باتت تحديات الذكاء الاصطناعي [1] تطرح نفسها على الأديان، بعدما ظن الكثيرون أن الدين بمنأى عنها، وأنها لن تقترب من هيبته وقداسته، وتساءل هؤلاء هل تصلح الربوتات أن تدل الإنسان على خالقه، أو تبسط له طريق الهداية، أو تقدم له الموعظة البليغة، أو تمنحه الفتوى الصائبة التي تُنزل النص على الواقع المتغير؟! من ناحية أخرى يذهب آخرون أن الدين جزء من التكوين الإنساني، ولا يمكن نزع حضوره من الوجدان، والذكاء الاصطناعي جزء من المستقبل، ولا يمكن تصور إنسانية قادمة بلا ذكاء اصطناعي.

الربوتات الدينية

الذكاء الاصطناعي آخذ التوسع في كافة المجالات ومن بينها المجال الديني، ففي اليابان ابتكر المهندسون عدة ربوتات، منها: “ميندار”Mindar  في معبد “كيتو” لتحفيز الزوار للاهتمام بالتعاليم البوذية، وهذا الكاهن مصنوع من الألمونيوم، لكنه لم يمنح الاستقلال للحديث في الشأن الديني، ولعل ما جعل معابد أخرى تتنافس لتقديم نسخ أكثر تطورا.

وفي ألمانيا طورت الكنيسة البروتستانتية -منذ سنوات- روبوتًا اسمه “بليس يو 2” BlessU-2  يحتوي على صندوق بشاشة تعمل باللمس، وله يدان ورأس، ويتكلم خمس لغات، ويبث نورا من عينيه ، كما أنه قادر أن يتحول بصوته إلى ذكر أو أنثى، حسبما يريد الشخص، أما الكنيسة الكاثوليكية فقدمت الراهب “سانتو ” SANTO الذي يقوم بوظائف الراهب الكاثوليكي، وتبحث الكنيسة إمكانية أن تقوم الربوتات بمباركة الناس، أما الفاتيكان فسعى لانشاء روبوتات طاردة للأرواح الشريرة، وتحدث آخرون عن “كنيسة الذكاء الاصطناعي” [2] لكن المدهش هو أن الربوتات هذه تم تقديمها لسد عجز الكهنة في أوروبا، وفي الصين تم تطوير راهب آلي يقدم تعاليم بوذا، حتى اليهودية تطرق لها الذكاء الاصطناعي، في ربوتات تلعب دور الحاخام، وتلقى خطبا دينية تسلتهم التوراة.

قلق ديني

المطورن يسعون لإنتاج ربوتات ذات طبيعة دينية، تؤمن بنفس ديانة منشئها، وهنا يثور تساؤل، هل أصبحت الربوتات مساوية للبشر في المجال الاعتقادي، وهل الدين قابل لـ”الأتمتة” أو الرقمنة”، وهل ستكون العبادة من خلال الفيديو والشات، وسيتم حجز الموعد مع الربوتات الدينية من خلال الانترنت؟

الحقيقة أن تغيرات الذكاء الاصطناعي تتراكم في المجال الديني، وهو ما يوجد قلقا أن يؤدي ذلك إلى تغيرات كيفية في مرحلة لاحقة، حيث يؤثر الذكاء الاصطناعي على الجانب الاعتقادي والأخلاقي للإنسان، أو ينحي الإنسان بعيدا، ويضعف دوره في المجال الديني، فالدين مسألة اختص بها الإنسان، ولم يعرف التاريخ أمة أو جماعة بلا دين أو دور عبادة أو رجال دين، حتى البدائيون كانت لهم أديان وصقوس ورجال دين، ولكن هل تستطيع الربوتات في العقود القادمة أن تغير ما ترسخ في التاريخ الإنساني الطويل، وأن تكون هي الواسطة بين الإنسان وخالقه، أو تكون هي وسيلة الدعوة إلى الدين؟

يتوقع البعض ظهور أديان جديدة مع الذكاء الاصطناعي، مثل البروفيسور ” نيل مكارثر” في مقاله “الآلهة في الآلة؟” Gods in the machine? الذي أبدى قلقه من أن بعض مستخدمي الذكاء الاصطناعي ، قد ينظرون إلى الربوتات كمخلوقات أعلى، خاصة وأن التطور في الذكاء الاصطناعي جعل قدرات الربوتات أعلى من قدرات البشر، كما أن الربوتات تمتلك حافظة لا تنسى شيئا، وقدرات هائلة على الاسترجاع، وقادرة على تلبية الطلبات في أي وقت بلا ملل، وربما هذه القدرات قد تجعل البعض ينظرون إليها نظرة متعالية، ولعل هذا حذر منه أحد علماء الأحياء وهو البريوفيسور إدوارد ويلسون Edward Wilson  من أن “المشكلة الحقيقية للبشرية أن لدينا عواطف من العصر الحجري القديم، ومؤسسات من العصور الوسطى، وتكنولوجيا شبيهة بإله”.

ولكن هل ترديد الربوتات لخطبة أو موعظة، أو حتى تقديم فتوى، يعني أنها باتت قادرة على القيام بالدور البشري في الدين، وهل تنقرض وظيفة رجل الدين مع التوسع في استخدام الربوتات الدينية، في مارس 2023 كُتب في صحيفة لوس أنجلوس تايمز مقال بعنوان هل يمكن للدين أن ينقذنا من الذكاء  الاصطناعي؟ تحدث عن انشغال كثير من المؤسسات الدينية بقضية الذكاء الاصطناعي، واستدعى المقال من التراث الإنساني مجموعة الأساطير، مثل ” أسطورة إيكاروس” وهي أسطور لشاب حلق بجناحين من الشمع حتى اقترب من الشمس، رافضا نصائح والده، حتى ذابت تلك الأجنحة الشمعية بفعل الحرارة والتوهج، فخر صريعا، وهو ما يعني أن تلبية الرغبات قد تؤدي إلى نتائج كارثية، وكذلك أسطور “غوليم” golem  تلك الأسطورة اليهودية التي تتحدث عن مخلوق أنشأه حاخام من الطين والسحر لحماية الشعب اليهودي، ومع مرور الوقت، زاد فساد “غوليم” إلى درجة خروجه بشكل متصاعد عن السيطرة، وهو ما استدعى تدميره.

ويبدو أن رجال الدين مشغولون أكثر بفكرة السيطرة على الذكاء الاصطناعي، على اعتبار أن كل ما يصنعه الإنسان يجب أن يكون تحت سيطرته وليس خارجا عنها، وأن توضع للذكاء الاصطناعي حدود تحترم الجانب الأخلاقي والمعنوي للإنسان ، وهو ما سعى إليه الفاتكيان في نداء روما THE ROME CALL الذي تم توقيعه أول مرة عام 2020، ثم شارك ممثلون على الأديان الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية في اجتماع في قمة “روما” مطلع 2023  واقترح ستة مبادئ أخلاقية يجب على جميع مصممي الذكاء الاصطناعي الالتزام بها، وهي: جعل أنظمة الذكاء الاصطناعي قابلة للتفسير، وشاملة، وغير متحيزة، وقابلة للتكرار، وأن يتحمل الإنسان المسؤولية دوما عن أي قرار يُسهله الذكاء الاصطناعي.

ويبقى الإشكال الكبير هل ترسخ الربوتات فكرة الانفصال بين الإنسان وأخيه الإنسان، والانفصال بين الإنسان وبين خالقه، وهل يمكن أن يكون الربوت أكثر أمانة وأقوى تأثيرا في التبليغ الديني، وهل يصلح الربوت في مجال القدوة الدينية؟


[1]”يُعرّف البعض الذكاء الاصطناعي بأنه “فرع من العلوم والتكنولوجيا يهتم بدراسة البرامج والأجهزة لتزويد الآلات بالقدرة على استخلاص الرؤى والرأي من البيانات والبيئة، والقدرة على التكيف مع المواقف المتغيرة بدقة وبسرعة”.

[2] The Church of Artificial Intelligence