ساد الاعتقاد منذ القرن التاسع عشر بأن السلوك الإنساني نتاج العوامل البيئية، فانحصر الأداء التعليمي في مكافأة التحصيل الجيد، ومعاقبة كل خمول أو تراخ أو انحراف، دون الاهتمام بدور الاستثارة الداخلية في تعزيز وتيرة التعلم.
غير أن نموذج الثواب والعقاب كشف عن تناقضات تهز المبدأ الجوهري للتربية. إذ لم يعد الإنجاز قيمة في حد ذاته، بل ارتبط بنظام المكافأة، أو ما يسميه إيريك جنسن: الرشوة التي نقدمها للتلاميذ!
خلال ستينيات القرن الماضي وجه الباحث والطبيب النفسي الأمريكي وليام غلاسر أنظار التربويين إلى دور الحاجات السيكولوجية الداخلية في تفعيل الرغبة للتعلم، من منطلق إيمانه بأن السلوك البشري هادف، وينبع من أعماق الفرد لا من قوى خارجية. إننا مدفوعون من الداخل إلى الخارج، يقول غلاسر، وليس العكس. وهكذا شكلت نظريته في العلاج الواقعي تحديا للمنظور الحتمي حول الطبيعة البشرية، بمعنى: مادام الفرد قادرا على بذل مجهود ذاتي فسيتمكن من إحداث التغيير، وإعادة تشكيل بيئته بما يتناسب مع تصوراته.
في مؤلفه الشهير (مدارس بلا فشل) عرض غلاسر أركان نظريته بعد تطويعها لتناسب المؤسسات التعليمية. وتعتمد نظرية العلاج بالواقع على قواعد مستلهمة من الحياة اليومية، تواجه المقاربة الجبرية للسلوك، وتدعو للثقة بقدرة الفرد عموما، والمتعلم بشكل خاص، على ملاءمة خبراته واتخاذ قرارات إيجابية. وفي هذا الصدد طور غلاسر ثلاثة مفاهيم أساسية هي: الهوية أو الدافعية، والمسؤولية، ثم الواقع.
تحيل الهوية إلى سعي الناس لأن يُعرفوا بأنفسهم كأفراد لهم فاعلية واستقلالية، وقدرة على التصرف وإصدار الأحكام. وهي مطلب أساسي لا يقل أهمية عن الحاجة للهواء والطعام والماء. وباعتبار طبيعة العلاقة مع البيئة والمحيط يُبدي الأفراد نوعين من الهوية: هوية النجاح التي تغذيها قدرة الفرد على الاندماج وتبادل الحب مع الآخرين، وهوية الفشل التي تنتج في الغالب عن تقويمات سلبية للذات، وعجز عن التصرف بمسؤولية، مما يكرس الإحباط وعدم الأهمية.
ولأن غلاسر مهتم بالسلوك أكثر من المشاعر فإن الحب على سبيل المثال يُعبر، في مدلوله المرتبط بالتعلم، عن الاهتمام بدرجة كافية لمساعدة الآخرين على مواجهة المشكلات التعليمية داخل المدرسة.
زيادة على الحب تتطلب هوية النجاح الوفاء بحاجة أخرى لا تقل أهمية، وهي الشعور بالرضا الذاتي، والذي يتحقق فقط عند اكتساب المعرفة، وإتمام المهام المطلوبة، وفعل ما يعتقد المرء أنه صحيح.
ولا يقل مفهوم المسؤولية أهمية عن الهوية في تمكين الأفراد من اتخاذ القرارات الإيجابية وتحقيق النجاح. ويُعرفها غلاسر بأنها القدرة على الوفاء بالحاجات الشخصية دون أن نحرم الآخرين من الوفاء باحتياجاتهم. فالمسؤولية، إلى جانب الحرية والاختيار، تشكل جوهر الإنسانية، والمحفز الأساس لاكتساب الفرد سيطرة فاعلة على حياته، وكلما قلَّت أو تراجعت فإن سلوكه يتجه صوب الخطأ.
تحقق المسؤولية مبدأ السيطرة الداخلية، على اعتبار أن الفرد كائن فاعل وليس منفعلا، وأن حركته منبعثة من الداخل وليست محكومة بحوافز خارجية. ومن شأن قبول المتعلم لهذا التصور أن يحسن صحته النفسية، ويعزز قدرته على الانضباط الذاتي.
أما مفهوم الواقع فيتناول الأضرار المترتبة عن السعي المستمر للبحث في الماضي عن تعليل أو تبرير للسلوك الراهن. ذلك أن هذا المنحى يُبعدنا عن الحاضر، ويؤسس للأعذار و التبريرات التي تعيق مواجهته وحلّه، وقد يُمهد لقبول التصرفات غير المسؤولة.
إن أهم ما يوفره الإطار النظري للعلاج بالواقع هو تلك النظرة الإيجابية للسلوك والحوافز الإنسانية، والإيمان بأن النموذج السلوكي الفعال قائم على تشكيل الرغبة. فما يحدث خارجيا له علاقة وطيدة بما نختار نحن أن نفعله، لأن دور الخارج ، كما يقول غلاسر، هو إمدادنا بالمعلومات؛ أما الفعل والتصرف فعائد لنا في نهاية الأمر.
يبقى السؤال الحيوي هو: كيف ننقل الفكرة إلى دائرة المهارات والخطوات العملية داخل الفصل الدراسي ؟
لتحقيق هذه الغاية لجأ بوب سولو في كتابه ( تفعيل الرغبة في التعلم) إلى سلسلة من الحوارات مع طُلاب ومدرسين وإداريين، تغطي جل الإشكالات والقضايا المتعلقة بالتحفيز في الصفوف التعليمية، وتكشف التغيير الذي حدث في دينامية التعلم بفضل مبادرات متحررة من نموذج الثواب والعقاب.
في صفوف المرحلة الابتدائية يمتثل المتعلم لأساليب المكافأة الخارجية التي نضعها، كمنحه وقتا للعب أو استعمال الحاسوب أو حتى قطعة من الحلوى. غير أنه يتبنى لاحقا هذا الشرط، فتصبح المكافأة هدفا بدل الإنجاز الدراسي، وبالتالي يفقد التعلم قيمته.
إن الدوافع الداخلية التي تحرك المتعلم للحصول على الاستحسان يمكن توجيهها لتحقيق الشعور بالرضى الذاتي على كل إنجاز، واعتبار المشاعر والصلات الإيجابية مكافأة في حد ذاتها، دون الحاجة لمؤثر خارجي.
وهنا يؤكد بوب سولو على اعتماد التوجيهات التالية كبديل لنموذج الثواب والعقاب:
- ساعد تلاميذك على إدراك مغزى ما يُطلب منهم تعلمه.
- أكِّد على المشاعر الإيجابية التي تصاحب الأداء الجيد لكونها مكافأة تزيد لدى المتعلم من إحساسه بالأهمية الذاتية.
- أوجد بيئة صفية تدعم الحاجة للمرح، وغيّر أفراد المجموعة بانتظام لتكسر الحواجز، وترسخ الإحساس بالانتماء لجماعة الفصل ككل.
- طوّر لديهم أخلاقيات العمل عبر التشديد على أن دورهم في المدرسة هو التحصيل والاجتهاد. إن تقوية الروابط التي تجمع المدرس بالمتعلم هي مفتاح باقي المقومات الأخرى لإدارة الفصل، وحين يتمتع الطرفان بعلاقة جيدة فإن مشاكل الهدر والانضباط تتراجع بنسبة %31 ،كما أكد روبرت مارزانو، خبير إدارة الصف و التوجيه الفعال، بعد مراجعته لأزيد من مئة دراسة في هذا الشأن ! في المرحلة الإعدادية ينبغي الكف عن التسلط أو التدخل في كافة التفاصيل، مقابل السماح للمتعلم بتحمل المزيد من المسؤولية. بهذا الشكل تصبح قيادة الفصل عملية مشتركة، ويكتسب التعلم سمات النشاط و الحيوية:
- بدل سياسة العصا والجزرة التي تحقق نجاحا على المدى القصير، وتجعل المتعلم يذعن داخل الفصل، ثم سرعان ما يرتد إلى أساليبه غير المسؤولة خارجه؛ يمكنك أن تزوده بأكبر قدر من السلطة لأنه متلهف عليها، وقد يبحث عنها بطرق خطيرة أحيانا.
- تذكر أن المراهق بحاجة للإحساس بالانتماء، والتواصل مع أشخاص مهمين بالنسبة له-من البالغين- فاحرص على أن تظل العلاقة إيجابية معه حتى وإن تصرف بغير لباقة. في المرحلة الثانوية تصبح استراتيجية الاجتماعات الصفية أداة فعالة في توفير الشعور بالتواصل، وتقليل حالات الفوضى. لابأس إذن من عقد لقاءات وجيزة مرتين أو ثلاثة كل أسبوع، ولمدة لا تتجاوز عشر دقائق، فهي مناسبة للإصغاء وإيجاد بيئة تلبي حاجاتهم بشكل مسؤول.
- امتنع عن توجيه النصائح و الأوامر حول ما يجب أن يفعله الطلاب، وأظهِر لهم احترامك غير المشروط. وبذلك ستساعدهم على إشباع حاجتهم للسلطة وتحسين أدائهم.
- وطِّد علاقات إيجابية معهم لأنها الخيار الأمثل لتحديد أسلوب التدريس المتبع، وضمان سلوك جيد داخل الفصل. فالبيئة التي تُشبع حاجات الطُلاب بشكل لائق ينتفي فيها الدافع للعنف.
- اجعل أسلوب تدريسك وتعليماتك ملائمة لأسلوب وشخصية الفصل الدراسي؛ بمعنى عليك أن تعرف أولا ما هو العامل الأساسي الذي يحرك الطلاب: هل هو دافع الانتماء؟ أم الحرية؟ أم الكفاءة والإنجاز؟ عندئذ تصبح تعليماتك حافزا للمشاركة والإنتاج.
إن السيطرة الخارجية على المتعلم غير ملهمة بتاتا؛ لكن حين يصير مدفوعا بفضل استثارة داخلية فإنه يبذل أقصى جهد، لشعوره بالقوة النابعة من احترام الذات وتقدير المنافسة. وهكذا تصبح سيكولوجية السيطرة الداخلية نموذجا إرشاديا لحفز التعلم عن طريق جذب الدافعية، وتحرير القدرات، وتعويد المتعلم على اتخاذ قرارات مسؤولة وناجحة.