لعل الإدراك للبعد الفلسفي في مفهوم الزمن يمثل نقطة الانطلاق الضرورية لاستيعاب موضوع الدراسات المستقبلية، فقد شكل موضوع الزمن نقطة تحاور بين الفلاسفة منذ بداية تطور ميدان الفلسفة، وانقسم هؤلاء إلى فريقين أحدهما اعتبر الزمن مفهوما منفصلا عن غيره مما يترتب عليه الاعتقاد بالثبات والدوام، وهو ما تجلى في فلسفات بارمنيدس وزينون وصولا إلى كانت، وافترضوا أن الزمن سابق على الظواهر، وبالتالي فهو ليس مفهوما أمبيريقيا، فهو موجود في العقل كحال المثال عند أفلاطون. وفريق أخر، لا يرى الزمن منفصلا عن الحركة والظاهرة، وتدل عبارة هرقليطس بأنك “لا تستطيع دخول النهر مرتين” على ذلك، وعبر أرسطو عن ذلك بأن الزمن يتحدد “بالحركة” فالنائم ليس له زمن، ووصفه جون لوك بأنه “التغير الكمي للأحداث.
ولعل الفلسفة الإسلامية في تيارها العام أقرب للفريق الثاني، فالزمن عند الأشعري هو الفرق بين الحركات، وعند الخوارزمي “مدة تعدها الحركة” ولدى المعرّي “كمّ الحركة. واستقر المفهوم المعاصر للزمن عند المعنى الثاني لدى أينشتين، ومثاله التقليدي في ذلك هو أنك إذا حركت عقارب الساعة للأمام لا يعني أن عمرك قد زاد، إذ لا بد من ملء وعاء الزمن بالحركة.لكن فلاسفة آخرين أكدوا إلى جانب بعد الحركة على بعد الإحساس بالزمن وبالتالي بإيقاعه، وهي قضية في غاية الأهمية.
ويمكن أخذ مثال الفيلسوف فيشنر كمؤشر توضيحي لهذه القضية، فقد عرض هذا الفيلسوف صورا مشوقة على مجموعة من الأشخاص، وعرض على نفس المجموعة صورا مملة، ولكنه حرص على أن تكون مدة العرض في الحالتين واحدة، فاعتقدت هذه المجموعة أن مدة العرض للصور المشوقة أقصر من مدة العرض للصور المملة، مما نبه فيشنر إلى بعد أعمق وهو إدراك إيقاع الزمن، أي وتيرة الحركة، وبالتالي فإن الزمن مقاسا بكم وقائعه ليس واحدا في كل مكان، مما يعني أن السنة (كوعاء للحركة) في دولة متخلفة ليست سنة في دولة متطورة؛ لأننا إذا اعتبرناها واحدة سنعود بمفهوم الزمن إلى الانفصال عن الحركة. ذلك يعني أن إدراك الحركة وقياس كمها وتبيان إيقاعها يمثل نقطة البدء في فهم حركية الظاهرة أيا كانت هذه الظاهرة سياسية، أو اجتماعية أو اقتصادية (1).
أما البعد الآخر في موضوع الدراسات المستقبلية، فهو البدائل المختلفة لمسارات الظاهرة في تطورها.
فالزمن منقسم إلى مراحل ثلاث: الماضي وهو: كل سابق على الحال القائم، والحاضر وهو: كل ما هو قائم حاليا وفي حالة الحركة، والمستقبل وهو الآتي بعد الحاضر، والفرق بين المراحل الثلاث هو أن الماضي قد أصبح حقيقة غير ممكن تغييرها، ولا جدوى من تدخل الإرادة الإنسانية فيه، أما الحاضر فهو عملية متحركة لم تكتمل بعد ولن يكون للتدخل في مساره إلا القدر النسبي من التأثير، بينما يُمّثل المستقبل المجال الوحيد المتاح أمام الإرادة الإنسانية للتدخل فيه، غير أنّ عملية التدخل تتطلّب من وعي كافة الاحتمالات التي قد تنطوي عليها الظاهرة موضوع الدراسة، وهو أمر لا بد له من منهج علمي دقيق ومتطور، وهو ما عمل الباحثون على توفيره من خلال ما يسمى بتقنيات الدراسات المستقبلية.
استنادا إلى ما سبق يمكن تعريف الدراسات المستقبلية على أنها “العلم الذي يرصد التغير في ظاهرة معينة ويسعى لتحديد الاحتمالات المختلفة لتطورها في المستقبل، وتوصيف ما يساعد على ترجيح احتمال على غيره”(2)، وعلى هذا الأساس تتباين الدراسة المستقبلية عن الدراسة الاستراتيجية، فالثانية تقوم على هدف يكون قد حدد سلفا ثم البحث عن أدوات تحقيق هذا الهدف، بينما الدراسة المستقبلية تسعى لاستعراض الاحتمالات المختلفة للظاهرة. كما تختلف الدراسة المستقبلية عن التنبؤ في أن الأخير يحسم في أن الظاهرة ستتخذ مسارا معينا، بينما لا تزعم الدراسة المستقبلية مثل ذلك أبدا.
مراحل تطور الدراسات المستقبلية:
تشكل الرغبة الإنسانية لمعرفة الغد ظاهرة تاريخية عرفها الإنسان في مراحل تطوره المختلفة، ولم تكن هذه الرغبة مقتصرة على الأفراد بل وعلى السلطة السياسية كذلك حيث انتشرت في أروقتها محاولات استطلاع المستقبل وما يحمله من احتمالات النصر والهزيمة أو ما يدبره الخصوم السياسيون في الخفاء. وتعج صفحات التاريخ وكتب السير والكشوفات الأثرية بالحكايات والأساطير عن استخدام القياصرة، أو الأباطرة أو الخلفاء للكهان والعرافين والمنجمين للكشف عما تخفيه الأيام القادمة، وتدلنا المراجع عن ذلك في الدولة الرومانية ولدى الفراعنة في مصر، ولعل معبد دلفي في اليونان كان أكثر المؤسسات التاريخية شهرة بهذ الميدان.
ولا زالت الصحف اليومية المعاصرة تخبرنا بين الحين والآخر عن شخصيات تحتفظ بعلاقات مع كهان وعرافين. على أن كل ذلك لا يدخل إلا في باب القلق الإنساني نحو الغد، ومحاولته إبداع وسائل تعمق من اطمئنانه حتى لو كانت هذه الوسائل غير علمية ولا يركن لها. لكن التأريخ العلمي لظاهرة الدراسة المستقبلية يبدأ من نقطة محاولة إيجاد منهج علمي قابل للتراكم المعرفي للتعامل مع “الآتي بعد الحال”. واستنادا لذلك يمكن تقسيم مراحل التطور لهذا الميدان المعرفي لثلاث مراحل:
أولا: مرحلة اليوتوبيا:
دون الدخول في مناقشة مستفيضة لمفهوم اليوتوبيا، يحسن بنا الاشارة إلى أن أحد قسمات الفكر الإنساني الممنهج هو تخيل بنيات أو أنساق اجتماعية قادرة على حل مشكلات الواقع المعاش دون أن يكون هناك مؤشرات كافية على إمكانية تحقق مثل هذه البنيات المتخيلة.
فأفلاطون تخيل جمهورية فاضلة تقوم على العدالة، واعتقد بإمكانيتها إذا كان قادتها من الفلاسفة، والتزم أهلها بتقسيمات أفلاطون من حكّام وجند وغيرهم، بينما تخيل القديس أوغسطين صراعا بين مدينة الله المبنية على أساس الفضيلة ومدينة الإنسان المبنية على الغرور والشر، وافترض أن النصر سيكون حليف المدينة الأولى، وعلى الناس أن يسعوا لتحقيقها، وتخيل فرانسيس بيكون “أطلنطا” الجديدة التي رأى فيها مجتمعا يقوم على أساس العظمة الإنسانية، واندفع توماس مور في تخيل مجتمع يقوم على أساس الملكية الجماعية، وتختفي الملكيات الفردية ويخضع الكل لإرادة الجماعة، وزعم ماركس أن التطور الإنساني سيقودنا إلى مجتمع تختفي فيه الطبقات التي تمثل من وجهة نظره سبب الصراعات الإنسانية.
ويقول العالم المستقبلي “فرد بولاك” إنّ أفكار هؤلاء الفلاسفة تعكس البنيات الاجتماعية التي انبثقت منها، وهي مرتبطة برغبات الأفراد الذين كانوا يعيشون في هذه المجتمعات(3)، لكن بعض الباحثين في الدراسات المستقبلية يقولون أن فكرة الحكومة العالمية التي روج لها الفكر اليوتوبي أو الفكر الذي وصف بهذا الوصف، لم تعد يوتوبية كما بدت عند طرحها، فكثير من مفكري العولمة المعاصرين يرون أن مثل هذه الحكومة قابلة للتحقق(4)، كما أن الخيال العلمي الذي نراه على شاشات السينما أو التلفزيونات يدل على أن ثقة الإنسان بخياله وقدرته على تحقيق هذا الخيال يشكل دفعة للدراسات المستقبلية من حيث إدخال الخيال في الاحتمالات المختلفة عند دراسة ظاهرة معينة، وقد عبر العالم الروسي نيجفاكن عن ذلك باعتقاده بأن ما نتخيله أيا كان هو في نطاق الممكن (فالفرد الذي تخيل في غابر القرون قدرته على الانتقال من مكان لآخر بسرعة تحول خياله في العصر الحالي إلى واقع ملموس) (5).
وقد دفع النقاش في هذه المسألة الباحثين في الدراسات المستقبلية إلى التمييز بين ثلاثة ابعاد للمسارات المختلفة للظاهرة موضوع الدراسة (6):
أ- الممكن:possible: وهو ما يعني الاحتمال الذي يمكن أن تأخذه الظاهرة ويتوفر الواقع على مؤشرات كافية لتحققه.
ب- المحتمل: probable: وهو احد احتمالات تطور الظاهرة لكن مؤشرات هذا الاحتمالات ليست كافية في الواقع.
ج- المفضل: Preferable: وهو الاحتمال الذي نرغب في أن تتطور الظاهرة نحوه ولكن المقومات الموضوعية لتحققه محدودة بقدر كبير.
وقد أدخلت الدراسات اليوتوبية في نطاق الدراسات المستقبلية من باب النمط الثالث أي المفضل.
ثانيا: مرحلة التخطيط:
شكل إنشاء الحكومة السوفيتية في عام 1921م للجنة أوكلت لها مهمة وضع خطة حكومية لتعميم الكهرباء على معظم مناطق الاتحاد السوفييتي خلال خمس سنوات نقطة تحول في نطاق الدراسات المستقبلية. فرغم الاستهجان الذي قوبلت به هذه الفكرة من حيث صعوبة الاقتناع بإمكانية التحكم في مسار الأحداث لخمس سنوات.
إلا أن النجاح في إنجاز الخطة أثار فكرة التخطيط بعيد المدى، وكيفية توقع التغيرات والبحث في ميكانيزمات التكيف مع هذه التغيرات، مما فتح المجال أمام دراسة التغير والتكيف وكيفية التفاعل بينهما (وهو موضوع شائك ومرهق في نطاق الدراسة المستقبلية)، وتركت هذه الجوانب أثرها على الباحثين الغربيين، وتبلور ذلك بداية بظهور مجلة الغد (Tomorrow) في بريطانيا عام 1938.
ومما لفت الانتباه في هذه المجلة تأكيدها على ضرورة إنشاء وزارة للمستقبل في بريطانيا (7)، وقد أدت النتائج المأساوية للحرب العالمية الثانية إلى طغيان الإحساس بمستقبل أسود للعالم مما خلق حالة نفسية لا تشجع على الدراسة المستقبلية، لكن عددا من الفلاسفة وفي طليعتهم الفيلسوف الفرنسي غاستون بيرغر (Gaston Berger) تحدى هذه النظرة وأنشا عام 1957 المركز الدولي للاستشراف (Centre International de Prospective) بهدف تشجيع الباحثين على النظر إلى الغد بطريقة أكثر تفاؤلا، وتركزت جهود سمركز بيرغر على جانبين:
1- التأكيد على عدم الفصل بين الظاهرة الاجتماعية من ناحية، والتطور التكنولوجي من ناحية ثانية، ومن هنا بدأ الربط بين بعدين هما الدراسات المستقبلية الخاصة بالتطورات التكنولوجية، ثم الدراسات المستقبلية الخاصة بأثر التطورات التكنولوجية المشار لها على الظواهر الاجتماعية مع إيلاء الأبعاد السياسية أهمية واضحة. وقد أدت هذه المسألة إلى تحول كبير في مناهج البحث في الدراسات المستقبلية، فأصبح الربط بين التقني والاجتماعي والتفاعل بينهما من بين أسس الدراسات المستقبلية، وأصبحت تقنيات الدراسات المستقبلية تركز على كيفية إيجاد طرائق بحثية تربط بين التطور التقني والتطور الاجتماعي المستقبلي، والذي تجلى بشكل كبير في بعض التقنيات المعروفة مثل تقنية دلفي (Delphi Technique)، أو مصفوفة التأثير المتبادل (Cross Impact Matrix) (9).
2- التركيز في التحليل المستقبلي على الآثار البعيدة وعلى الاتجاهات (Trends) وليس على الأحداث (Events)، وقد نجم عن ذلك تداول تصنيف مينوسوتا (نسبة للولاية الأمريكية) في المدى الزمني للدراسات المستقبلية الذي يقوم على خمسة أبعاد (10).
- – المستقبل المباشر: ويمتد لعامين.
- – المستقبل القريب: ويمتد من عامين إلى خمسة.
- – المستقبل المتوسط: ويمتد ما بين خمسة إلى عشرين عاما.
- – المستقبل البعيد: ومدته بين عشرين إلى خمسين عاما.
- – المستقبل غير المنظور: أكثر من خمسين عاما.
على أن الدراسات المستقبلية عرفت نقلة نوعية في العام الذي أنشا فيه بيرغر مركزه من خلال الجهود التي شرع فيها العالم الفرنسي بيرتراند دو جوفنيل (Bertrand de Jouvenel) بالتعاون مع مؤسسة فورد الأمريكية، وتمكن من إنجاز مشروع المستقبلات الممكنة (Futuribles) الذييؤكد فيه أن المستقبل ليس قدرا بل مجال لممارسة الحرية من خلال التدخل الواعي في بنية الواقع القائم باتجاه “المفضل”، وعلى هذا الأساس يتم النظر إلى المستقبل على أنه متعدد لا مفرد كما هو حال الماضي من خلال فكرة تعدد الاحتمالات. وشكلّ كتابه الشهير فن التنبؤ (The Art of Conjecture) نقلة كبيرة في مجال الدراسات المستقبلية، حيث شرح فيه كيفية عمل ما أسماه هيئات التنبؤ (Forum Provisionnel) التي تقوم بعمليات إنجاز الدراسات المستقبلية لدولة معينة.
وقد أكد جوفنيل على ثلاثة جوانب عند إنجاز الدراسة المستقبلية (11).
1- الاتجاهات السائدة لظاهرة معينة، وحدد كيفية رصد هذه الاتجاهات.
2- سرعة الاتجاهات: بمعنى قياس كمية التغير في ظاهرة معينة خلال زمن معين من ناحية والتسارع في هذا التغير، وهو الأمر الذي تطور في الدراسات المستقبلية باستخدام قوانين رياضية للتسارع ودمجها في التحليل.
3- العلاقة بين الظواهر: وتعني توفر إطار نظري يقوم على إدراك التفاعل المتبادل بين الظواهر مهما بدت غير مترابطة، ورفض المنهج التجزيئي (Reductionism) والتركيز على المنهج “الكلي” (Holism) (وهو المنهج الذي يعني أن الكل أكبر من مجموع أجزائه) (12)، وقد تنبهت المؤسسة العسكرية الأمريكية لجدوى الدراسات المستقبلية، وركزت على توظيفه لصالح الأمن القومي، وكانت القوات الجوية الأمريكية هي الأكثر اهتماما بهذا الموضوع.
ولعبت مؤسسة راند (Rand) من خلال جهود عالم الرياضيات الأمريكي أولاف هلمر (Olaf Helmer) دورا بارزا لا سيما في التوسع في استخدام تقنية دلفي التي أشرت لها سابقا (13)، وكان للعالم الأمريكي هيرمان كان (Herman Kahn) الدور الريادي في تطوير تقنية السيناريو التي تقوم على فكرة محددة هي: إذا فإن (If-Then) وهي من أكثر التقنيات رواجا، لكن القلة من الباحثين يتعامل معها بالعلمية التي افترضها كان. وإلى جانب فرنسا والولايات المتحدة، برزت جهود علماء أوروبيين مثل الهولندي فرد بولاك الذي أصدر كتابا معروفا لدى باحثي الدراسات المستقبلية هو (The Image of the Future) عام 1961م، ثم كتابه الهام (Prognostics) عام 1971م، مما ترك أثرا على الحكومة الهولندية تمثل في تأسيس وحدة الدراسات المستقبلية عام 1974، على غرار تلك التي سبق وأنشأتها الحكومة السويدية عام 1973 بمبادرة من رئيس الوزراء أولاف بالمه تحت اسم سكرتارية الدراسات المستقبلية التابعة لرئاسة الوزراء.
وشرعت بريطانيا عبر جامعة ساسكس (Sussex) بتأسيس وحدة للدراسات المستقبلية تركزت جهودها على تطوير التكامل المنهجي (Interdisciplinary) ونقد النماذج الدولية. أما الدول الاشتراكية (سابقا) فقد تركزت جهودها في مجال الدراسات المستقبلية على المتغيرات المادية لا سيما الاقتصادية والتكنولوجية منها، وأثرهما على مستقبل الظاهرة الاجتماعية، ولم تعر الدراسات المستقبلية الاشتراكية الأبعاد الفردية أو الجوانب المعنوية أهمية تذكر (معلوم أن فرويد ومدرسة التحليل النفسي بقي ممنوعا في الجامعات السوفييتية حتى الستينات من القرن الماضي).
وقد ساهمت أكاديمية العلوم السوفييتية بفروعها المتعددة في مجال التطوير النظري للدراسات المستقبلية، لا سيما في مجال ما عرف بالندوات المستقبلية التي نشطت بشكل ملحوظ منذ عام 1967م من خلال ندوة كييف ولينينغراد، وبرز العالم السوفييتي إيغور لادا (Igor Bestuzhev Lada) في هذا المجال.
وتتميز المدرسة السوفييتية في الدراسات المستقبلية بالآتي (14).
1- التخصص: أي تركيز الندوات الدورية على موضوع بعينه، فندوة لينينغراد الدورية ركزت على أثر ظاهرة التحضر (Urbanization) على الاستقرار السياسي، بينما اقتصرت جهود ندوة كييف على تأثير التكنولوجيا على الاستقرار السياسي، وتخصصت ندوة فيلينيس على التنبؤات الإقليمية حيث يتم التركيز على إقليم معين ثم تحدد الأولويات التي يجب الأخذ بها في الإقليم من خلال الربط بين الإمكانيات المتاحة وسلسلة البدائل المتوفرة لإنجاز خطة ما.
2- الربط بين نتائج الدراسات في مختلف القطاعات (وهو ما كان يعوز المدرسة الأمريكية في بداياتها)، ونتج عن ذلك ظهور تقنية المصفوفة التي أشرت لها سابقا وتقنية دولاب المستقبلات (Futures Wheel) التي تربط بين الظاهرة والنتائج غير المباشرة وغير المتوقعة لها. أما في الدول النامية، فقد كان للدول الفرنكوفونية السبق في هذا المجال بحكم التأثر بالجهود الفرنسية، كما أن بعض دول أمريكا اللاتينية لا سيما الأرجنتين والمكسيك عرفت محاولات في هذا المجال. وربما كان العالم العربي آخر الآخذين بهذا الموضوع، فلم تدخل مادة الدراسات المستقبلية كموضوع أكاديمي في الجامعات العربية إلا في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ولكنها بدأت في الانتشار فيما بعد، وإن كان يغلب عليها الدراسات الانطباعية والفقيرة في توظيف التقنيات العلمية المعتمدة في هذا المجال.
ثالثا:مرحلة النماذج العالمية:
يلاحظ على المرحلة السابقة في تطور الدراسات المستقبلية أنها تركزت على المستقبل وقد نظر له من زاوية دولة معينة أو إقليم معين، إلا أن تطورا معينا نقل الدراسات المستقبلية من مستوى الدولة الواحدة أو الإقليم الواحد إلى مستوى العالم ككل، فأصبح التركيز على مستقبل المجتمع الدولي أو النظام الدولي، أو موضوعات ذات شأن دولي كأسلحة الدمار الشامل، أو الإرهاب أو التدخل الإنساني أو البيئة.. وهي موضوعات لا تنحصر في إطار دولة أو إقليم.
وربما كان لنادي روما السبق في هذا المجال، فقد عقد اجتماع ضم رجال الأعمال الإيطالي أوريليو بيشي والمدير العلمي في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الكسندر كنغ عام 1967، وتبين للطرفين أن هناك مشكلات تهدد المجتمع الدولي مثل الزيادة السكانية واستنزاف الموارد الطبيعية والفقر…الخ، وإن المؤسسات الدولية عاجزة عن التصدي لهذه المشكلات.
واستنادا إلى هذه الأفكار عقد أول اجتماع في روما عام 1968 وضم ثلاثين عالما من عشر دول، وأطلق على هذا الاجتماع اسم نادي روما. ركزت دراسات نادي روما على الربط بين ظاهرة الاعتماد المتبادل المتزايدة بين المجتمعات، وبين تطوير تقنيات الدراسات المستقبلية لمعرفة الاحتمالات المختلفة للظواهر العالمية، وقد كان للتقرير الأول لنادي روما صدى كبير لا سيما نتيجة النظرة التشاؤمية لمستقبل العالم التي طغت على التقرير وتنبأت بالكارثة الدولية (15). وتبع نادي روما جهود أكاديمية أخرى تركز على المستوى العالمي مثل نموذج ليونتيف وباريولوتشي…الخ.
وتقوم أسس الدراسة المستقبلية في النماذج العالمية على:
1- تحديد المتغيرات التي تؤدي إلى انهيار أو بقاء النظام الدولي في حالة توازن، ولعل أهم الأفكار التي برزت في هذا الجانب هي أفكار العالم المعروف بروغوجين (Progogine) عن فلسفة عدم الاستقرار (Philosophy of Instability) والتي كان لها أكبر الأثر على مفهوم النظام في الدراسات المستقبلية.
2- تحديد ميكانيزمات التكيف المتوفرة للنظام الدولي لمواجهة التغيرات المحتملة مثل: دراسة مساحات الأراضي الزراعية لمواجهة الزيادة السكانية، أو العلاقة المستقبلية بين سباق التسلح والفقر.
3- تحديد قدرة الوحدات الدولية القائمة على تعبئة مواردها لمواجهة التغيرات.
4- تحديد المسوغات القانونية التي تبرر التدخل من القوى الخارجية لضبط الخلل على المستوى الدولي.
5- اعتبار عملية التغير هي القاعدة.
واستنادا لهذه الأسس أخذ الجانب المنهجي في الدراسات المستقبلية في إطار النماذج العالمية الخطوات التالية:
1- التقسيم الجغرافي للعالم، حيث يقوم النموذج على تقسيم العالم إلى عدد معين يختلف من نموذج لآخر، ويتم التقسيم على أساس معيارين هما التجاور الجغرافي وتقاليد التفاعل التاريخية.
2- تحديد عدد من القطاعات (السياسية والتكنولوجية والاقتصادية…الخ) واعتبار هذه القطاعات نظما تطوي بداخلها نظما فرعية (تقسيم الاقتصادي إلى فروعه المعروفة).
3- دراسة التفاعل بين القطاعات والأقاليم على أساس التأثير المتبادل بينهما، وتتم الدراسة في هذا الجانب على أساس التأثير الوظيفي بين القطاعات في الأقاليم والأساس الجغرافي من خلال تأثير كل إقليم على الأقاليم الأخرى.
4- تحديد اتجاهات التفاعل لتحديد الاحتمالات المستقبلية عبر استخدام تقنيات الدراسات المستقبلية.
ومن غير الممكن تناول النماذج العالمية دون التوقف عند أحد أهم علماء هذا الميدان، والذي صنفته الجمعية العالمية للدراسات المستقبلية كأهم عالم في هذا المجال، وهو العالم الأمريكي بكمنستر فولر (Buckminister Fuller)، ويعد فولر من أبرز رواد المدرسة المعيارية في الدراسات المستقبلية، لا سيما تركيزه على احتمال تحقيق السلم الدولي، ولعل نموذجه الذي أطلق عليه اسم اللعبة العالمية (Great Logistic Game) يستحق منا تلخيصا له(16).
بنى فولر قبة تعادل مساحتها مساحة ملعب كرة السلة، ورسم عليها خريطة للعالم أبرز فيها كل التضاريس، وربطها بالحاسوب الذي يضم قاعدة معلومات ضخمة عن الموارد العالمية، والاتجاهات الإنسانية والاحتياجات والمشكلات الدولية… الخ، ووضع هدفا لكل باحث يتمثل في محاولة وضع أفضل معادلة لتحقيق أفضل النتائج في ضوء المعطيات المتوفرة، فعلى سبيل المثال لو كانت دالة النموذج هي تقليص الحروب فإن المعادلة يجب أن تحقق استخدام الموارد المتاحة فقط؛ لتحقيق هذه الدالة في أقصر فترة ممكنة (وبديهي أن ذلك يحتاج دراية واسعة في التحليل الرياضي).
الخلاصة:
يمكن القول إنّ تطور الدراسات المستقبلية سار باتجاهين:
1- اتجاه المؤسسات ومراكز الأبحاث والدوريات العلمية في هذا الجانب، نحو دراسات مستقبلية ذات توجه عالمي أكثر منها إقليمي أو لدول معينة، وذات طابع شمولي أكثر منها التخصص في قطاع معين دون غيره، ويتضح ذلك في أن في أوروبا حاليا 124 هيئة تعمل في مجال الدراسات المستقبلية. لكن الملفت للنظر في هذا الجانب أن 67% من الدراسات المستقبلية تقوم بها الشركات متعددة الجنسية والمؤسسات العسكرية، كما أن 97% من هذا الإنفاق على الدراسات المستقبلية يتم في الدول المتطورة.
2- الاتجاه المنهجي في الدراسات المستقبلية: إذا افترضنا أن دراسة العالم الفرنسي كوندورسيه والتي عنوانها (Sketch for a Historical Picture of the Progress of the Human Mind) عام 1793م أول محاولة للنظر في الدراسات المستقبلية على أسس منهجية علمية فإن تطور الدراسات المستقبلية في هذا الجانب مرت بالمراحل التالية:
1- تغليب منهج الإسقاط والحدس والمنظور التجزيئي في المرحلة الأولى.
2- تطوير المناهج الكمية والاستقرائية، مثل المصفوفات الرياضية والدواليب والسيناريوهات، ونظرية الاحتمالات والثلاثيات والمسافة واللعب والمحاكاة…الخ من التقنيات.
3- بدأت المرحلة الثالثة بالميل التدريجي نحو المنظور الكلي على أساس أن الكل أكبر من مجموع أجزائه، وترتب على ذلك سلسلة من النتائج:
أ- التحول من مفهوم القوة على أساس الكم إلى القوة على أساس النتيجة المترتبة عليها.
ب- التحول بمفهوم ميزان القوى على أساس الثقل المعادل الذي عبر عنه جنتز في القرن التاسع عشر إلى مفهوم الترابط.
ج- التحول التدريجي للنظر للعلاقات الدولية من علاقات دولية صفرية إلى علاقات دولية غير صفرية مع كل ما يترتب على هذا التحول من نتائج.