يقدم لنا الفكر الإسلامي في خبرته التاريخية “نموذجاً للتعددية” يتمثل في تفاعل الأصول الفكرية (النص المقدس) مع الواقع (العملي) فيما يتعلق بالأقليات الدينية في المجتمع الإسلامي، فقد وضع القرآن مجموعة من القواعد الكلية العامة لعلاقة المسلم بغيره في المجتمع وبالأخص مع “الأقليات الدينية” ثم بينت ذلك السنة وأكدت عليه، ثم ظهر في الواقع العملي ليمثل صورة شبه كاملة عن مضامين التوجه الإسلامي العام الذي يقر “التعددية” قولاً و “عملاً”، حيث إن الفصل بين “القول” و “العمل” نهى عنه الشارع وذمه، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3) ] (الصف : 2- 3 ) .
ونستعرض فيما يلي الأصول الفكرية والتاريخية التي قدمها “الفكر” و”الواقع الإسلامي” للتعددية نموذج الأقليات الدينية*.
أولا: الأصول الفكرية
(أ) – القرآن الكريم: أرسى القرآن الكريم عدة قواعد تمثل الدستور الإلهي للعلاقة مع غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي، هذه القواعد تتمثل فيما يلي:
قاعدة 1- البر والقسط، يقول تعالي: [لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] (الممتحنة 8)
والبر في اللغة هو “الصلاح والخير”[1]والقسط هو “العدل”. ويقال أقسط وقسط إذا عدل”[2] يقول القرطبي في هذه الآية إنها “رخصة من الله تعالي في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم، … وقوله تعالى “تقسطوا إليهم” أي تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة”[3]، ويذكر الطبرسي نفس المعنى بقوله “… أي ليس ينهاكم الله عن مخالطة أهل العهد، الذين عاهدوكم على ترك القتال، وبرهم، ومعاملتهم بالعدل”.[4]
أما صاحب الظلال فيعلق بمعنى أوسع إذ يرى في هذه الآية دلالة واسعة على المنهج القيمي للإسلام، “فالإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين. وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله.. فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة”.[5]
وبهذه القيم: العدل، الخير، المحبة يضع الإسلام القاعدة الأولى في منهج المسلم في علاقته بـ “الآخر الديني”.
قاعدة 2- القواسم المشتركة “التوحيد الكلي”
أشار “النص القرآني” إلى قاعدة “التوحيد الكلي” أو “الإيمان العام” الذي يشترك فيه المسلم مع غيره من أصحاب الشرائع السماوية قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] (البقرة: 62 ).
[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64 ).
[شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ] (الشورى: 13)
تشير هذه الآيات إلى المكونات الرئيسية لمن يشتركون في الإيمان العام أو التوحيد الكلي وهم: الهيود، والنصارى، والصابئين .
قاعدة 3: العلاقة الفكرية والثقافية (الجدال بالحسنى)
قال تعالى: [وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (العنكبوت: 46) .
قاعدة 4: العلاقة الاجتماعية (الاندماج في الجماعة الاجتماعية)
قال عز وجل: [اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] (المائدة: 5).
(ب) – سنة النبي -صلي الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين
كما وضعت السنة وسيرة الخلفاء عدة “بيانات عملية” تدعيماً للأسس الفكرية لعلاقة المسلم مع غيره، ومنها:
البيان الأول: حق الحياة، عن عبدالله بن عمرو (رضي الله عنهما) عن النبي -ﷺ- قال “من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً.[6]
البيان الثاني: الدفاع المشترك، عن عمرو بن ميمون عن عمر -رضي الله عنه- قال: “وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله -ﷺ- أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم”.[7]
البيان الثالث: حق الاندماج في المجتمع، في العلاقات المالية والتجارية وغيرها عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: “توفي النبي -ﷺ- ودرعه مرهونه عند يهودي بثلاثين، يعني: صاعاً من شعير.[8]
ويتبين مما تقدم أن الفكر الاستراتيجي “الإسلامي” قد راعى في منهجه الاجتماعي والوطني بُعد “غير المسلمين” ولم يترك الأمر هملاً أو بلا أساس منهجي، وقد بنيت العلاقات الباكرة في التاريخ الإسلامي بين المسلمين وغيرهم على هذه القواعد والأسس مما أنتج مجتمعاً إسلامياً مدنياً راقياً.
* الأقليات الدينية المعترف بها في الإسلام “أهل الكتاب من اليهود و النصارى والمجوس الذين اعتبروا ذمة إلى جانب الصائبة (عبدة النجوم) بشرط أن يوافقوا اليهود والنصارى في أصل معتقداتهم” انظر: ناريمان عبدالكريم: معاملة غير المسلمين في الدولة الإسلامية، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، سلسلة تاريخ المصريين (90)، 1996، وهذا التعريف مستنبط من الآية القرآنية ” (البقرة: 62).
[1] ابن منظور: لسان العرب، جـ1، بيروت، دار إحياء التراث العربى، ط2، 1997، ص: 370 .
[2] المرجع السابق، ص: 160 .
[3] القرطبى: الجامع لأحكام القرآن، جـ 18، بيروت، دار الكتب العلمية، ط5، 1996، ص:40
[4] الطبرسى: مجمع البيان لعلوم القرآن، جـ9، القاهرة، دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، 1976، ص:505 .
[5] سيد قطب: في ظلال القرآن، مجـ6، القاهرة، دار الشروق، ط15، 1988، ص: 3544 .
[6] البخارى: كتاب الجزية والموادعة (58)، باب (إثم من قتل معاهداً بغير جرم)، جـ6، حديث رقم 3166 .
[7] البخارى: كتاب الجهاد والسير (56)، باب يقاتل عن أهل الذمة ولا يسترقون، جـ6، حديث رقم 3052 .
[8] البخارى: كتاب المغازى (64)، باب بدون عنوان (86) جـ7، حديث رقم 4467 .