صفحة الكون مشهد من تجليات القدرة الإلهية فيها من الأسرار أعمقها ومن الآيات أدلها وأوضحها:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه الواحد
وقد جعل الله في النفس البشرية شَفْرَةً للتجاوب مع إيحاءات هذا الكون، كما جعل الكون منفتحا بإيحاءاته القدسية الجميلة على النفس البشرية؛ أيِّ نفسٍ بشريةٍ دون أن ينيط تلك العلاقة بالعلم والمعرفة، بل هي فطرة الروح وطبيعة الكون، صحيح أنه كلما كان الإنسان أكثر علما وأوفر عقلا وأفسح روحا أُذِنَ لَهُ بمزيد فهم.
إن السياحة الروحية الواعية في جماليات الكون تخلق الإيمان في النفس وتنميه، وقد تتطور هذه العلاقة الجمالية لتصبح محركات إيجابية في واقع القيم والناس، ومن ثم قابلة للتوظيف التربوي والتأثير, وليس هذا النظر فلسفيا عَرِيًا عن التأصيل وبركة الوحي بل هو ملمح قرآني ظاهر ، قال سبحانه”… وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”، إن التأملَ الواعي هو الذي ألهم هذا القول الإيماني الموقن ” رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً”، والتعبير يردف بالجملة الأولى الجملة الثانية دون استخدام أي حرف للربط ولا للعطف ليشير إلى الترتيب المباشر بين فعل التأمل وقول الإيمان، وربما من معاني ذلك أن الإيمان الناجم عن التأمل الصادر من النفس بخطاب داخلي وتفاعل ذاتي هو أشد وطئا وأقوم قيلا من الإيمان الناشئ بسبب واردات خارجية، ولعل مما يشير إلى هذا الفارق في التراث الإسلامي مسألة إيمان المقلد.
هذا ما فهمه الأولون فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: “تفكر ساعة خير من قيام ليلة” وهو رضي الله عنه لا ينتقص من فضل القيام ــ معاذ الله ــ وإنما يلفت بالمبالغة إلى فضل التفكر، وهو ذات المعنى الذي ألمح إليه التابعي الثقة بشر الحافي رحمه الله بقوله: “لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه “، والمقصود عظمة خلقه الدالة على عظمته وجلاله وقدرته إذ التفكر في ذات الله منهي عنه.
والصلة بين الكون والنفس وجدانية، تكون حبا حال الانسجام (الإيمان) “أحد جبل يحبنا ونحبه”، وتمثيلها الظاهري أنس وانجذاب، وتكون بغضا حال التنافر (الكفر)،”فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ”، وهي أسرار روحية لا يفهمها إلا الراسخون في عبادة التفكر من الزهاد والعلماء أو الملهمون من الشعراء والأدباء، خشوعا متعبدا عند الأولين وولوعا بالجمال وسحره عند الآخرين، أما اليابسون فإذا سمعوه أعرضوا عنه وقالوا بل هو شاعر بل افتراه.
ولعل سيد قطب رحمه الله أراد أن يبعث هذه الحاسة في المتدينين لينعموا بصحبة الكون وفهم أسراره وجماله فنثر مشاعر الحب القائمة بينه وبين جزيئات هذا الوجود ساعة انفرادها والتئامها في ثنايا تفسيره “في ظلال القرآن” فقال في إحدى فورات بوحه: (…هاتان النجمتان المنفردتان هناك وقد خلصتا من الزحام تتناجيان ,وهذه المجموعات المضاءة المتناثرة هنا وهناك وكأنها في حفلة سمر في مهرجان السماء وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان، وهذا القمر الحالم الساهي ليلة والزاهي المزهو ليلة والمنكسر الخفيض ليلة والوليد المتفتح ليلة والفاني الذي يدلف للفناء ليلة (….) إنه الجمال! “، الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه و يتأمله، وتلك طبيعة سلوك الروح يذاق بالوجدان ولكنه يتأبى على القلم والدواة ويتمنع أن يحد في لفظ أو يحصر في تعبير.
وحتى مشهد الظلام الدامس له وقعه على النفوس المؤمنة التي ترى في أغواره رهبة خالقه فتسبِّحَ الذي جعل الظلمات والنور، هذا ما صوره الشاعر المؤمن الأميري فقال:
كلما أمعن الدجى و تحالك شمت في غوره الرهيب جلالك
وتراءت لعين قلبي مرايا من جمال أنست فيـــــــــه جمالك
وترامى لمسمع الروح همس من شفاه النـــــجوم يتلو الثنا لك
واعتراني توله وخشوع واحتواني الشـــــعور أني حيالك
ما تمالكت أن يخر كياني ساجدا واجدا ومن يتــــــــــــمالك
لا أحد يا عمر…. لا أحد.. ومن ذا الذي يتمالك أمام روعة الجمال!
هذا التواصل العشقي مع إيحاءات الكون في النفس ليس شططا رومانسيا وينتهي التعبير! ـ كما يحلو للبعض ـ ويسدل الستار على أجمل ما في الحياة بكلمة “مجرد شطط رومانسي حالم ” لا..لا! إنه حلم الرومانسية العابدة، الرومانسية المستغرقة في جلال الله المتملية لخلقه، منهج أسسه الصالحون ورسخت فيه أقدام العارفين، الذين يستغرقهم هذا الجمال فيتجاوزون حدود الزمان والمكان، يروي أن داود الطائي رحمه الله كان على سطح في ليلة قمراء فاستغرقه التأمل فسقط في دار جارٍ له، فوثب عريانا وبيده السيف, فلما رآه قال: يا داود ما الذي ألقاك ؟ قال ما شعرت بذلك، وهو تصرف مفهوم للذين يؤمنون بأن الروح هي جوهر الإنسان وغيرها صورة اللحم والدم.
لقد كانت آيات الكون المنظورة هاديةً للإيمان أزمنة لم تُنَكِّس فلسفات الإلحاد فطرة النفس البشرية ولم تطمس أضواء المدينة ألقها الوهاج، ولعل في حنفاء الجاهلية دليلا واثقا، فهذا زيد بن عمرو بن نفيل يتعلق بأستار الكعبة محترقا بلوعة روحه الباحثة عن الحق الذي أيقنت به دون كتاب.
إن أثر الانطباعات الجمالية للكون على النفس البشرية تتجاوز الإمتاع إلى الإقناع، وقد ألمح المفكر محمد أحمد الراشد إلى هذا التأثير التربوي الذي يستخرج من امتيازات المخلوقات أنواع الأحاسيس والعواطف الإيجابية والدوافع المعنوية حين على رجز الأعرابي في المريخ:
فعند ذاك يطلع المريـــــــــــــــــــــخ
في الصبح يحــــــــــــكي لونه زخيخ
من شعلة ساعدها النفـــــــــــــــــــيخ
والزخيخ : بريق النار أوبريق الحرير
يقول الراشد: “ووجه التربية في منظر المريخ: أنه كرجل صحراوي يوقد نارا ليطبخ أو ليدفأ ,نعم ,وتدفعه حرارة النار إلى حرارة موقف وثورة اقتباسا من منظر لهيبها وحقيقته، ولكن منظر الجمرة المريخية العالية في السماء تكمل له تأثيرات ناره الأرضية فيعرف أن مسايرة انعكاسات حرارة النار تلك في دواخل نفسه ترفعه في حياته ارتفاع المريخ السامي، ويصبح يؤمن بالاستعلاء “.
فهي إذا علاقة تمنح المتأمِّل معاني الحرية والاستعلاء ومقاييس الجمال والحسن، ومعايير القوة والضعف فتتسع مداركه وتصفو روحه وتشف فيصبح المؤمن القوي المرهف الفعال.
وهذه الالتفاتات الراشدية من أدق قضايا التربية والتأهيل والتدريب، وليت القائمين على تخطيط مناهجنا التربوية عرفوا ذلك، فجعلوا من السياحة الفكرية والإيمانية مادة للرقي بأرواح وأذواق ناشئة الأمة وشبابها، ذلك أن النفس المؤمنة إذا أدركت سر جمال هذا فقد امتلكت مقومات التميز وأسس الإبداع والتأثير.
ورب رحلة سياحية إلى شلالات خلابة أو وقفة تأملية أمام زهرة تتفتح أو سمر مفتوح على سماء صحراوية وقمر غض إذا أحسن استغلالها وأتقن توجيهها وفق منهجية تربوية واعية أكبر أثرا في النفس والتربية والأخلاق من عشرات الدورات التي ننفقها في التوجيه التلقيني والتدريب.
ولكن..يا ليت قومي يعلمون.