هناك قيم تسود الكون كله، وتنتظم الكائناتِ كلَّها، وهي التي تستحق وصف القيم الكونية. وفيما يلي نماذج منها:
النظام والانتظام
جميع مُشاهداتنا ومَداركنا، وكل العلوم والدراسات، وكل وسائل البحث والاستكشاف، تثبت وتؤكد أن الكون كله يقوم ويسير وفق نظام دقيق محكم، من أصغر ذراته إلى أضخم مجراته. فوجود هذا النظام واطِّرادُه عبر جميع الأكوان وجميع الأزمان يعتبر قيمة عظمى ونعمة كبرى.
– وهي أولا قيمة علمية، لكونها تسمح بالتعامل مع خيرات الكون وكنوزه تعاملا منتظما مؤسسا على قواعدَ وقوانينَ ونواميسَ معلومةٍ مستقرة، لا تتبدل ولا تتخلف. وتسمح كذلك باستلهامها ومحاكاتها فيما يسعى إليه الإنسان من صناعات واختراعات وأنظمة.
– وهي ثانيا قيمة اجتماعية، تَـوَصَّلَ الإنسانُ من خلالها إلى تنظيم حياته ومواعيده اليومية والأسبوعية والشهرية والفصلية والسنوية، وتنظيمِ فلاحته وزراعته ورحلاته التجارية وغيرها. وهي دوما تُلهم البشر فكرة النظام والانتظام في حياتهم وحقوقهم وواجباتهم وسائر علاقاتهم ومعاملاتهم وشؤونهم الاجتماعية، سواء في دوائرها القريبة أو البعيدة.
– وهي قيمة جمالية، فليس هناك شيء منظم ومنتظم إلا وهو آية من آيات الجمال، ومصدر من مصادر البهجة والمتعة.
والقرآن الكريم مليء بالشواهد والأمثلة المنبهة إلى هذه القيمة الكونية، كما في قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَيَوْمَ ينْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ آتُوهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ).
وقوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
الخضوع للخالق والتسبيح بحمده
المخلوقات كلها تعبر بطرق وأساليب مختلفة عن انخراطها وانسيابها في سنن خالقها، وتعبر عن رضاها وحمدها له على إبداعه وإنعامه وإحسانه، قال الله جل جلاله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَاب)
وقال سبحانه: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا).
فهذه أيضا قيمة كونية حقيقية، جدير بكل من شذ عنها أن يتدبرها، وأن يعود إليها ولا يَكْفُرَها، وجدير به أن يستمع وينصت إلى قوله عز مِن قائل: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَّلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ).
الاختلاف المتكامل
من المظاهر التي تحتاج إلى كثير من التأمل فيها والاعتبار بها: ظاهرة الاختلاف والتنوع والتعدد في هذا الكون. فكم في أرجائه وأحشائه من أنواع وأجناس وأصناف وأشكال وأحجام وألوان ولغات ولهجات وروائح ومذاقات…؟؟ بل إن الناظر في المشهد الواحد أمامه ليعجز أن يحيط بما فيه من تلك التنوعات والتشكلات اللامتناهية.
ومعلوم أن جماعة الملحدين – لفرط ذكائهم وعبقريتهم – أدركوا أن ذلك كله من جملة الإبداعات التي صنعتها الصدفة والعشوائية الكونية، أي الفوضى الخلاقة، ولله في خلقه شؤون.
أما القرآن الكريم فيلفت الانتباه مرة بعد أخرى إلى أن كل فرد وكل عينة من هذا التنوع إنما هي آية من آيات الله. قال تعالى: (وَهوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) [الرعد: 3، 4]
وقال أيضا: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم: 22]
(إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس: 6]
المهم أن الكون كله، في كل شبر من أرضه وسمائه، ومن بَره وبحره، يعج بالتنوع والاختلاف، ولكنه مع ذلك سائر في نظامه وسننه، ماضٍ في أداء واجباته، لا يضيق بعضه ببعض، ولا يضجر بعضه من بعض، بل حتى ما نعتبره نحن كائنات طفيلية ونباتات طفيلية، تعيش وتتوالد، وتتغذى وتتمدد، دون شكوى أو أذى، إلا ما قد يأتيها من بعض بني آدم.
فهذا التعايش والانسجام والتكامل، في ظل اختلاف لامحدود وتنوع لامتناهٍ، ينبه الإنسان إلى قيمة كونية بالغة الأهمية والفائدة لحياته وعلاقاته بمختلف مستوياتها ومجالاتها.
إن الكون كله يقول لنا: يا بني آدم، استمتعوا بتنوعكم، وتكاملوا باختلافكم، في ظل النواميس الحكيمة المحكمة.