا الإحسان في التعامل يربي النفوس على تجنب الشح.!
- التشجيع على تحقيق أعلى مستوى من رضا العاملين: هذا المعنى واضح من الأحاديث السابقة، كدعائه ﷺ لصاحب السماحة في البيع والشراء، وثنائه على الذين يتصفون بالإحسان عند قضاء ما عليهم من حقوق، فيزيدون على الواجب سعيا لتحقيق الرضا الكامل للمتعامل، والعامل مثله، فهو صاحب حق من جهة، ومن جهة ثانية يعد صنفا من أصناف المتعاملين، وقد بينت السنة العملية في معاملة أهل خيبر([71]) طريقة من طرق تحقيق رضا العاملين، ومن ذلك أيضا ما قص النبي ﷺ عن الأمم السابقة، مما يقوم مقام الدعوة إلى الاقتداء بهم، فمن ذلك قوله: “كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه”([72]).
- ربط الأجر بالربح والإنتاج: كما فعل النبي ﷺ في معاملته لأهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع([73])، فهذه السنة العملية توجه إلى هذا المعنى الذي يشجع الإنتاج، ويعلم رب العمل الوسيلة الأمثل لنجاح مشروعه، فالعامل إذا علم أن العائد المالي الذي يبحث مرتبط بما يحققه المشروع من إنتاج وربح، فذلك أدعى لبذله جهدا مضاعفا في العمل، أما إذا رأى الأرباح المضاعفة يستأثر بها دونه فذلك ما يثبطه، إذا لم نقل إنه يؤدي إلى نقمته.!
- تدخل ولي الأمر: حين يحل صوت الخصومة محل هدوء الاتفاق، وتتنفس النفوس الشحناء والبغضاء بدل الألفة والمحبة، وتزدحم المحاكم، وتتعطل المصالح، فهنا يأتي دور ولي الأمر في المحافظة على المصلحة العامة، حيث وجهته الأدلة الشرعية، وعضدته أقوال الفقهاء؛ إذ لا يخلو مذهب من المذاهب الأربعة المشهورة، من قول بجواز التسعير حين تقتضي المصلحة العامة ذلك، وقد سبق بيان ذلك عند ذكر أقوال الفقهاء في حكم التسعير، وتحديد الحد الأدنى للأجور نوع منه.
- تشكيل لجنة من الخبراء: تدرس اللجنة حالة الأجور، مقارنة بالنشاط الاقتصادي وما يحققه من أرباح، وما يتطلبه من مصاريف، بالإضافة إلى النظر تكلفة المعيشة والحاجات الأخرى التى لا يستغنى عنها، ويذكر الفقهاء في هذا المعنى أن على اللجنة التي تنظر في أمور السوق أن تجمع أهل الرأي والبصيرة، وتشاور المعنيين بالأمر، لتبني على ذلك اتخاذ القرار الذي يحفظ مصالح التجار والمستهلكين([74])، وهذا المعنى يشمل العمال وأرباب العمل، فالعمال يبيعون جهدهم، وأرباب العمل يشترون منهم بقدر حاجتهم.
كيف تحدد اللجنة الحد الأدنى للأجور؟
قرار اللجنة المكلفة بذلك ينبغي أن يكون مبنيا على أمور، منها:
- تقدير الحاجات الأساسية للعمال، وذلك مرتبط بمكان الإقامة من حيث ارتفاع تكلفة المعيشة وانخفاضها، وإذا كان العمل في بلد غير البلد الأصلي للعمال الذي تعيش فيه أُسَرُهم، فهل يكون النظر في أمرهم متعلقا ببلد العمل؟ أم بالموطن الأصلي؟ أم بهما معا؟ كما يرى الدكتور الغامدي([75]).
- حجم النشاط الاقتصادي لجهة العمل، وما يتوقع منه من أرباح، وذلك حين يكون للعامل دور أساسي فيه، أما إذا كان ذلك عائدا لحجم النشاط الاقتصادي، ولتنوع وسائله وتطورها، فهنا لا يكون لليد العاملة دور كبير فيه.
- تقدير الجهد والوقت الذي يبذله العامل في أداء العمل، فالعمل الذي يستغرق معظم وقت العامل، أو يستنفد جهده وطاقته ليس كغيره، فيعتبر ذلك في تقدير الأجرة.
بناء على هذه الأمور وما يرتبط بها، وبالتشاور مع أصحاب الشأن والاتفاق معهم تصدر اللجنة تقديرا للحد الأدنى للأجور، تراعى العوامل المتغيرة في الواقع، وينظر فيه إلى مصلحة العمال وأرباب العمل.
الخاتمة
- المبادئ التي تقوم عليها الدعوة إلى تحديد الأجور سبقت إليها الشريعة الإسلامية، وإن أهمل أكثر المسلمين تطبيقها ونشرها والدعوة إليها.
- وضعت الشريعة الإسلامية الضوابط والوسائل التي تمنع الظلم في الأجور، إذا أحسنا العمل بها.
- الوسائل الشرعية لتحسين الأجور تراعي الجانب النفسي والمادي وتربط بينهما.
- الوسائل الشرعية لتحسين الأجور تشجع الإنتاج، وتقوي العلاقة بين العمال وأرباب العمل.
- النظرة الشرعية إلى الأجور تراعي مصلحة العمال وأرباب العمل.
- فهم بعض الفقهاء السابقين من الأدلة الشرعية أن ضبط بعض الحقوق المادية يحتاج إلى مشورة واتفاق من الأطراف المعنية.
- لا يستغنى عن دور أولياء الأمور في ضبط الحقوق التي يكثر النزاع حولها.