عالج الشاطبي في إحدى مقدمات الموافقات الأصل العلمي الصحيح الذي قد يعتمده المجتهد في البحث عن الأحكام، ويقع به المدلول ويلزم الفعل بمقتضاه، بل تبقى ذمة المكلف عامرة في الأوامر الدينية حتى يأتي به على الوجه المطلوب. وقد بين شروط هذا الأصل والضوابط العلمية التي يجب توفرها.

وهي قاعدة تصلح أن يطبقها المسلم في مجالات الحياة، إذ إنها توضح المنهجية الثابتة في طلب المعلومات، واختبار الأفكار الصحيحة من غيرها، بل تلتمس كطريقة في معرفة الشبهات وردها لا سيما مع زحمة القواعد العلمية والنظريات التي تتوافد إلى عالمنا اليوم، وهذه القاعدة إن لم تجب على سؤال فكري بشكل مباشر، فإنها على الأقل تفتح مجالا لمناقشة الأفكار وحسن إدراك مجال الخلل فيها.

شأن هذه القاعدة كغيرها من القواعد العلمية التي صقلتها الخبرة والتجربة ، ونحاول في هذا المقال بيانها ووضع بعض الأمثلة المناسبة لها.

ونص القاعدة هو: كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل؛ فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط، أو لا، فإن جرى؛ فذلك الأصل صحيح، وإلا؛ فلا.

تحتوي هذه القاعدة على مفردات لفظية هي مصطلحات بينها الشاطبي في ثنايا شرح المقدمة، ونشير إليها هنا في نقاط:

1- الأصل: وهو الدليل[1] الذي تقع بوفقه الأعمال في الوجود من غير تخلف، ويدخل في ذلك الأقوال وأفعال القلب والجوارح.

وينطبق على الأساس الذي يبنى عليه الاجتهاد في المذاهب الفقهية، لذلك استعمل اللفظ على أدلة المذاهب الفقهية أو مصادرها. يقال مثلا من أصول المذهب المالكي المصلحة المرسلة.

2 – العادات: هي الحقائق التي استقر تكررها واطرادها في جميع الأحوال والوقائع. والاطراد هنا يشير إلى موافقة الخبر للواقع، ويحتمل ان يكون واقعا شرعيا أو غيره. مثال ذلك: الاعتماد على عادة النساء في المكث للحيض والنفاس بين الغالب والنادر، وكذلك عادة الحركات المنافية للصلاة ترجع إلى كثرتها وتواليها.

وقد حاول الإمام الشاطبي بيان هذه القاعدة في الشريعة الإسلامية بأصل من أصول التشريع وهو رفع الحرج في التشريع، وذلك باعتبار ما يأتي:

أ- من أصول الدين: امتناع التخلف في خبر الله تعالى، وخبر رسوله –صلى الله عليه وسلم– مثال ذلك في قوله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الدين يسر). وهما خبران عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

ويستحيل طبعا أن يقع في الدين خطاب يقصد منه الشدة والمشقة بعينها لأن ذلك يخالف الهدي الواضح.

ب- وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق.

ج – وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد.

ثم استنتج الشاطبي من هذه الأدلة أصلا عاما يقول: “إذاً كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري، فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة؛ فليس بأصل يعتمد عليه، ولا قاعدة يستند إليها”[2].

فما كان من أمور دينية أو غيرها يخالف هذا المبدأ بأن كذبها الواقع، وسبب القيام بها حرجا وعنتا على الناس فإنها تخالف هدي الشرع، والحكم في هذا النوع طلب التيسير أو دفعه بالكلية.

ونجد أمثلة تطبيقية لهذا الأصل في مجالات مختلفة ذكرها الشاطبي رحمه الله سواء في فهم نصوص الشرع أو مجاري الأساليب أو الأعمال.

أولا – فهم الأقوال والنصوص: قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء: 141] . وهذه الآية لا يمكن حملها على الخبر لأن الواقع يكذبها، وذلك لأن المسلمين ذاقوا أنواع الإذلال والإهانة من الكفار، سواء في الماضي والحاضر، فكان الواجب إعمال هذا النص في تقرير الحكم وهو وجوب الاستعداد.

يقول الشاطبي: “إن حمل على أنه إخبار؛ لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله؛ فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه، وهو تقرير الحكم الشرعي؛ فعليه يجب أن يحمل”[3].

ثانيا – فهم مجاري الأساليب: ومثاله قوله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا}.

ظاهر الآية يفيد دخول كل مطعوم بما فيه خمر ، لكن ” هذا الظاهر يفسد جريان الفهم في الأسلوب، مع إهمال السبب الذي لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر.

ثالثا – فهم التكاليف العملية؛ “وهو العمدة في المسألة، وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة؛ لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج، أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا؛ فهو غير جار على استقامة ولا اطراد، فلا يستمر الإطلاق”.

مثال ذلك حمل العامة على الورع في الخروج من المسائل المختلف فيها بين العلماء، والورع حسب رأي الشاطبي ” لا يصح أن يستند إليه، ولا يجعل أصلا يبنى عليه “، لأن تعارض الأدلة إنما يقع للمجتهد في تمييز الراجح وليس على العامة الذين يغلب فيهم التقليد، ولم يفتى العامي بالأورع خروجا من الخلاف؟!


[1]  يقول الشوكاني: الأصل: يقال على الراجح، والمستصحب، والقاعدة الكلية والدليل. والأوفق بالمقام الرابع” أي الأصل هو الدليل. انظر: إرشاد الفحول (1/17).

[2]  الموافقات (1/156).

[3]  المصدر السابق