كان المفكر الجزائري مالك بن نبي يرى أن المثقف الأفريقي الذي كونته باريس ولندن، هو في أغلب الأحيان أوثق اتصالاً بمنشأ ثقافته منه بمنشأ حياته، جاءت تلك المقولة في القرن العشرين عندما بدأ التأثير الثقافي الغربي يطغى على الثقافات الأخرى، ولكن يبقى السؤال: كيف رأى الجيل الأول الذي رحل إلى الغرب خاصة إلى باريس لأول مرة أزمته الحضارية ؟ وكيف كانت انطباعاتهم عما شاهدوه في رحلتهم؟ وما هي طبيعة الصدمة التي تلقوها في تلك اللحظة الكاشفة بين عالمين؛ أحدهما ينطلق نحو المستقبل متسلحا بالعلم، والآخر يعاني من أزمة حضارية لم يكتشفها، ولم يتلمس فجيعتها إلا مع صدمة الحملة الفرنسية على الشرق عام 1798م؟
وأمام ذلك الموقف الحرج تاريخيا جاءت الرحلة إلى باريس أو “باريز”، إذ كانت غالبية الرحلات تبحث عن أسباب التفوق الغربي، وعوامل التراجع الإسلامي من خلال المقارنة بين القيم الحاكمة للتحضر وأساليب المعيشة وأوضاع، ورغم أن شعور الصدمة كان هو الطاغي في غالب الرحلات، وكان الانبهار بالغرب هو المسيطر على الأفكار والكلمات، إلا أن بعض الرحلات امتلكت عينا باحثة فتشت عن الأسباب الكامنة وراء هذا النهوض المفاجئ للغرب، بعد أن ظل حجم التفاوت بين المسلمين والغرب لقرون طويلة عسكريا وعلميا محدودا، ولا يتجاوز فجوة يمكن جسرها في سنوات معدودة، فقد كلا من المسلمين والغرب ناقلين ومطورين للفكر اليوناني والإغريقي، يدورون في فلكه وأفكاره ومسلماته، لذا كانت لغة التحسر بادية في بعض الرحلات عما أصاب المسلمين من تراجع، لذا وجد العقل الحضاري المسلم ضرورة البحث عن التفوق من خلال الارتحال إلى الغرب، ومعايشته.
ويلاحظ أن كثيرا من الرحلات كانت ما تزال ترى في الغرب أن تفوقه الهائل يرجع إلى قوته العسكرية، لذا انصرف الكثير منها للاهتمام بالجانب العسكري، ولم تدرك كثير من تلك الرحلات أن القوة العسكرية ما هي إلا نتاج لنهضة علمية ونظم سياسيا وإدارية متقدمة، ورغم ذلك فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن العقل المسلم كانت به بقية من عافية وإرادة حضارية وآمالا لم تخبو جذوتها بعد للتنافس مع الغرب من جديد من خلال الخروج بالمسلمين من دائرة التراجع والتخلف نحو التقدم.
عرف القرن التاسع عشر عددا من الرحلات لباريس بعدما نشطت البعثات العلمية العربية لباريس ويعتبر كتاب” تخليص الإبريز في تلخيص باريز” لرفاعة الطهطاوي من أهمها، إذ تعد رحلة الطهطاوي إلى باريس أول مؤلف عربي في العصر الحديث يُكتب عن أوروبا ويكشف عن واقعها الاجتماعي والثقافي والعلمي من خلال المعايشة، فقد أقام الطهطاوي في باريس خمس سنين ونالت رحلته عناية خاصة بعدما أمر حاكم مصر –وقتها- محمد علي باشا بترجمتها إلى التركية والعربية وطباعتها وتوزيعها على الوجهاء والأعيان والاستفادة منها في المدارس، فطبعت في مطبعة بولاق عام 1834م، إلا أن ذلك القرن كانت الرحلة فيه مغاربية بامتياز.
الاستعمار والرحلة الباريسية
لعب الاستعمار الفرنسي دورا مهما في الحث على الرحلة إلى باريس، إذ مول بعض الرحلات، وأتاح للرحالة الاطلاع على مواطن القوة والعظمة الفرنسية، بل وطبع الرحلة على نفقته، وكان الاستعمار يستهدف من ذلك السيطرة على العقول المسلمة في الجزائر وغيرها من بلدان المغرب، لكسر شوكة المقاومة، وخلق حالة من التبعية تجعل تلك الشعوب تنقاد بسهولة، وفي كتاب “خمس رحلات جزائرية” يذكر الباحث “علي تابليت” أن الرحلات التي تمت إلى باريس كان هدفها بث الدعاية الموالية للاستعمار الفرنسي، كما أن الرحلات تُرجمت إلى الفرنسية كي يتعرف الفرنسيون على إنجازات الاحتلال في الجزائر وأن الاحتلال أصبح يستولي على عقل وروح الجزائريين ووعيهم، لذا طبعت الرحلات على النفقة الفرنسية عام 1852.
كانت هناك رحلات جزائرية إلى باريس، تمّت خلال فترات تمّت خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر وبموافقته، فكانت تنقل وفود جزائرية إلى باريس في كلّ مناسبة من المناسبات المهمة كممثلين عن الشعب الجزائري للمشاركة في احتفالات أو أعياد فرنسية، ومن تلك الرحلات:
ـ رحلة السيد سلمِان بن صيام إلى بلاد فرنسا عام 1852، والتي تعرف بـ”الرحلة الصيامية”، وقد استغرقت الرحلة خمسة وثلاثين يوما، ولا تزيد عن (28) صفحة، وهي تقترب من (4200) كلمة، ومكتوبة بلغة عربية فصيحة، ولكن لا يوجد فيها أي استشهاد من القرآن الكريم أو السنة النبوية، وكانت عبارة “وذلك من أغرب ما رأينا” كثيرة التكرار في تلك الرحلة
ـ “الرحلة الفادية في مدح فرنسة وتبصير أهل البادية” عام 1878، وهي رحلة قام بها ” أحمد ولد قاد” تمت وفق رغبة الإدارة الفرنسية ؛ أما دوافعها: فمشاركة الوفود العربية في معرض يقام في باريس، وكانت المرة الثالثة التي يزور فيها الكاتب باريس وهو ما أثر على نص الرحلة نفسه، فلا نلمح الاندهاش، كما وجه انتقادات للفرنسيين للمظالم التي يتعرض لها الجزائريون على أيدي اليهود الذين أصبحوا أحد أذرع الاستعمار
كانت تلك الرحلات تطبع مع ترجمتها الفرنسية، لذا وصفت بأنها “نوع من الإعجاب القسري بالمستعمر”، كذلك يلاحظ أن فترة الرحلات كانت قصيرة تتراوح بين أيام وأسابيع، لذا لم تتح لهؤلاء المثقفين أن يتوغلوا في حقيقة الحياة الباريسية وأسباب التقدم الغربي، لذا جاءت أقرب للانبهار والاندهاش والوصف منها الوصول إلى مكامن القوة الغربية.
الرحلة الباريسية..واكتشاف الآخر
في تلك الفترة المهمة من التاريخ والتي شهدت تحولات كبرى في ميزان المغرب، جاءت بعض الرحلات على وقع هزائم مدوية تعرض لها أمام القوات الفرنسية، فقد عرف هذا النوع من الرحلات نشاطا مكثفا وواضحا بالمغرب مع منتصف القرن التاسع عشر حتى نهايته بسب التهديدات الفرنسية للمغرب بعد احتلال الجزائر عام 1830م، ولم تتورع فرنسا في التدخل عسكريا في المغرب في محطتين تاريخيتين هما معركتي إسلي سنة 1845م واحتلال تطوان سنة 1860م، وعلى غرار ما حدث بدول المشرق العربي الذي لم يعرف الحركة النهضوية الحديثة إلا بعد الاصطدام بالحضارة الأوربية مع حملة نابليون على مصر، فإن المغرب بدوره لم يشرع في التساؤل من طرف حكامه ونخبه حول هزائمه المتتالية إلا بعد الاصطدام بالتفوق الأوربي، فعلى إثر هزيمة المغرب المروعة أمام فرنسا في وادي إسلي قرر السلطان المغربي عبد الرحمن بن هشام إيفاد بعثة دبلوماسية إلى فرنسا، وقيل أن الرحلة جاءت بطلب من الفرنسيين، ووقع الاختيار على عبد القادر أشعاش عامل تطوان ليكون سفيرا مخصوصا من سلطان المغرب إلى ملك فرنسا لوي فليب، وكان الفقيه التطواني محمد الصفار من لتلك السفارة إلى باريس، واستغرقت الرحلة قرابة الشهر، وكتبها الفقيه الصفار عقب عودته، وقدمت نسخة إلى السلطان المغربي، واستمرت في الخزانة قرابة المائة وعشرين عاما قبل نشرها.
ورحلة الصفار تعد أول رحلة سجلت أحوال البلاد الغربية في العصر الحديث إذ تدخل ضمن مستويات التعرف على الآخر واكتشافه، ومحاولة امتلاك آليات ومقومات التفوق عنده من خلال البحث عن أسباب التقدم ومكامن القوة، وتقديمها، ومحاولة فهم أسباب التقدم الغربي المضطرد، والبحث عن سر قوته.
أما رحلة “إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار” أو المعروفة باسم “رحلة إدريس الجعيدي السلوي” عام 1876م لـ”أبو العلاء إدريس الجعيدي السلاوي” فهي من الرحلات المهمة إلى باريس، لكنها امتدت إلى بلجيكا وبريطانيا وإيطاليا أيضا، وتميز الجعيدي بأنه كانت له معرفة بالعلوم الطبيعية من رياضيات وفلك وهندسة، لذا مالت كتابته إلى الابتعاد عن الحشو والاطناب والألفاظ الرنانة إلى الدخول في جوهر الموضوع مباشرة، وابتعدت الرحلة عن الاندهاش نحو البحث عن الغاية التي جاءت وفق منهجية علمية قائمة على المشاهدة والوصف والتحليل
أما كتاب “تحفة الملك العزيز بمملكة الإبريز” تأليف “محمد بن إدريس العمراوي” وطبعت عام 1909، وجاءت الرحلة في ظل مقاومة مغاربية للمشروع التحديثي الاستعماري، وهي الرحلة الوحيدة التي طبعت قبل الحماية على المغرب، وحققها الدكتور زكي مبارك ونشرها في (95) صفحة، وطبعت في مطبعة بولاق بمصر عام 1934، وقد زار ابن ادريس باريس عام 1860 بعد هزيمة تطوان مباشرة.
المراجع:
-علي تابليت- خمس رحلات جزائرية إلى باريز (1852-1901) -منشورات خمسينية جامعة الجزائر-2012
-إدريس الجعيدي السلوي-إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار-تحقيق: عز المغرب معنينو-در السويدي للنشر-أبو ظبي- الطبعة الأولى-2004
-محمد بن عبد الله الصفار الأندلسي التطواني-رحلة الصفار إلى فرنسا (1845-1846)-تحقيق: سوزان ميللر-ترجمة: خالد بن الصغير—دار السويدي للنشر-أبو ظبي-الطبع الأولى:2007