تأثرت الرياضة بالنزعة الاستهلاكية كأسلوب حياة ، وتغيرت الطريقة التي يُنظر بها إلى الرياضة، فتحولت من المنافسة والمتعة إلى جوانب أكثر تعقيدا ترتبط بعالم المال والتجارة والاستثمارات الضخمة، وباتت الرياضة قادرة على تحويل المشجعين إلى مستهلكين شرهين دون وعيهم بذلك التحول السلوكي.

تشير تقديرات عالمية أن صناعة الرياضة زادت على ستمائة مليار دولار عام 2022، مقارنة  بـ 488.5 مليار دولار عام 2018، أي أنها تشهد نموا مطردا، وربما هذا ما جعل النزعة الاستهلاكية تهمين على الرياضة، بدءا من المنتجات إلى أسعار التذاكر إلى المراهنات إلى الاعلانات إلى بورصة شراء الرياضيين والأندية إلى بيع الأقمصة والشارات والشعارات، والأغذية والأجهزة الرياضية، إلى القنوات الرياضية المتخصصة، إلى احتكارات البث الفضائي، كل تلك الأمور أخرجت الرياضة من حيز المتعة والتسلية إلى الاستثمارات الضخمة المحكومة بقوانين السوق والتسليع.

الجمهور الأسير

تصبح الرياضة سلعة عندما يكون المستهلكون على استعداد للدفع مقابل اللعب أو المشاهدة أو التأييد، وتلك الشروط تتوفر في الأنشطة الرياضية الحالية، فالرياضة لها قيمتها التبادلية بدلا من كونها ممارسة مفيدة وممتعة، فخضعت للتسليع، وانصرفت بحوث التسويق لتشعل نهمها للأرباح، معتمدة على أنه لا تسويق بدون إعلان، ولا إعلان بدون خلق منافسة رياضية قوية، تستقطب اهتمام المشاهدين خلف الشاشات أو المتفرجين في الملاعب، فكانت الرياضة نوعا من الإنتاج الذي يفرض أن يتفاعل المستهلك (المتفرج) مع السلعة، ومن ثم كانت سخونة الحدث الرياضي من أهم أدوات تسويق المنتجات الرياضية بكافة أشكالها وتحقيق المكاسب الاقتصادية والتجارية، ولهذا كان الصحفيون الرياضيون لهم تأثيرهم في التسويق، سواء كانوا في الصحافة أو الفضائيات، فهم الذين ينقلون الحدث ويمررون سخونته إلى الجماهير، ومن ثم تبدأ عمليات التسويق المتنوعة التي تستهدف المشاهدين والمتفرجين.

وما يزيد من سخونة الحدث الرياضي هو ما يصنعه الاعلاميون من تأكيد المنافسة وتعميقها من خلال بث عدم اليقين في الفوز لأي من المتنافسين، والقاعدة هي أن “عدم اليقين هو مدخل الربحية” لأنه يمثل المدخل الفعال لتسويق المنتجات الرياضية بكافة أشكالها، فكلما زادت صعوبة التنبؤ بفوز أحد المتنافسين، كلما كانت المنافسة شديدة ومن ثم كانت الأرباح عالية، ومن يتابع المسابقات الرياضية سيجد أن الإعلاميين الرياضيين دوما ينقسمون إلى فريقين يعددون ميزات كل متنافس ونقاط قوته ونقاط ضعف خصمه، ليؤكدوا بذلك عدم اليقين وصعوبة التنبؤ.

ولعل هذا ما جعل الأمريكي “كوري هيلمان” في كتاب “الرياضة الأمريكية في عصر الاستهلاك” يكتب أن “الاستهلاك والتسويق يقللان من قيمة الرياضة ويقللان من أهميتها، وما يحدث في الملعب أو الميدان يبدو عرضًا لجني أموال إضافية من المشجعين وإغراق المشجعين بالإعلانات”.

الرياضة من المنافسة إلى التجارة
كتاب “الرياضة الأمريكية في عصر الاستهلاك” لـ كوري هيلمان

سوق واسعة

أظهرت دراسات أنه كلما زاد تركيز الناس على الرياضة، زاد احتمال إنفاقهم المزيد من الوقت والمال، لذا وصف البعض الرياضة بأنها “مادة أفيونية للجماهير”، وهذه الحالة تسمح بالترويج للمنتجات الرياضية بكثافة، كما وصفت الرياضة بأنها ملاذ لهويات داخل المجتمع، وصناعة الهوية الرياضية، تحقق مكاسب اقتصادية ضخمة من خلال بيع المنتجات الرياضية للمؤيدين والمشجعين، لذلك كان هناك كثافة في الحوارات الرياضية في البرامج على كافة الفضائيات العالمية، وهو حوار له مردوده الاقتصادي الواسع في الاعلانات والترويج للمنتجات.

والسوق الرياضية سوق واسعة للغاية، ففي بعض الدول تمثل الرياضة  2٪ من الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد ، وهي سوق ذات نمو متصاعد، وذات فرص ربحية عالية في مجالات متنوعة فالكثير من الأندية استفادت من شعبيتها لصناعة هوية رياضية لمشجعيها من خلال إنتاج الملابس والأكواب والشعارات والشارات والحقائب والمستلزمات التي تحمل اسم الفريق، ويتم من خلالها صناعة هوية قادرة على التسويق الجيد، لتحقق منها الأندية مكاسب ضخمة، فعلى سبيل المثال حقق أحد الأندية الأوروبية وهو “بايرن ميونخ” مبيعات قدرت بـ(3.25) مليون “تي شيرت” عام  2021.

  كما أن بعض الرياضيين، الذين لهم حضور عالمي، تحولت صورتهم إلى علامة تجارية تُدر الكثير من الأموال والأرباح، حتى وصفت بأنها تشبه العقار باهظ الثمن، وبعضهم بِيع أكثر من عشرة ملايين “قميص T-shirt” يحمل صوته خلال مسيرته الرياضية، وكلما زادت شعبية الفريق أو الرياضي زاد إمكانية الاستثمار، حتى إن بعض “القمصان T-shirts” الخاصة بنوادي معينة بيعت في صفقة رعاية قدرت بـ(70) مليون يورو، وصارت بعض شعارت النوادي ماركة تجارية تُدر الكثير من الأرباح، وكانت هناك منافسات شرسة بين قمصان الأندية الكبرى على احتلال السوق التجارية للمشجعين، وهو مجال دخلت عليه شركات السيارات والهواتف المحمولة وشركات الطيران، التي باتت تنشيء علاقات إعلانية ذات عوائد ضخمة، مع الأندية الرياضية لتسويق منتجها وعلامتها التجارية، سواء في الملابس التي يرتديها الرياضيون أو في الاعلانات الموضوعة في الملاعب الكبرى، أو الاعلانات أثناء البرامج الرياضية.

تشير بعض التقديرات أنه خلال الفترة من 2018 -2007  تم إنفاق أكثر من 62 مليار دولار على رعاية الرياضة حول العالم، وبعض النوادي لها منتجات تسوقها، وحقق أحد الأندية الأوروبية مبيعات سنوية بـ(65) مليون يورو، ومثلا يعد  “نادي برشلونة” المركز الثاني في قائمة فوربس لتقييم فرق كرة القدم بقيمة حالية تبلغ 5 مليارات دولار.

والحقيقة أن الرياضة تعرضت لنوع من التسليع المفرط العابر للحدود، متأثرة بالعولمة والرقمية، وأصبحت تتخطى المحلية، وهذا ما أتاح لها إمكانيات تسويقية وربحية عالية من خلال البضائع الرياضية والاعلانات، فأثرت الرياضة في ثقافة المستهلك، وأصبح للرياضة مستهلكوها الشغوفين، وباتت المسابقات الرياضية مشبعة لأقصى حد بالصور الاستهلاكية والاعلانية، ولها موضاتها الخاصة، وفرض المحتوى الرياضي نفسه على أذواق المستهلكين، ومن خلاله تسللت الأنشطة التجارية والمالية والاعلانية بعدما دخل نجوم الرياضة ومشاهيرها على خط الاعلانات التجارية.

ويلاحظ أنه نشأت بعض البطولات بهدف تجاري مثل الدوري الهندي للكراكيت والذي يعد من أكثر البطولات ربحية عالميا، وذكرت مجلة فوربس- أن قيمة البث للدوري الهندي الممتاز للكراكيت بلغت ستة مليارات دولار للعام 2023 ، وهو ما يكشف أن الاستهلاك الرياضي أصبح قهريا .