سكت بعض الأئمة عن القنوت للمستضعفين في النازلة، ومل بعضهم، وجبن بعضهم خوفا من أن يصيبه بلاء بسبب الدعاء، ولكن تعالت أصوات بعض الفضلاء من المتدينين أن القنوت أكثر من شهر مخالف للسنة النبوية، وأن النبي لم يقنت أكثر من شهر، وأن الأئمة الذين مازالوا يقنتون في صلواتهم مخالفون للسنة والشرع الحنيف، وأنهم منساقون وراء عاطفتهم التي لا تلجم بلجام الشريعة، وأن الدين ليس بالهوى والعاطفة، وإنما بالنص والأثر.!! 

القنوت في النازلة وحادثة قتل القراء السبعين

وحديث القنوت شهرا مروي عند البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن، وذلك في حادثة قتل القراء السبعين، ففي صحيح مسلم: أن رسول الله – - «‌قنت ‌شهرا بعد الركوع في صلاة الفجر، يدعو على بني عصية» .وللبخاري، قال: «كان القنوت في المغرب والفجر» . 

وفي رواية أبي داود والنسائي، قال: «سئل أنس: هل قنت رسول الله – - في صلاة الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: قبل الركوع، أم بعد الركوع؟ قال: بعد الركوع – قال مسدد: بيسير» . وفي أخرى «أن النبي – - ‌قنت ‌شهرا، ثم تركه» .وفي أخرى للنسائي، قال: «‌قنت ‌شهرا يلعن رعلا وذكوان ولحيان» . 

وفي أخرى له: «أن رسول الله – - ‌قنت ‌شهرا يدعو على حي من أحياء العرب». 

هذه مجمل الروايات التي تذكر أن النبي قنت شهرا ثم تركه، ولكن هل الزيادة على الشهر مخالفة للسنة؟ 

إن أول تساؤل هنا، هل تحديد الشهر عبادة توقيفية؟ بمعنى أن من قنت فعليه أن يقنت شهرا لا يزيد ولا ينقص؟ أم أن الشهر هو حد الكفاية، فللمسلمين أن يقنتوا بما لا يزيد عن شهر؟ 

أم أن الشهر أو أي مدة زمنية ليست مقصودة لذاتها، وإنما يتعلق القنوت بالنازلة، فإن استمرت النازلة استمرت القنوت، وإن زالت النازلة توقف القنوت دون النظر للمدة الزمنية؟ 

والأصل في هذا أن القنوت إنما شرع لوقوع النازلة، فهو مرتبط بها، فيبقى ما بقيت النازلة ويترك ما انتهت النازلة، ويؤيد هذا ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة أن النبي قنت بعد الركعة في صلاته شهرًا إذا قال: “سمع الله لمن حمده” يقول في قنوته: “اللهمَّ أَنج الوليد بن الوليد، اللهمَّ نَجِّ سلمة بن هشام، اللهمَّ نَجِّ عيَّاش بن أبي ربيعة، اللهمَّ نَجِّ المستضعفين من المسلمين، اللهمَّ اشدد وطأتك على مُضَرَ. اللهمَّ اجعلها عليهم سنين كَسِنِي يوسف”، قال أبو هريرة: ثمَّ رأيتُ رسول الله – – ترك الدعاء بَعدُ. فقلتُ: أُرى رسول الله – – قد ترك الدعاء لهم، قال: فقيل: وما تراهم قد قدموا؟ . 

الدعوة إلى ترك القنوت في النازلة بعد شهر 
هل القنوت في النازلة لأكثر من شهر مخالف للسنة؟

فكان ذلك الدعاء لهم لأجل تخليصهم من أيدي الكَفَرة وقد خلصوا منهم، وجاؤوا للمدينة، فما بقى حاجة بالدعاء لهم بذلك وأما دعاؤه على الكفرة فمنهم من أسلم، ومنهم من مات، فما بقي حاجة كذلك. 

قال ابن حبان (5/ 324) بعد رواية الحديث: “في هذا الخبر بيان واضح أن القنوت إنَّما يُقنَتُ في الصلوات عند حدوث حادثة … فإذا عُدِم مثل هذه الأحوال لم يُقْنَت حينئذٍ. إذا المصطفى – – كان يقنتُ على المشركين، ويدعو للمسلمين بالنجاة. فلما أصبح يومًا من الأيام ترك القنوت. فذكر ذلك أبو هريرة فقال النبي – -: “أما تراهم قد قدموا”» 

الربط بين القنوت والنازلة

ويربط الإمام ابن القيم – رحمه الله- تعالى بين القنوت والنازلة فيقول: ” إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم ، وللدعاء على آخرين ، ثم تركه لما قدم من دعا لهم ، وتخلصوا من الأسر ، وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين ، فكان قنوته لعارض، فلما زال ، ترك القنوت ” انتهى . زاد المعاد” (1/272) . 

الدعوة إلى ترك القنوت في النازلة بعد شهر 
الدعوة إلى ترك القنوت في النازلة

ومما يؤيد ربط القنوت بالنازلة وجودا وعدما، ما قاله الإمام ابن تيمية – رحمه الله-:  «وقد تبين بما ذكرناه أن ‌القنوت ‌يكون ‌عند ‌النوازل وأن الدعاء في القنوت ليس شيئا معينا ولا يدعو بما خطر له بل يدعو من الدعاء المشروع بما يناسب سبب القنوت» «مجموع الفتاوى» (23/ 115): 

وجواز القنوت أكثر من شهر مادامت النازلة حاصلة هو فتوى كثير من جهات الإفتاء، وعلى رأسها اللجنة الدائمة للإفتاء والبحوث بالمملكة العربية السعودية برئاسة الشيخ ابن باز – رحمه الله- حيث ورد لهم هذا السؤال رقم(7268):  

هل يجوز القنوت في النازلة في الصلوات الخمس أكثر من مدة شهر؟ 

الجواب : يجوز ذلك أكثر من شهر تبعًا لحال النازلة شدة واستمرارا. 
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وقد وقع على الفتوى كل من: الشيخ عبد الله بن قعود عضوا، والشيخ عبد الله بن غديان عضوا، والشيخ عبد الرزاق عفيفي نائبا للرئيس، والشيخ ابن باز رئيسا. 

ثم إن وقوع النازلة الشديدة التي نحن فيها، يتوجب الجهاد على الأمة، يجاهد كل امرئ بما يقدر عليه، فهناك جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وجهاد بالدعاء والكلمة، فاستمرار القنوت هو استمرار للجهاد بالدعاء، وهو أقل ما ينبغي أن يفعله المسلمون، وقد قال تعالى: ﴿‌وَجَاهِدْهُمْ ‌بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52].

فإذا كان المجاهدون يضحون بأنفسهم في سبيل تحرير أرض المسلمين ودفع أذى الكافرين، فلا أقل أن تجاهد الأمة دونهم بالمال والدعاء والكلمة، وقد ورد في سنن أبي داود والنسائي من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -: أن رسول الله قال: «‌جاهدوا ‌المشركين ‌بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم».