الدولة المقاصدية هي الدولة التي تحددها موضوعات المقاصد وسياقاتها المختلفة، وفق ما تؤول إليه المقاصد بوصل العلم بالعمل، برؤية سياقية تجديدية تشغيلية، وبإرادة الفاعلين خارج دائرة الأهواء والأطماع، وبإدارة وإنتاج وإنجاز.
حكاية الانطلاق
في هُـموم فِكْـرٍ وعُلوم نظـرٍ، انقدحَ في الذهن لفظ جميل أحببته واشتغلت به لعقود، هو لفظ المقاصد، فحملته على الدولة لتُوصَف به، خروجًا من الخلاف الذي اتسمت به ألفاظ أخرى، كلفظ الإسلامية والشرعية والدستورية والديمقراطية والمدنية ونحوها.
ومما ابتُليَ به جمهرة الساسة وأكثرية عامّة، الاختلاف الذي لا ثَـمَـرَ له بحسب التعبير الفِقْهي، والتجاذب الأيديولوجي والاستقطاب بأنواعه بحسب التعبير السياسي، وهو ما جَعلنا في حلقات مفرغة في معاملة المُصطلح ودلالاته وتداعياته، وفي مساحات غير مُنتجة، مع تضخّم الشعار وضمور المعنى وتكدس السرديات وضُعف البيانات والمنجزات…
وأحسبُ أنّ التعبير بالدولة المقاصدية يُمكنه التجاوز إلى حدود ما، إذا أخذنا بعين الاعتبار عبارة “المقاصدية” بمعناها الغائي الكلي المعقول، بإمكانياته النظرية والعملية في تضييق الخلاف وتوسيع الأثر والتجميع ما أمكن، وبموجهاته الموضوعيّة والسياقيّة والمنهجيّة، وهو ما أُبيّنه ضمن العُنصرين الكبرين فيما يلي:
العُنصر الأول: الموجهات الموضوعية للدولة المقاصدية المعاصرة
الموضوعات المقاصدية التي تُوجَّه بها الدولة المقاصدية هي: المعنى، والمصلحة ووسائلها ومآلاتها، والإرادة والقصد.
1 –الدولة المقاصدية هي دولة المعنى المقاصدي المعقول، التي لا يُكتفى فيها بالشكل والشعار والقالب، ولذلك يكون نظامها بمعنى معقول، يُحقّق مصالحه في انتظام النّاس وتحقيق العدالة والحرية والكرامة، وليس نظامًا بشكل مُحنّط وقالب في ادعاء المعنى مع مفارقته له، كادّعاء بعض الدول الحديثة صفة الحُقـوقية الإنسانيّة مع اعتمادها على سياسات التعذيب والعذابات، وادّعاء صِفة الديمقراطية والتعدّدية مع التمشي الاستبدادي والمنزع الفردي الدكتاتوري، وادّعاء الصفة الشرعية الإسلامية والشرعية الشعبية مع ضُمور كلي أو جزئي لمضامين ذلك ومدلولاته وتشغيلاته.
وكذلك فإنّ النظام في دولة المقاصد نظام مـرن لا شكل واحدا أو منمطا له، والعبِْرة فيه للمقصد والمعنى وليس للفظ والمبنى، كما يقول علماء قواعد المقاصد “العِبْرة للمقاصد والمعاني وليس للألفاظ والمباني[1]”.
فالنظام السياسي في الدولة المقاصدية نظام مَـرِن متغيّر مصلحي معقول، يركز على تحقيق معانيه المبدئية وقيمه، ويؤدى ذلك وفق إطار مرن معقول نسبي من الإجرائيات والأدوات والوسائط والروابط، وهذا له تأصيله الاستقرائي المتين.
2- الدولة المقاصدية هي دولة المصلحة، والمصلحة هي المنفعة التي لأجلها قامت الدولة، وهي بمستويات ومشتملات وتعقيدات، ومنها المصلحة التربوية على سبيل المثال، فهي منفعة الفعل التربوي الذي يَتعلّق به حكمه الشرعي التربوي الثابت بدليله الشرعي التربوي، الموصول بمُدركه الدستوري والعُرفي والسياقي، وهذا يدخل ضمن الأحكام الكليّة العامّة المركّـبة، ومصلحته كذلك مصلحة كليّة عامّة مركّـبة، كمصلحة إقامة نظام تربوي مربوط بالتشغيل وتوفير الحاجيات المترتبة على التخصّصات والكفاءات، ومصلحة صياغة الطفولة الحامية للكهولة والحافظة للسند والمتن، المكافحة من أجل مُستقبل وطنها وشعبها وأُمّتها، فهذه المصلحة التربوية بهذا الشمول والتعقيد والتداخل؛ إنّما هي المصلحة المقاصدية المذكورة في علم المقاصد والمتأصلة باستقراء النصوص وشواهد العمل… وليس مجـرّد مُفـردة مُجـرّدة مُطلقة تتداول بشكل سطحي وعاطفي ونقلي لا أثر له في تأثيثها وتجديدها وتفعيلها ومعالجة إشكالياتها.
وكذلك المصلحة الصحية والإعلامية والخدمية والإدارية والقضائية والحقوقية… فكلها مصالح كليّة عامّة لأهل الدولة وشاملة لمجالات الدولة ومُتسعة لروابط ومنفتحة على جسور وأدوات ومقتضيات إلخ.
3- الدولة المقاصدية هي دولة الوسائل والمآلات لتعلّقهما بالمصلحة، فالمصلحة بوسائلها وبأفعال المكلّفين (الفاعلون في الدولة بدرجة أولى) من أجل تحقيقها، وهوما يُشير إلى اعتبار مآلات الفعل في الدولة، كاعتبار مآل الفعل التربويى الذي ذكرناه قبل قليل، من حيث بناء جيل واستمرار سند وتحضير مقدمات المخرجات المأمولة في سياسة علاجية ودفاعية وتنموية وتخطيطية.
ومجموع الوسائل المصلحية في الدولة المقاصدية المُـعاصرة، هي مجموع ما يكون بمثابة المقـدّمات السابقة للمصالح نفسها، وهذا يشمل الأدوات والتحضيرات والمدخلات المختلفة النظرية والعملية والفنية والنفسية وغيرها… وكل هذا يدخل في مفهوم الوسائل بسعة نظر وأفق، وليس بتضييق دلالة لغة واستعمال. فالوسائل معرفة بـ “ألـ”؛ فهي باستغراق لغوي واصطلاحي وموضوعي، وفق موضوع المصلحة.
وفي مقابل المصلحة التي تحدّد بها دولة المقاصد، ينظر إلى المفسدة التي لا ينبغي من حيث الأصل أن تُوصف بها هذه الدولة، كليا وجزئيا، وإذا وُصِفت به؛ فيَعني ذلك أنّها دولة غير مقاصدية كليا أو جزئيا؛ وذلك لأنّ المفسدة ضدّ المصلحة في علم المقاصد، ولكونها ضـررا يلزم درؤه أو تقليله، بناءً على درء المفاسد وتقليلها، وهو موضوع المقاصد من جهة الدرء والتقليل، في مقابل المصلحة التي هي موضوع المقاصد من جهة الجلب والتكثير والتكميل. وفساد الدولة عنوان لفساد ما فيها ومن فيها، من فساد هيئات وسياسات وإجراءات، وفساد أذهان وإرادات وأعراف وعادات ومراكمات وترِكات، ولذلك عُـدّ الفساد السياسي والإداري والإعلامي ضربًا من ضُروب الفساد المنهي عنه في الأحكام والمقاصد، وعُـدّت مكافحته ضربًا من ضُروب فعل الدولة المعاصرة، وفق قواعد ومقتضيات ومسارات قانونية وقضائية وإدارية، وبروح ما تُسمّى به “العدالة الانتقالية” و”المشروع الإصلاحي” لدولة معيّنة في مسار تحرّرها الفساد والإفساد.
4- دولة المقاصد هي دولة الإرادة والقصد، فهي تقوم على الإرادة العامّة لشعبها، أغلبيّة وأقليّة، وفق ما تدل عليه عبارة الإرادة بفهم قانوني وشرعي وسياسي.
- فالإرادة في المفهوم القانوني هي أحد أركان الموضوع التعاقدي في الدولة، التي يُعبّـر عنها بآليات الانتخابات والاستفتاء، وبالتوافقات والتسويات في حالات خاصّة كحالة الحرب والثورة وزوال النظام…
- والإرادة في المفهوم الشرعي هي: توجه أصحاب الشأن في الدولة، (الشعب والهيئات)؛ نحو إنشاء فعل الدولة، كفعل الانتخابات العامّة وفعل مواجهة السلطة إذا طغت واستبدت وأفسدت، وفعل التآزر العام بسبب الجائحة الوبائية والزلزال الجغرافي أو السياسي… والتوليف بين الإرادتين القانونية والشرعية، أمرٌ مُمكن يتحقق أثره الدنيوي والأخروي، أما أثره الدنيوي، فهو ما يحصل من ثمرات الفعل الحاصل بدافعية الإرادة الباطنية المرتكزة إلى العقيدة المُحفّـزة، والضرورة المُلجئة والحاجة القائمة، وأما أثره في الآخرة فهو ما يحصل من أجر وفضل عند الله تعالى، بموجب الإيمان وأركانه وعمرانه.
وفي الموضوع الدنيوي يتوافق الجميع على الإرادة المُنشئة للفعل الدنيوي، كفعل الإصلاح العام واستقلال القضاء وتعزيز الحريات العامّة والخاصّة، حيث تتعدّد القصود الباعثة على الفعل، ولكـنّها تتفق في الموضوع الذي تعلّقت به تلك القصود. فتعدّد الإرادات في الموضوع الواحد، معناه تعدّد الخلفيات الفكرية والفلسفية للفاعلين في مجال الموضوع، فهذا خلفيته موروث ثقافي، والثاني خلفيته حقوقية، والآخر خلفيته شرعية يقصد بها الأجر والثواب، فهذا التعدد في الخلفية؛ لا يكون له تأثير في التوحد على موضوع تنموي أو طبي أو خدمي، يُمكن للجميع التوافق عليه واعتباره أمرا مشتركا في فعل برلماني أو فعل سياسي أو أكاديمي أو حقوقي. ولهذا تأصيله في موضوع النيّات والقصود المتعلقة بالأعمال والسياسات.
5- دولة المقاصد دولة وظيفية إدارية إنجازية، تقوم بوظائف عامّـة كحفظ النظام ومنع الجريمة وتوفير الخدمات، وتدير المرافق العامّة، وتحقّق الإنجاز الكافي بالمُـمكن، ولذلك تفقد الدولة مصداقيتها وثقة الناس فيها عندما تتخلف عن الإنجاز وسدّ الحاجيات وتعطل الخدمات، وعندما يُصيبها الكسل العام والبيروقراطية والمحسوبية والمديونية، وعندما تُصاب بالتضخّم والفقـر والشعبويّة التي ترتكز على الشعارتية الجوفاء وادعاء الطهورية ومخالفة الأفعال للأقوال.
والشرعية الإنجازية إحدى أنواع الشرعيات المُهمّة التي تقوم عليها الدولة الجديدة برؤية المقاصد، التي يكون الإنجاز فيها ثمرا ونفعا، يُخرّج على مفهوم المصلحة وتكثيرها وتكميلها، ويُخرّج على المعنى المقاصدي الذي يلامس المعنى الحقيقي للدولة من حيث الإنجاز والتثمير والخدمات، وليس المعنى الشعاراتي والخطابي الذي لا تكفي معه شرعية نضال أو شرعية انتخاب أو شرعية اختصاص، فللشرعيات حُدود زمانٍ ومكانٍ وحالٍ، وتنتهي وتتلاشى بانتهاء جذوتها وانطفاء بريقهما بمرور الزمن وضمور الإنجاز.
العنصر الثاني: الموجهات السياقية للدولة المقاصدية
الموجهات السياقية للدولة المقاصدية هي: الموجه التاريخي والجغرافي والراهني والمستقبلي لها:
1- الموجه التاريخي
هو مجموع الفعل التاريخي وأثـره الذي عليه الدولة في وضعها الذي آلت إليه بموجب هذا الفعل التاريخي، فالدولة المقاصدية هي دولة مآلات التاريخ في لحظتها التي تباشر فيها وظيفتها، فهي مآلات بمثابة المحاصيل الديمغرافية، ومن ذلك التعدّد العرقي واللغوي والديني في دولة تعددية بهذا التعدد التاريخي، الذي يَستوجب إدارة سياسية له؛ من أجل تحقيق التعايش الآمن والتوافق عليه بمحدداته التاريخية والديمغرافية والمعاشية في متطلباتها المختلفة.
وهو ما يَنفي تفـرّد الحُكّـام الجُـدد والجيل الثوري الصاعد، باستئثار بالقرار والاستثمار والاستحقاق، وبمصاحبة حالة الزهو الريادي بمقبولية عامّة في ابتداء الصعود إلى الدولة وانتزاعها ممن سبق من ذوي السوابق التسلطية في إدارة الدولة بتبديد وتخريب.
ومن شواهد التأصيل لهذا التعدّد الذي آل إليه التاريخ، حقيقة التعـدّد ذاته بموجب إرادة الخلق والإنشاء، وحقيقة إدارته بموجب إرادة الشرع والتكليف، ومعنى ذلك: أنّ التعدّد بخلق الناس مختلفين في أعراقهم وأجناسهم ولغاتهم وألوانهم، إنّما هو إرادة الهيّة مُطلقة، وأنّ التعدّد في الفعل التعدّدي السياسي والفكري والمذهبي والوظائفي…؛ إنّما هو إرادة تشريع لهذا التعدّد وتكليف المتعدّدين بإحكام إدارته وبأن ذلك ابتلاء لهم، ابتلاء تعدّد وتنوع، وابتلاء خصوصيات وتحيّزات واصطفافات، وفي الآية الكريم دلائل على الإرادتين (إرادة التعدّد بالخلق وإرادة التعدّد بالفعل)، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119].
وفي أي تحـوّل سياسي وحـراك ثوري، يُبْتلى الفاعلون فيه بتعدّدهم خلقًا، وتعدّدهم واقعًا وحالًا ومآلًا، ما يُجبرهم على الإدارة الراشدة لهذا التنوع، استجابةً لإرادة الله الكونية بالخلق وإرادته الشرعية بالأمـر. وفي هذا يَشترك الجميع في الإرادة الكونية، من حيث وقوعها دون اختيار منهم بالخلق والإنشاء، ويتفقان أو يختلفان في الإرادة الشرعية، بموجب أحوال الاستجابة لأمره تعالى وعدمها كليا أو جزئيا، وفي ضوء الفعل الدنيوي المقتصر على موضوعه في معيشة الناس أو الموصول بالآخرة. وفي هذا تدقيق قد نعود إليه في حقيقة التعدّد بين العقيدة والشريعة.
2- الموجه الجغرافي
هو: مجموع الموجود الطبيعي والمناخي والمخزون الاستراتيجي الحيوي والطاقي والإمكان الحضاري التنموي بناءً على ذلك، وكذلك مُحيطها الإقليمي والدولي وأثره في صياغة سياستها ووظيفتها ومصالحها.
ويُعدّ هذا المجموع وضعًا بالخلق ابتداءً، ووضعًا بالتكليف والابتلاء في الحال والمآل، وهو يتعلّق بمقاصد الدولة من جهة كونه إمكانا جغرافيا حضاريا يُعـزّز قُـدرات الدولة في تعزيز المصلحة العامّة، ومن جهة كونه وسيلة وطنية عامّة تؤدي إلى مقاصدها ومآلاتها، والوسائل لها أحكام المقاصد، ومن جهة كونه قدرا إلهيا خلقًا وتكوينًا، تَعلّق به قدر إلهي شرعي مناسب له، وموجّه لفعل الدولة بناءً على ذلك التناسب، وعليه فإنَّ دولة المقاصد والفاعلين المقاصديين فيها، يَستثمرون الإرادتين الخَلقيّة والشرعيّة في تحقيق مُـراد الله وإصلاح المجموع -بمستويات ذلك- وهو المعبّر عنه بمراد الله: مصلحة الإنسان، فمصلحته (ومصلحة شعب الدولة بالمجموع) إنّما هـو مراد لله ابتداءً بالخلق وأثناءً بالشرع وانتهاءً بالجزاء[2].
3- الموجه الواقعي الراهني
هو واقع الدولة ومساراته وأحواله وما يلابسه من التحديات والموانع وما يمثله من فرص وأقدار.
ومن راهِـنِ الدول أوضاع الاستثناء والاضطرار في مرحلة حرب وثورة ووَباء… وما يَقتضيه ذلك من الوعي المقاصدي المؤطر للاستثناء الضروري والحاجي والوسائلي في علاقة بالمقاصد، فمراحل الاستثناء هي أقرب إلى حقيقة الوسائلية، وليست مرحلة مقاصدية، بمعنى أنّ المراحل الاستثنائية الانتقالية التي تعقب ثورة ما أو زلزالا أو وباءً أو حربًا، إنّما هي مراحل تؤدى فيها الوسائل والمقدّمات التي توصل إلى مقاصدها ونتائجها وغاياتها، بمزاولة الأعمال التحضيرية ومجاوزة الإشكاليات العالقة التي تعيق الاستمرار العادي للدولة، ومن ذلك مثلا: وضع دستور جديد للدولة الجديدة، ووضع قوانين تنظم عمل الأحزاب والجمعيات وإرساء مؤسسات الانتقال السياسي واستعادة الدولة لطبيعتها العدلية التنموية التعديلية، ثم بعد هذه المرحلة الوسائلية الكبرى تأتي مرحلة أو مراحل المقاصد، بمعنى تحقيق الأهداف والدخول في إنجاز الإصلاحات الحقيقة المطلوبة، كالإصلاح التربوي والقضائي والمالي…
4- الموجه المُستقبلي
هو الرؤية الاستراتيجية للدولة في تعاملها مع المستقبل وتوقعاته ومتطلّباته مما يَتعلّق بالمداخل اللازمة لهذا المستقبل، وهو مُـوجّه لـه اعتباره في الدولة المقاصدية الجديدة، ومن ذلك:
– تأمين مسارها الانتقالي التحـرّري والحيلولة دون الانقضاض عليه بثورة مضادّة وانقلاب قد يرد في أي لحظة مواتية بموجب تراكمات الماضي الاستبدادي والمطالبات العشوائية والضخمة وعجـز الحُـكّام الجُدد وتردّد الفاعلين السياسيين عن تحقيق مُنجزات تنموية واقتصادية وإصلاحات كبرى ونتائج مقنعة للجمهور…
– وأيضا تأمين المسار الانتقالي من أي رِدّة داخلية وانقلاب على المحيط الثوري، بأي شكل من أشكال الانفراد والاستقطاب ومَرْكَـزة القـرار في دائرة أو فصيل أو مجال؛ ولذلك يلزم وضع كافة الضمانات دستوريا ومؤسسيا ومدنيا ومن حُكماء وخبراء، وينصح بتقليل مُدّة الانتقال والمرور بسرعة معقولة، وبالرفقة المأمونة لفـكّ الارتباط الفردي والفئوي بمفاتن الدولة وكسر الخلوة بالسلطة لمنع الشهوة بسطوة. والمأمول من ذلك كلّه إنّما هو لتركيز مفاصل المسار السلس المأمون لنهوض الدولة من جديد، على أسس التغيير والإصلاح، والحيلولة دون التفاف واختطاف قد يُعيد الدولة إلى التعنيف والاعتساف.
العنصر الثالث: الدولة المقاصدية بين العقيدة والشريعة
الدولة المقاصدية في الفضاء الإسلامي هي دولة بمرجعيّة الإسلام في سياقه وبمآله وبموازناته ومتطلباته. ولذلك فهي بوصفات تتعدّد بتعدد السياقات، فدولة المقاصد في القطر الفلاني ليست هي دولة المقاصد في قطر آخر، والتعدّد هذا حاصل بموجب اختلاف السياقات وتوجيهها لطبيعة الدولة ووظائفها، فالتاريخ مختلف والجغرافيا كذلك، والمكون الهَوَوي والعرقي والفصائلي متعدّد، والظروف الإقليمية وتوازنات المحيط وموازين القوى وموازنات المصالح والمفاسد قائمة وجارية.
وتأكيد المبادئ العامّة هنا إنّما هو بمثابة تأكيد الأسس المرجعيّة المجردة لماجريات الواقع وتحدياته وتطلّعات النّاس وإمكانيات الفعل ومآلاته، والمحدّدان الكبيران في دولة المقاصد محدّد العقيدة ومحدّد الشريعة.
فمُحدّد العقيدة هو المحدّد النظري الكلي الغائي للوجود الكوني الناظم للفعل الإنساني في الوجود الدنيوي، ومُحدّد الشريعة هو المحدّد النظري التشغيلي الكلي الناظم المُوجّـه للفِعْل الإنساني في الوجود الدنيوي.
فالشريعة في دولة المقاصد هي أحكام فعل الدولة، ومقاصدها في المصالح التي تجلبها للشعب بوسائلها واعتبار مآلاتها، وما يقتضيه من تأثيث هذه المصالح بمقتضيات ذلك نظريا بالتخطيط والتفكير وعمليا بالإنجاز والتطوير والتأثيث.
ولذلك فإنَّ الشريعة إنّما هي مرجعيّة الإنجاز نظرًا وعملًا، بقواعد المُوازنات المقاصدية والاجتهاد المصلحي والوسائلي والمآلي وبالعزم والإرادة تجديدا وتقوية…
أما العقيدة فهي أحكام فعل الله في الدولة ومراده فيها، ففِعْله هو خلق أهل الدولة وأرضهم ومُـدّخراتها وسُننها ومحيطها، قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: 32]، ومراده هو أن ينتظم أهل الدولة انتظاما إنسانيا وفق انتظام خلقه وانتظام شرعه وانتظام تناسب خلقه بشرعه، فانتظام الدولة الفعلي الإنساني إنّما هو مقام تكليف إلهي بمراده وأمره ونهيه، بما يُناسب انتظام خلقه وانتظام شرعه وتناسب الأمرين، وهذا لا يعني الحكم الإلهي المباشر لتفاصيل انتظام الدولة، فالله يعلم التفاصيل وقد فَـوّض النّاس لمباشرتها في دولتهم بحسب تفاهمهم، وتفويضه لا يَعني التحدّث باسمه وإضفاء القداسة على ما يصلون إليه من مواقف ومواصفات وسياسات وخطاب ومُخرجات، فلا أحد يتحدّث باسمه مهما علا شأنه التديني والتزكوي والمهاري والأسبقي، ولا جماعة تُنصِّب نفسها هيئة سلطوية بإرادة إلهيّة وسُلالة سماوية أو نبوية، وبأنساب شرف تؤول بعد ذلك إلى أنساق ترف.
إنّ العقيدة هي أن تنتظم الدولة انتظامًا إنسانيا قيميا وتنمويا وحكميا، وأن تقتفي أثر حكمة الله في خلقه وأسمائه وصفاته، بأن تكون دولة حكيمة بحكماء أفراد ومؤسسات، ودولة مستقرة مستمرة برشدها لا بعبثها بمدخراتها ومقدراتها وكفاءاتها، فعبث الدولة هو من عبث الشيطان، وهو منافٍ لخلق الله الحكيم الذي نفى العبث عن خلقه، قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]، والخلق هو خلق الكون وخلق الإنسان، ولازم هذه الخلق الثنائي هو نفي العبث عن وصل الخلق الإنساني بخلق الكون، وهو العبث المتأتي بسوف فعل الإنسان وعبث مؤسسات الدولة وسياساتها بموجب التسلط الفرداني والفئوي والفصائلي والطائفي والنخبوي إلخ…
ولهذا تأصيله الكثير الغزير في نصوص الدّين ونصوص الكون ونصوص التاريخ، فالدولة إنّما هي لَبِنة انتظام إنساني ضمن مجموع الانتظام الدنيوي المؤطر بانتظام الكون وانتظام الدين، وهو “تعبيرة” عن هذا الانتظام المستمد من عقيدة الإبداع والجمال والعدل والحقّ والإحسان، فكل هذه المصادر العقدية إنّما هي معان لأسماء الله وصفاته وأفعاله، والمُفترض أن يقتبس الفاعلون في الدولة بدرجة أُولى معانيها في تصرفاتهم في الدولة وفق المتاح الإنساني وفي المحيد الإنساني وفي مسرح عمليات الدولة وقيمها ومقارباتها، فالدولة العقدية المقاصدية إنّما هي الدولة التي تحقّق مقاصد عقيدة الأسماء والصفات، فهي دولة إبداعية جميلة، عادلة حقوقية، تستمد ذلك من أسماء البديع والجميل والمحسن والحقّ، وتجعل ذلك أثرا فعليا تكليفيا في أفعالها بأحكامها الشرعية، فعقيدة الأسماء تُنتج شريعة الأسماء، أي أنّها تُنتج أفعال الإنسان تجاه هذه الأسماء وفق مدلول التوجيه القرآني والسُّنّي، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، وقوله ﷺ: «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إلّا واحِدًا، مَن أحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ[3]».
إنَّ دولة المقاصد هي دولة الإسلام بعقيدته وشريعته بهذه الأفق العالي في العلم والعمل، وبسياقاته وموجهاته في تاريخ وجغرافيا وراهنية ومستقبلية، وفي مصلحية حقيقية متراكبة متراكمة عامة شاملة متعدية غالبة، مصالح وسائل ومصالح مقاصد، مصالح دنيا ومصالح آخرة، وفق المصلحة الكونية بشقّها الدنيوي الذي يمثل المقدمة للشق الأخروي، فمصلحة الجّنة هي المصلحة العليا بالقصد والغاية والمآل، ومصلحة الدنيا هي مصلحة من جنس مصلحة الجنّة ومقدمة لها ووسيلة إليها.
وفي القرآن إشارات إلى ذلك ومن ذلك الآية 77 من سورة القصص. قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾. فقد قُـدّمت الآخرة على الدّنيا، بإشارة إلى تقديم المقصد على الوسيلة، فالآخرة هي المقصد ومصلحتها الكبرى هي الغاية، والدنيا هي الوسيلة إلى الآخرة وما فيها من مصالح فهو مصالح وسائل، ومصالح ظرفية محدودة ينبغي أن تكون من جنس مصلحة الآخرة.
الدولة المقاصدية دولة الكل، وهي بمثابة طبيب المدينة الذي يُعالج الجميع، يعالج من صلّى الفجر حاضرا، ويعالج من بات على الخمر ساكرا. والدولة مدينة كبرى واسعة، وقد تضيق بأهلها لعقوق وفسوق ومروق، وانتشار مظالم وضمور حقوق. والله الهادي إلى سواء السبيل.