الرقمية وتراجع النوم: مع غياب الشمس تتحول الحياة إلى صخب في المدن، ويتحول سكن الليل إلى ضوء مبهر وضوضاء لا تصمت ولا تنتهي إلا مع تباشير الفجر، وهو ما لا تريده الأجساد والأنفس، فقديما غياب شفق الشمس، كان بداية لتوقف غالبية النشاط الإنساني، وإيذانا ببدء الاستعداد للنوم، بعدما ربط العقل فيزيائيا بين الضوء والظلام وبين النوم والاستيقاظ، واستمر الإنسان على تلك الحال عشرات القرون، حتى الحادي والعشرين من أكتوبر عام 1879م، مع اختراع “توماس إديسون” للمصباح الكهربائي، وإطلاقه لمقولته المشهورة “النوم مضيعة للوقت، إنه تراث من أيام الكهوف لدينا” فبدأ الضوء يزحف على الليل، ويؤثر فيزيائيا على العلاقة بين دورة النوم وبين دورة الضوء والظلام، ومن لحظتها جاءت التطورات التكنولوجية المتلاحقة لتخصم من ساعات النوم، أو تضعف جودته، وصولا إلى الرقمية، التي كان لها النصيب الأكبر في خطف النوم بضوئها الأزرق، الذي شتت دماغ الإنسان، وبدد نومه العميق.
تقلص النوم
مع تغير علاقتنا بالليل والنهار، تغير النوم، وتغيرت صحة الإنسان وبيولوجيته، التي تعد أحد وسائل المناعة ضد الأمراض والضعف الصحي، فالجسد الإنساني يميل إلى الرتابة وليس التقلب، والنوم أحد أهم الأمور التي يعتادها الجسد، ويرتب عليها كثيرا من وظائف الجسم، وانتاج الهرمونات، نظرا لأن النوم يشغل ثلث عمر الإنسان تقريبا، وهو ضروري لصحة الجسد والاتزان النفسي.
ربطت دراسة صدرت عام 2019 من (National Library of Medicine) بين قلة النوم وسبعة أسباب من أصل 15 سببًا رئيسيًا للوفاة في الولايات المتحدة، بما في ذلك أمراض القلب والأوعية الدموية والأورام الخبيثة وأمراض الأوعية الدموية والحوادث والسكري وتسمم الدم وارتفاع ضغط الدم، فقلة النوم تبدو أحد أكثر الاضطرابات التي يواجهها الإنسان المعاصر، والتي أخذت بُعدا يكاد يكون وبائيا مع تفشي الرقمية عالميا، واحتلال الهواتف النقالة لأيدي الناس وتسللها لغرف نومهم.
وفي دراسة أخرى نشرت في ( Sleep Research Society) نهاية أبريل 2023 ربطت بين استخدام التكنولوجيا الرقمية وبين رداءة النوم في مرحلة المراهقة والشباب بغض النظر عن تأثير العوامل البيئية والوراثية، ووجدت ارتباطا بين استخدام التكنولوجيا الرقمية وبين قصر مدة النوم والنوم المتأخر، وعللت الدراسة ذلك بأن التكنولوجيا الرقمية تؤدي إلى نشاط مفرط للدماغ بسبب الاضاءة المنبعثة من الهواتف المحمولة وغيرها من الأجهزة، ومن ناحية أخرى فإن الرقمية بما تتيحه من إمكانيات للتفاعل فإنها تحفز دماغ الإنسان على النشاط، وهو ما يوجد حالة من التيقظ الذي يقتطع من ساعات النوم، ومن جودته.
وقد أكدت دراسات أن “الضوء الأزرق” المنبعث من أجهزة الاتصال الرقمية يعطل هرمون ” الميلاتونين” المسئول عن النوم، والذي لا يفرزه الجسم إلا مع الظلام وفي غياب الضوء، والرقمية تُعطل إفراز هذا الهرمون، في حين تحفز هرمون آخر مرتبط بالاستيقاظ، ومن ثم تتسبب الرقمية في قصر مدة النوم، وانخافض جودته، وصعوبة بدء النوم.
وأكدت دراسات أن أكثر من 30% من البشر في البلاد المتقدمة يعانون من الأرق المزمن، وأن الإنسان مع الرقمية أصبح ينام أقل من أسلافه، وقلة النوم هي أحد وسائل التشتت الذهني وضعف التركيز وقلة الانتباه، وفي دراسة صدرت عام 2021 ذكرت أن تكلفة اضطرابات النوم تصل إلى أكثر من 90 مليار دولار سنويا في الولايات المتحدة وحدها، حيث يعاني أكثر 37% من الأمريكيين من اضطرابات النوم، وينامون أقل من سبع ساعات يوميا، وذكرت أنه يوجد أكثر من 80 اضطراب للنوم من بينها الأرق.
مع الرقمية أصبح النوم يتسلل ببطء، وأصبح يجافي الجفون، التي أرهقتها أضواء الشاشات، التي أوجدت اضطرابا بيولوجيا في تحديد العقل لليل والنهار، ومع استغراق البعض في متابعة شاشة الموبايل قبل لنومه، أصبح النوم عزيزا، ومع حضوره ينصرف سريعا نظرا لتأخر الوقت، فيستقيظ الشخص لعمله، وهو لم يتحصل على النوم الكافي، فينهض وهو مرهق، ويمارس عمله بتثاقل وكسل، ساعيا أن يختلس قدرا من النوم في النهار، وربما هذا أحد الأسباب التي تقف وراء حوادث الطرق الناجمة عن النعاس، فتؤكد منظمة الصحة العالمية أن النعاس أثناء قيادة السيارات هو السبب الثامن للموت عالميا، وقد يقف وراء حوالي 30% من أسباب الحوادث على الطرق.
الدكتور ” ماتيو ووكر ” Matthew Walker أحد خبرء النوم العالميين، ربط في دراسته “لماذا ننام؟” Why We Sleep بين قلة النوم، وأمراض مثل: الزهايمر والسرطان ومرض الشريان التاجي والسمنة والقلق والاكتئاب، وضعف الصحة العقلية، لكن الاحصاءات التي أشار إليها “ووكر” مقلقة، ومنها: أن هناك شخصا من كل شخصين ينام أقل من ست ساعات يومي، وأن هذا الرقم زاد خمسة اضعاف عن الأربعينيات، ولعل ذلك يرجع إلى توغل الرقمية في الحياة الإنسانية، وأكد أن الأشخاص الذين يقودون سياراتهم، ولم يناموا إلا أربع ساعات، تزيد نسبة حوادثهم (11) ضعفا عن الذين يستوفون حظهم من النوم، وتعد الرقمية أحد المسؤلين الكبار عن تراجع النوم عالميا، وأكد “ماتيو” أنه كلما كان النوم أقصر كلمات كانت الحياة أقصر”، وأن الأشخاص الذين يبلغون من العمر 45 عامًا أو أكبر، والذين ينامون أقل من ست ساعات في الليلة، هم أكثر عرضة بنسبة 200 ٪ للإصابة بنوبة قلبية أو سكتة دماغية في حياتهم، مقارنةً بمن ينامون سبع أو ثماني ساعات في الليلة.
ورغم أن النوم من الأغاز العلمية التي لم يتوصل العلماء لتفسيرها، إلا أن أبحاثهم تدرك أهميته على صحة الإنسان والمجتمع، لذا أكد “ووكر” أن “وباء فقدان النوم كارثي” وله عواقبه الممتدة على الإنسان، ومادامت الرقمية حاضرة ومتوغلة في الحياة الإنسانية، فإن النوم سيغادر الأجفان، وستتراجع جودته، وسيدفع الإنسان من صحته البدنية والنفسية، وسيدفع المجتمع من تراجع الانتاجية وضعف الأداء الاقتصادي.
كيف نبعد الرقمية عن نومنا؟
إذا أراد الإنسان النوم الجيد والعميق والكافي، لابد أن يبعد الرقمية عن غرفة نومه، وأن يتوقف عن متابعة الشاشات قبل نومه بساعات، حتى يتيح لعقله أن يسترخي ويستعد للدخول في أجواء النوم، والحكمة تقول: “أن غالبية القرارات التي تسبق النوم لا تستيقظ معنا”، من ثم فمطالعة الشاشات لوقت طويل قبل النوم، لا تتيح النوم من ناحية، كما أن تلك المطالعة لا تستقر في ذهن الشخص، ولكن يطويها النسيان، وتبقى آثارها السيئة في إضعاف جودة النوم، ومقداره.
ولذلك يجب عدم الممطالة مع النوم عندما يحضر، ولا يجب تفضيل مطالعة شاشة الموبايل على الإيواء المبكر والمناسب للفراش، ولهذا لابد من بناء “روتين” في التفاعل مع الرقمية قبل النوم، كأن يمتنع الشخص في لحظة معينة ومتكررة عن مطالعة هاتفه، وبذلك يستطيع الدماغ أن ينظم إفراز الهرمون المسئول عن النوم، ورغم ذلك تؤكد دراسات أن 97% من المراهقين الأمريكيين يستخدمون التكنولوجيا الرقمية قبل نومهم.
الرؤية القرآنية تنظر إلى الليل على أنه “سكن” و”لباس” و”سبات” أي توقف للحركة، وتقليل للنشاط، وانقطاع، والدخول في حالة من السكون التام، فالسكون والظلام يمنحان للجسد طاقة وقوة، لذا جاء ذكر الليل في القرآن الكريم (92) مرة للتأكيد على أهميته، أما النهار فذكر (57) مرة، أما “النوم” فورد تسع مرات بمشتقاته المختلفة، واعتبر القرآن الكريم أن الليل نعمة من الله سبحانه وتعالى على الإنسان تستوجب الشكر، وأن هذا الليل مسخر للإنسان، وعلى الإنسان ألا يُسيء الاستعمال لهذا التسخير الإلهي.