الحرام ليس على درجة واحدة في الإثم والعقوبة، فله مراتب ودركات، فالشرك ليس كالكذب، والزنا ليس كالنظر إلى الحرام، والمكروه كذلك فمنه ما كره تحريما ومنه ما كره إرشادا وتنزيها. قال القرافي في الفروق: (الحرمة عندنا في المحرم لعارض والكراهة في المكروه لعارض أخف منهما في المحرم لذاته والمكروه فافهم)([1]).
والمحرم هو الممنوع وما لا يحل انتهاكه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ }[القصص:12]. أي منعناه منهن، ومنه قوله : ((ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه)) متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه واللفظ لمسلم.. فمحارم الله هي المعاصي التي منع من ارتكابها والإقدام عليها: كالقتل والزنى والسرقة والقذف وشرب الخمر والكذب والغيبة والنميمة وأشباه ذلك.
وللمحرم أسماء كثيرة عد ابن النجار منها جملة فقال: (ويسمى محظورا، وممنوعا، ومزجورا، ومعصية، وذنبا، وقبيحا، وسيئة، وفاحشة، وإثما، وحرجا، وتحريجا، وعقوبة)([2]).
كما يسمى الحرام أيضا حجرا، ويسمى مكروها قال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].
ولهذا كان بعض السلف يطلقون المكروه على الشيء المحرم تورعا، كراهية إطلاق التحريم على ما ليس فيه نص مبين. ([3]).
ويدل على تفاوت درجات الحرام ما تقرر في القاعدة الأصولية من أن: “المحرم لذاته أقوى من المحرم لغيره“.
وهذه القاعدة ذكرها الأصوليون في مسألة المنهي عنه لذاته والمنهي عنه لغيره، قال المرداوي في التحبير: (المنهي عنه أقسام: أحدها: أن يكون النهي عنه لعينه … الثاني: أن يكون النهي عنه لخارج، …)([4]).
والمنهي عنه هو المحرم لاقتضاء النهي للتحريم، فالمحرم لذاته، إنما منع لعينه بسبب ما اشتمل عليه من مفاسد ومضار، وأما المحرم لغيره، فالتحريم فيه عارض وحكمه ابتداء الوجوب أو الندب أو الإباحة، ولذا فإن ما كان محرما لذاته لا يباح الإقدام عليه إلا عند الضرورة وأما المحرم لغيره فيباح للحاجة كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت الصلوات ذوات الأسباب من الصلاة المنهي عنها بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال لسد ذريعة التشبه بالنساء وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة وهكذا.
قال ابن القيم: ( المحرمات نوعان: محرم لذاته لا يباح بحال، ومحرم تحريما عارضا في وقت دون وقت)([5]).
وهذا التقسيم يدل على أن المحرم لذاته أقوى من المحرم لغيره، فالمحرم لذاته غير مشروع أصلا، لتطرق الخلل إلى أصل سببه ووصفه، بفقد ركن من أركانه أو شرط من شروطه، فيقع باطلا، والباطل شرعا لا يترتب عليه حكم.
وأما المحرم لعارض فهو في ذاته مشروع فيصلح سببا شرعيا وتترتب عليه آثاره؛ لأن التحريم عارض له وليس ذاتيا. ولهذا قال جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة بوقوع الطلاق البدعي. والعلة في هذا، أن التحريم لعارض لا يقع به خلل في أصل السبب، ولا في وصفه ما دامت أركانه وشروطه مستوفاة([6]).
الفرق بين المحرم لذاته والمحرم لغيره والمكروه لذاته والمكروه لغيره:
يتجلى الفرق بين المحرم لذاته والمحرم لغيره باعتبار سبب التحريم أولا، فالمحرم لذاته سبب المنع منه هو ما اشتمل عليه من مفاسد وانطوى عليه من مضار، فالنهي عنه على سبيل القصد والأصالة، كتحريم الظلم .
وأما المحرم لغيره فسبب تحريمه كونه ذريعة مفضية إلى مفسدة، فالنهي عنه آت على سبيل التبعية لا الأصالة، كتحريم البيع بعد النداء الثاني من يوم الجمعة، وكالنظر واللمس والخلوة لأن ذلك قد يفضي للزنا.
وقد ذكر القرافي في الفروق أن التسمية تباح عند إتيان المحرم لغيره دون المحرم لذاته فقال :( وقيل: وهو الراجح تكره على المكروه لذاته وتحرم على المحرم لذاته إذ المراغمة إنما تتحقق حينئذ دون ما إذا كان لعارض لأن العارض إنما يتسبب عنه منع الاستعمال فقط ولا يمنع التسمية إذ المحل في ذاته قابل لها فلا مراغمة كذا في حواشي البهجة نقلا عن العباب وغيره)([7]).
وقد عقد فصلا في تحرير الفرق بينهما و ذكر أن ضابط التمييز بينهما هو: كون المحرم لذاته غير مقرون بعلة ومثله المكروه لذاته، بخلاف المحرم لغيره والمكروه لغيره فقال:( في زيادة تحرير هذا الفرق ببيان الفرق بين المحرم والمكروه لذاته وبين المحرم والمكروه لعارض قال العلامة الأنبابي في تقريراته على باجوري السنوسية: يظهر أن المراد بالمحرم لذاته والمكروه لذاته ما لم يكن تحريمه وكراهته لعلة يدور معها وجودا وعدما والمحرم لعارض والمكروه لعارض ما كان تحريمه وكراهته لعلة يدور معها وجودا وعدما فالزنا وشرب الخمر من قبيل المحرم لذاته لأن تحريم الزنا لا يدور مع علته التي هي اختلاط الأنساب وجودا وعدما إذ قد تنتفي العلة ويوجد التحريم كما إذا وطئ رجل صغيرة.
وكذلك تحريم شرب الخمر لا يدور مع علته التي هي الإسكار إذ قد ينتفي الإسكار ويوجد التحريم كما إذا اعتاد الشخص شرب الخمر بحيث لا يؤثر في عقله شيء أو شرب قدرا لا يسكر، والوضوء بماء مغصوب من المحرم لعارض لأن تحريمه يدور مع علته التي هي الاستيلاء على حق الغير عدوانا وجودا وعدما، والنظر لفرج الحليلة من قبيل المكروهلذاته؛ لأن كراهته لا تدور مع علته التي هي خوف الطمس مع عدم الحاجة إذ قد تنتفي العلة وتوجد الكراهة كما إذا أخبره معصوم بأنه لا يحصل له طمس إذا نظر لفرج حليلته، والوضوء بالماء المشمس من المكروه لعارض؛ لأن كراهته تدور مع علته التي هي: خوف البرص وجودا وعدما، فإذا امتنعت العلة بأن لم يكن تشميسه في نحاس أو كان فيه ولم يكن القطر حارا انتفت الكراهة؛ وبهذا اندفع ما يقال: لا يعقل فرق بين المحرم والمكروه لذاتهما، وبين المحرم والمكروه لعارض” اهـ)([8]).
كما يمكن التفريق بين المحرم لذاته والمحرم لغيره باعتبار الثمرة، فالمحرم لغيره يجوز عند الحاجة وهي من قبيل المصالح الراجحة ولذا اختصت بارتكاب المحرم لغيره، وهو ما نهي عنه سدا للذريعة، قال ابن القيم: (وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة)([9]) بخلاف الضرورة فإنها تبيح ارتكاب المحرم لذاته، وتبيح أيضا ارتكاب المحرم لغيره من باب أولى؛ لأن المحرم لذاته أقوى في التحريم والمنع من المحرم لغيره، وانظر إلى تقعيد ذلك وتقريره في كلام العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله، حيث يقول في فتاويه لما سئل عمن زنى بامرأة حائض، هل يستحب له التصدق بالدينار أم لا؟ فأجاب أنه لا يستحب له ذلك كما يصرح به كلامهم من وجوه وذكر منها: (أنهم عللوا عدم وجوبها خلافا للقول القديم الموجب لها بأنه وطء محرم، للأذى فلم يجب به كفارة كاللواط، فقولهم: محرم للأذى مخرج لوطء الزنا فإنه محرم لذاته لا لعارض، فلم يندب فيه ذلك لأنه لم يطرأ له ما يخرجه عن أصله بخلاف وطء الحليلة فإنه حلال لذاته فإذا طرأ له ما أخرجه عن ذلك ناسب أن يكفر، وأن تكون كفارته مندوبة نظرا لحله في الأصل لا واجبة، وبذلك فارق وجوب كفارة الظهار، لأنه يحرم لذاته)([10]).
ثم إن المحرم لذاته يعتبر باطلا فلا يترتب عليه أثر سواء أكان عقدا أو عبادة، بينما المحرم لغيره يترتب عليه أثره على خلاف بين العلماء في ذلك.
وقد ذكر الشيخ محمد بن علي بن حسين مفتى المالكية بمكة المكرمة بعض الأمثلة التي تبين الفرق بين المحرم لذاته والمحرم لغيره والمكروه لذاته والمكوه لغيره فقال بعدما ساقها: (… وبهذا اندفع ما يقال لا يعقل فرق بين المحرم والمكروه لذاتهما وبين المحرم والمكروه لعارض لأنه إذا نظر للشرب من حيث هو فجائز وإن نظر لكونه متعلقا بالخمر فهو حرام كما أنه إن نظر للوضوء في ذاته فهو جائز وإن نظر لكونه بماء مغصوب فهو حرام)([11]).
([1]) الفروق ج1 ص149.
([2]) شرح الكوكب المنير ج1ص 386.
(([3] إعلام الموقعين ج1ص35.
[4])) التحبير شرح التحرير في أصول الفقه ج5/ص 2298.
([5]) إعلام الموقعين ج1 ص38.
([6])علم أصول الفقه لخلاف، ص108.
[7])) الفروق للقرافي ج1 ص146.
([8]) المصدر السابق ج1ص510.
([9]) إعلام الموقعين ج2 ص108.
([10]) الفتاوى الكبرى للهيتمي، ج1 ص82.
([11]) تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية.ج1/ص150.