كثير من الناس يعتقد في الخرافة، ويتساوى في ذلك المجتمعات المتقدمة والنامية، والأشخاص الذين حصلوا على قسط عال من التعليم، أو  غير المتعلمين، ورغم التقدم المذهل للعلم في المجالات المختلفة ومنها الطبي، إلا أن الخرافة والوهم والأسطورة مازالت لها تأثيرها الطاغي، وتنفق في سبيلها مليارات الدولات كل عام، سعيا وراء المجهول.

حقيقة الوهم

الوهم قد يكون أقوى من المنطق والمنهج العلمي عند البعض، فهو يلبي حاجات اجتماعية، ويعبر عن ثقافة متغلغلة، توفر البيئة الصالحة للإيمان بالخرافة، وتصدقها، حتى ولو عارضت الواقع والحقائق والأدلة الدامغة، والوهم قد يكون له دور علاجي مع بعض الناس، إذ يوفر لهم إطمئنان مكذوب، قد يساهم في الشفاء، أو يسكن الآلام، ويدفع لاطلاق الهرمونات التي تضفي الراحة على الجسد الذي أنهكه المرض والألم،  يشير البروفيسور “جيروم جروبمان ” Jerome Groopman في جامعة “هارفارد” العريقة  في كتابه ” تشريح الأمل“[i]  أن “التغير في طريقة التفكير لديه القدرة على تغيير الكيمياء العصبية، ويمكن للإيمان والتوقع – العناصر الأساسية للأمل – منع الألم عن طريق إطلاق الإندورفين والإنكيفالين[ii] في الدماغ، ومحاكاة تأثيرات المورفين”، وقد يكون هذا الأمل زائفا، لكنه يلعب دور إيحابيا في شفاء بعض الناس، لكن هناك من يعتبر الأمل الزائف وميض خاطف سريع الزوال والذبول، وقد لا يحقق معجزة الشفاء، فهو كما يقول المثل ” كالثلج على وجه الصحراء المغبر”.

وفي المنطقة العربية تشير إحصاءات عن إنفاق ما يقرب من عشرة ميارات دولار على السحر والشعوذة، فـ 20% ممن يلجئون إلى هذا المسار من المتعلمين، وأكثر من نصف النساء العربيات يؤمن بالسحر والخرافة، وفي دراسة صدرت منذ عدة سنوات عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر أكدت أن هناك أكثر ثلاثمائة ألف مشعوذ في مصر وحدها، في حين أن هناك من يرتفع بالرقم إلى نصف مليون، وهذا الرقم المخيف يلبي الخدمات لعدة ملايين، ومعنى هذا أن المؤمنين بالخرافة يشكلون نسبة كبيرة في المجتمع، وتزداد الخرافة عندما يكون الإنسان مريضا، ويُبطيء عليه الشفاء، مع وقوف الطب عاجزا، فيلجأ المريض إلى الخرافة بحثا عن العافية المبتغاة.

والغريب أن الخرافة قد تسيطر على العاملين في المجال الطبي، فقد أشارت دراسة نشرتها إحدى المجلات الطبية الأمريكية عام 2016  أن العاملين في المجال الطبي يقللون من الاهتمام بإحساس المرضى بالألم إذا كان هؤلاء المرضى من ذوي البشرة السوداء، ظنا أن السود أقوى على تحمل الألم، وأن جلودهم أسمك من جلود البيض، وأنظمتهم العصبية أقل حساسية تجاه الألم.

والخرافة المرتبطة بوهم الشفاء موجودة في كل المجتمعات ففي بلد مثل البرازيل، تم القبض على شخص في الـ76 من عمره، أطلق على نفسه “جون تابع الرب” وكان يعالج الآلالف من المرضي، واستجاب البعض لتلك الأوهام، وبعد سنوات طويلة من الممارسة الخرافية في الطب، وُجد أن هذا الشخص متهم بالاعتداء على مئات النساء، لزعمه أن ذلك الأمر يحقق لهن الشفاء.

ويرتبط بالخرافة اللجوء للعلاجات الشعبية والتقليدية المتوارثة، اعتقادا في قدرتها الخارقة على الشفاء، وتشير إحصاءات أن نصف سكان العالم يلجئون إلى هذا النوع من العلاج، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف العلاج والمستشفيات، إذ يكمل الوهم  العملية، خاصة إذا دُعم بالترويج الاجتماعي، والتدليل على صدقه بحالات تحقق لها شفاء باستخدام تلك العلاجات التي لا تستند إلى أسس علمية أو تجريبية واضحة.

وترصد دراسة أمريكية صادر مارس 2020 عن العلاقة بين الخرافة والطب، تحكم الأساطير والخرافات في الحياة اليومية لكثير من لناس، نظرا لجاذبيتها المتستمدة من الثقافة، وبعض الخرافات تستمر دون أي سند لها، بل حتى مع إيمان الشخص بعدم جدواها أو قدرتها على تحقيق الشفاء، واستنادا على علم النفس والاجتماع الطب، ذكرت الدراسة أنه رغم اتساع العلوم والمعارف فإن الخرافة مازالت باقية ومؤثرة في حياة الإنسان، فهناك 62% من الألمان يؤمنون بالخرافة، و 60% في الهند، كذلك تنتشر الخرافة في أفريقيا وتركيا غيرها من البلدان، والخرافة كما عرفها قاموس أكسفورد: “فهم غير صحيح لعلاقة السبب والنتيجة، وإيمان شديد بتأثير العناصر الخارقة للطبيعة على حياة الإنسان”، وهو تعريف جيد، إذ أن الكثير من الناس يتغاضون عن تلك العلاقة السببية .

ويزيد تأثير الخرافة، مع غياب الأمل في الشفاء، أو عدم قدرة الطب على تخفيف الألم، فليجأ هؤلاء إلى الخرافة تحقيقا لنوع من التوازن النفسي في مواجهة هذا الشيء القاهر والمؤلم، بحثا عن أي طوق للنجاة حتى ولو كان وهما، وتشير الباحثة الأمريكية “جين رايزن” Jane Risen إلى مسألة مهمة وهي أن اكتشاف الخطأ لا يضمن انصراف الشخص عن الخرافة، والاقلاع عنها، بل قد يتمسك باختياره، فيما يشبه “الإذعان”، وهنا تلعب الخرافة دور المخفف للقلق، وتعطي الإنسان إحساسا بالسيطرة على حياته، أو تمنحه قوة لمواجهة المجهول، ويعترف كتاب ” الإيمان بالسحر: علم نفس الخرافات”[iii] لـ “ستيوارت فايس” Stuart Vyse أن الخرافة قد تعزز تحسين الأداء، أنها قد تروق للبعض لأنها تعفيه من المسئولية، وتطفيء شغف الاستكشاف والبحث عن علاج.

الإسلام والخرافة

كان موقف الإسلام حاسما تجاه الخرافة ومروجيها، فرفضها بكافة أشكالها سواء كانت في السحر، والكهانة، والدجالين والعرافين، أو التمائم، والمتشائمين، وبنى الاسلام اعتقاداته على أسس عقلانية تجعل الإيمان هو الركيز الأولى والقوية لمحاربة الخرافة وما يتفرع عنها من مساويء وانحرافات، فالقرآن الكريم، أقر بأن الغيب للخالق سبحانه وتعالى، ولا يتشارك معه أحد في ذلك إلا بإذنه، بالتالي أغلق الباب أمام الدجالين والكهان، كذلك أقر أن النافع والضار هو الخالق سبحانه، فأغلق الباب في وجه السحر، كذلك رسخ أن التماس الإنسان للشفاء يكون باللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، ثم التماس الأسباب التي أقرها الشرع في التداوي، فإن لكل داء دواء، وعلى الإنسان أن يبحث عن الدواء  فيما حوله من أسباب في النباتات والعقاقير وغيرها.

ففي الحديث الذي رواه الإمام “مسلم”، قال صلى الله عليه وسلم- :”من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم يقبل له صلاة أربعين ليلة” وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ، قال صلى الله عليه وسلم -:”من أتى عرافاً أو كاهناً ، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد”، بل إن النبي –صلى الله عليه وسلم- علم أصحابه أن الآيات الكونية ليس لها علاقة بتقلبات الحياة الإنسانية، فعندما مات ابنه إبراهيم، وكسفت الشمس، أذاع الناس أن الشمس حزنت على موت “إبراهيم”، لكن النبي-صلى الله عليه وسلم- صحح هذا الاعتقاد الخاطيء في نفوس الناس قائلا:”إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد.

والإيمان بأن الله تعالى هو الشافي، والرضا بما قسمه الله تعالى للإنسان، هو نوع من التعاطي الإيجابي مع أزمة المرض، فهو ليس إيمانا بالخرافة، فالإيمان والرضا يحققان للمؤمن القدرة في السيطرة على أوجاعه، والانطلاق منها إلى مناجاة الرب سبحانه وتعالى أن يخففها، وأن يهب المؤمن سببا للشفاء والعافية، وعندما يسكن التوتر القلبي، تهدأ الجوارج، حتى ولو كانت تتألم، يقول “ابن القيم الجوزية” في كتابه “عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين”: “ففي القلب شعث، لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة، لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه”.


  The Anatomy of Hope: How People Prevail in the Face of Illness[i]

[ii]  هرمونات ينتجها الجسم مرتبطة بالألم

[iii] Believing in Magic: The Psychology of Superstition