دأب الباحثون المحدثون على دراسة تاريخ الإسلام المبكر لأهميته في فهم أصول التشريع وطرائق التفكير وأساليب العيش الإسلامي، والمستشرقون هم أول من اعتنى بالحياة الفكرية وظهرت لهم دراسات أوضحت معالم الحياة الفكرية وتطورها من الرواية إلى التدوين، وبينت كيف نشأت العلوم الإسلامية، ورصدت أوائل المصنفات التي صاغت القواعد المنهجية التي تأسست عليها العلوم الإسلامية، ومن ذلك كتابات شاخت حول نشأة الفقه الإسلامي، وجولدتسيهر حول تدوين الحديث وغيرهما كثير، وتعدى الاهتمام إلى الدارسين المسلمين في مرحلة لاحقة فظهرت كتابات تؤرخ لنشأة العلوم الإسلامية، وفي السطور التالية أتناول الجدل الفكري الذي دار الرواية والسماع وبين التدوين في صدر الإسلام وأبين موقف العلماء منه، وأعرض لآراء بعض الدارسين المعاصرين حول عملية التدوين.
العلم مشافهة: الرواية والإسناد
اعتاد الباحثون الاعتماد على الكتب دون سواها في التأريخ للحياة الفكرية وإهمال عصر ما قبل الكتابة واعتباره خلوا من أي مظاهر فكرية، ولا يخلو هذا المسلك من أخطاء، فالحياة الفكرية تعبر عن نفسها في صور متعددة بعضها شفهي وبعضها كتابي، ولا يخلو مجتمع من مظاهر الثقافة والفكر، من جانب آخر لا تعبر الكتابة بشكل صادق عن الحركة الفكرية ذلك أن حجم الكتب المنتجة قد لا يعبر عن حيوية الحركة الفكرية التي ربما تكون على أشدها، وينطبق هذا على القرن الإسلامي الأول ففي ذلك الحين لم يكن الورق متداولا بكثرة، وكانت الكتابة تتم على الحجارة وسعف النخيل والجلود وهو ما لا يوفر مادة يسيرة تسمح بانتشار الكتاب.
ويزيد من صعوبة التأريخ للحياة الفكرية في صدر الإسلام اعتماد علماء القرن الأول على السماع والمشافهة في نقل العلم وإيثارهم إياه على التدوين والكتابة، وتسوق لنا المصادر التراثية بعضا من دوافعهم في ذلك، فقد أورد الخطيب البغدادي في (تقييد العلم) نصوصا عدة في كراهة الصحابة كتابة غير القرآن، واستخلص من ذلك: (أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول لئلا يضاهى بكتاب الله غيره، أو يشغل القرآن بسواه.. ولقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره، لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين ولا جالسوا الفقهاء العارفين، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن”.
وكلام البغدادي ينفي عن الصحابة تهمة كراهة الكتابة لذاتها، ويوضح جانبا من الدوافع الموضوعية التي جعلتهم يؤثرون السماع، وأما الدوافع الأخرى فمنها: منع تعلق الناس بها وانصرافهم عن الاهتمام بالقرآن، سيما وأنها من صنع بشر لا يضاهي أسلوبهم أساليب القرآن التي تحتاج إلى بيان، والخوف من أن تغدو مصدرا لفهم الشريعة عوضا عن القرآن، وحول هذا المخاوف يروى عن أبي هريرة قوله (ما ضل الأمم قبلكم إلا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله) ويروى أن عمر ابن الخطاب أراد كتابة السنن لكنه تردد وقال (ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا).
وإذا كانت هذه المبررات التي ساقها أهل السلف لتفضيل السماع على التدوين فإن الباحثين المعاصرين يسوقون مبررات أخرى؛ ومنها ما ذكره المؤرخ العراقي صالح أحمد العلي وتتعلق بأن السماع يكرس منزلة العلماء ويجعلهم مقصد الراغبين في التعلم فيصبحون المرجع في أمور الدين والشريعة دون سواهم، ويضيف سببا آخر وهو أن السماع يجنب العلماء مشاكل الكتابة وصعوبة التعبير، فضلا أن بعضهم ربما جانب الصواب في مسألة يشرحها لكنها ربما تمر على السامعين أما الكتابة فإنها تجعل من اكتشاف الخطأ أكثر سهولة لأنها مستند مادي، وما ذهب إليه الأستاذ العلي لا يدعمه أي مصدر تراثي، ولا ندري من أين استقاه فهو لا يقدم لنا مراجع في هاتين الجزئيتين، من جانب آخر كيف يستقيم القول بتجنب العلماء الكتابة خشية اكتشاف أخطائهم مع تراجعهم عن كثير مما اعتنقوه ودونوه، وإثبات ذلك في كتبهم جيلا بعد جيل، الأمر الذي يعد مثلا أعلى للنقد الذاتي.
على أي حال فإن الظروف التي حدت بالعلماء إلى الاعتماد على السماع دون التدوين ما لبثت أن تبدلت واتضحت بعض مثالبه، ومنها: أن الاعتماد على السماع يؤدي إلى قصر الحفظ على جمل قصيرة مختصرة هي بمثابة القواعد الكلية، وأن الراوي ربما يتصرف في الجمل على نحو يؤدي إلى تحوير الفكرة وتبديلها عن معناها عن قصد أو بدونه، وربما سقطت من ذاكرته بعض الحفظ فيختل بناء الفكرة ، وأخيرا ربما عمد الراوي إلى اختلاق بعض المرويات والزعم بأنه تلقاها من أكابر العلم، ولعل هذه الظروف هي التي دفعت العلماء -سيما علماء الحديث- إلى تلافي هذه الأخطار ومحاولة ضبط النصوص من خلال وسائل ابتدعوها وعلى رأسها الإسناد، ويعني اسناد الراوي القول إلى قائله عبر سلسلة من الرجال الذين اتصل بعضهم ببعض، وهكذا نما “علم الرجال” وتطور وصارت هناك معايير علمية وخلقية ينبغي توافرها فيمن يؤخذ وينقل عنهم العلم.
وتنقل لنا المصادر قولا لـ محمد ابن سيرين (ت: 110ه) يبين سبب ظهور الإسناد فقد قال “لم يكونوا يسألون عن الاسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم” ولا يفصح ابن سيرين عن طبيعة هذه الفتنة التي خلفت آثارها على الحياة الفكرية وألجأت العلماء إلى ابتداع وسائل تحول دون اختلاق الحديث الشريف، وتضبط عملية نقل المعرفة.
التدوين ومزاياه
بحلول القرن الثاني الهجرى كانت كفة التدوين قد رجحت على السماع، وكان للتطور الاجتماعي والفكري أثرهما في ذلك، فالجهاز الإداري للدولة المؤلف من الدواوين المختلفة تمدد وتفرع وكانت نواته الأساسية الكتبة الذين يدونون الدفاتر التي تبين إيرادات الدولة ومصروفاتها وكل ما يتصل بالأقاليم، ولقد كان لازدهار الحركة الفكرية ونشاطها أثر مماثل فلم يعد عدد العلماء محدودا بل كان لكل مصر علماؤه، وكذلك اتسعت العلوم وظهرت علوم جديدة غير الحديث والتفسير وقد أدرك العلماء طبيعة هذه التطورات التي حتمت التدوين، ويعبر الرامهرزي في كتابه (المحدث الفاصل) عن ذلك بالقول”: إنما كره الكتاب من كره من الصدر الأول لقرب العهد وتقارب الإسناد، ولئلا يعتمده الكاتب فيهمله، أو يرغب عن تحفظه والعمل به، فأما والوقت متباعد، والإسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنقلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون، فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى”.
ولا ريب أن العلماء سرعان ما أدركوا مزايا الكتابة، فهي تحفظ العلم وتصونه وتمنع اندراسه بموت العلماء، وهي لا تحصر العلم في نفر من الحفاظ وإنما تمكن أي إنسان من الرجوع إليه متى أراد، كما أنها تيسر انتقال العلم وشيوعه بين البلاد المختلفة، فالعالم يستطيع نقل أفكاره دون تكبد مشقة التنقل من مدينة لأخرى، وكذلك المتعلم يجد ما يحتاجه مدونا في الكتب فلا يضطر إلى مغادرة بلدته لأجل طلب العلم.
استحسن جل العلماء طريقة التدوين واعتبروها وسيلة أكثر انضباطا في نقل العلم، ويروى أنه قيل لأحمد بن حنبل لقد كره قوم كتابة الحديث فقال: “إذا يخطئون إذا تركوا كتاب الحديث ..حدثونا قوم من حفظهم وقوم من كتبهم فكان الذين حدثونا من كتبهم أتقن”، ويدعم قوله هذا ما ذكره يحيى بن سعيد من أنه ظل ست عشر سنة يحدث أن ابن عمر كان يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير قبل ما يغيب الشفق ثم نظرت في كتابي فإذا هو بعدما يغيب الشفق. وكان محمد بن عمر يصر على مستمعيه أن يكتبوا خوفا من أن يخطئوا في النقل عنه.
آراء معاصرة بشأن التدوين
ينظر كثير من الباحثين المعاصرين إلى عصر التدوين باعتباره الإطار المرجعي الذي تشكل خلاله العقل الإسلامي المعاصر فأنتج الثقافة التي ثُبتت أركانها وتعينت حدودها ورسمت اتجاهاتها منذ هذه الحقبة الباكرة، وهذه الثقافة يعتبرها محمد عابد الجابري “ذات زمن واحد منذ أن تشكلت إلى اليوم، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الخالية، يعيشه دون أن يشعر باغتراب أو نفي مع الماضي.. بل بالعكس هو لا يجد تمام ذاته .. إلا باستغراقه فيه وانقطاعه له”.
يرجح الجابري في كتابه (تكوين العقل العربي) أن بداية عصر التدوين كانت عام 143ه، وذلك استنادا لرأي الإمام الذهبي، وهو يفترض أن التدوين لم يكن مجرد جمع وتبويب للمعرفة وإنما انطوى على “رأي” إذ لابد من انتقاء وحذف وتقديم وتأخير لما يمكن أن يصبح تراثا للأجيال القادمة، وهذه الجزئية سبقه إليها صالح العلي ولعله استقاها منه، لكنه يضيف إليها مسألة أخرى أكثر جوهرية وهي أن من قاموا بالتدوين اتبعوا منهجية أهل الحديث ومفادها: أن القول بصحة الحديث لا تعني أنه صحيح على وجه القطع بل هو صحيح على شروط أهل الحديث، ويستخلص من ذلك ” الموروث الثقافي الإسلامي “ليس صحيحا على وجه القطع بل هو صحيح على شروط أهل العلم” الأمر الذي يفتح المجال أمام التشكيك في هذا التراث رغم ادعاؤه أنه لا يستهدف ذلك وإنما التأكيد على أن الشروط التي صاغها العلماء لم تكن علما وإنما كانت “رأيا” وبعبارة أخرى هوى أو أيديولوجية، وليس أدل على ذلك من أن التدوين لم يشمل علوم الكلام التي كان التصنيف فيها سابقا للعام الذي حدده الذهبي، ولم يشمل كذلك التراث الشيعي واقتصر على المرويات السنية.
وتحليل الجابري لعصر التدوين الذي بناه على نص تراثي وحيد للإمام الذهبي يستوقفنا لعدد من الأسباب: أولها أنه لم يكلف نفسه عناء العود للمصادر الأساسية التي تحدثت عن التدوين مثل: تقييد العلم للبغدادي، وجامع بيان العلم لابن عبد البر وغيرهما من المصادر التي لا يجوز تجاهلها والغض عنها، بل إن هذا النص الذي نقله عن الذهبي لم يراجعه على أصله بل نقله عن تاريخ الخلفاء للسيوطي. وثانيها تجاهله الآراء القائلة إن التدوين كان سابقا للتاريخ الذي حدده الذهبي، وهو الأمر الذي نجده في (الفهرست) لابن النديم كما نجده لدى فؤاد سزكين في كتابه (تاريخ التراث العربي) الذي أحصى بضع عشرات من الكتب في القرن الأول دونت أسماؤها في بطون الكتب ولكنها فقدت. وأخيرا قوله إن التدوين تضمن إقصاء لما هو مخالف لرأي العلماء يجانب الواقع، فقد تم تدوين جل الآراء، فنحن نجد في كتب الفقه بيانا بالآراء الشاذة والضعيفة والمتروكة جنبا إلى جنب مع الآراء المعتمدة وكل هذا لا لشيء سوى الحرص على إثبات كافة الآراء في المسألة.
وأخيرا يمكن القول إن إيثار علماء الصدر الأول للسماع كان لأسباب موضوعية، فلما تبدلت الظروف والأحوال وانتفت الأسباب تحولوا إلى التدوين، ولم يستنكفوا عن تدوين جميع الآراء ما اعتقدوا صحتها وما أيقنوا بطلانها.