الحاجة، والرغبة، والغاية؛ ركائز السعادة الكبرى، والمحركات الرئيسية للفعل الإنساني، فالحاجة تخص البدن، والرغبة منبعها النفس، أما الغاية فمحلها العقل والقلب، و”السعادة تأتي عندما تُعد لها موقع في قلبك” كما يقول الفيلسوف “بيرتراند راسل”، وفقدانها أزمة الإنسان في الزمن الحديث، الذي غابت فيه الغاية، وحلت الحاجة والرغبة مكان الصدارة في الإشباع والإرواء، غير أن إشباعهما في ظل غياب المعنى وضياع الغاية يجعل تعاسة الإنسان أشد.
التعاسة هي مرض الجسم الكلي، تقدر منظمة الصحة العالمية أن نصف مليار شخص يعانون الاكتئاب، وتشير تقارير الامم المتحدة أن الاكتئاب يؤدي إلى (92) مليون يوم غياب عن العمل سنويا، وسيصبح المسبب الثاني للموت بعد أمراض القلب.
اهتم الفلاسفة منذ القدم بالبحث عن السعادة، واكتشاف ماهيتها، وكيفية تحقيقها، فهي الفردوس المبتغى للإنسان، ومع اختلاف الرؤية الفلسفية اختلفت ماهيتها، وفي الوقت الحاضر أصبح المفهوم حكرا لعلماء النفس، بعد تنحية الفلاسفة، فزاد المأزق، ومُنح الإنسان مسكنات نفسية تُشعره بقشور السعادة لا عمقها.
السعادة بدون الإيمان
في الأربعينيات من القرن الماضي أصدر الفيلسوف البريطاني “آلن واتس” Alan Watts كتابه ” معنى السعادة: البحث عن حرية الروح في علم النفس الحديث وحكمة الشرق”[1] استلهم فيه عمق الشرق الوجداني لينفخ في رماد السعادة الغربي روحا جديد، ورغم أن الرجل تأثر بالبوذية، إلا أنه سعى لمنح الإنسان الغربي اقترابا لإيجاد السعادة، من خلال نسف الأسس المادية للسعادة، القائمة على الامتلاك والاستهلاك، ثم انطلق ليؤكد أن الرضا والقبول بالحياة وتقلباتها واحتضانها بكل ما فيها من تناقضات ومفارقات هو أساس السعادة.
أما الفيلسوف “راسل“، فرغم إلحاده إلا أنه أصدر في الثلاثينيات من القرن الماضي كتابه “الطريق إلى السعادة”[2] التي شغلته، في ظل التعاسة التي لمسها في الإنسان المعاصر، ظن “راسل” أن الدين لا يحقق السعادة، لأنه يُوقع الإنسان في الشعور بالذنب، فيُفقده السعادة، ورأى أن الحماس للحياة هو أساس السعادة، فالحماس هو الذي يخلق شهية الحياة، لكنه أكد أن الجهد عنصر رئيسي في خلق الحماس.
والحقيقة أن عدم وجود الأشياء التي يريدها الإنسان ربما تكون من مسببات السعادة، فهناك متعة الإنجاز من خلال الجهد، وهي تحقق السعادة، فالنجاح السهل لا يخلق فرحا وبهجة عميقة، ويسر الحياة الشديد يدمر الحماس، ومن ثم يقوض السعادة، كما أن الملل والاعتياد من أكبر أعداء الحماس.
يؤكد “راسل” أن أحد عقبات السعادة، هي “مرض امتصاص الذات“، أي أن تكون الذات هي المحور الوحيد لحركة الإنسان، فالذي يصنع سعادته ويخفيها وينعم بها وحده يشعر بالضجر والملل العميق بعد فترة، فالتمحور حول الذات يلغي التنوع، ويقوض السعادة، والمنغمسون في ذواتهم سعادتهم دوما ناقصة وغير مكتملة، كذلك فإن إحضار المقارنات في أسلوب المعيشة والنعم بين الشخص والآخرين، أو ما يمكن أن نسيمه في الرؤية الإسلامية بالحقد والحسد والغيرة، هي مفسدات كبرى للسعادة، وغياب الرضا ينتج عن تلك المقارنة، لذلك كان “راسل” يؤكد أن الذي يخافه الناس ليس فشلهم في الحصول على طعامهم، ولكن شعورهم أنهم سيفشلون في التفوق على جيرانهم، فهذا الإحساس يفقد الإنسان البهجة، بل هو سلوك قاتل للسعادة، لذلك كان يقول:” “علم نفسك أن الحياة لا تزال تستحق العيش حتى لو لم تكن متفوقًا على أقرانك في الفضيلة والذكاء “، والحقيقة أن “راسل” سعى لبناء منظومة أخلاقية لا تستند إلى الدين في تحقق السعادة، لذا كانت نصائحه مرتكزة على مبدأ المنفعة، المنبثق من المادية.
أما “لاري كوليفورد” Larry Culliford في كتابه “الحب والشفاء والسعادة: الحكمة الروحية للأزمنة العلمانية”[3]، فمن عمله كطبيب نفسي لمس مقدار التعاسة البشرية، وكانت نصائحه وإرشاداته تمنح مرضاه القوة لمواجهة الشدائد، والمناعة لمواجهة الإغراءات المدمرة للذات الإنسانية النهمة للشهوات والملذات، ويؤكد “كوليفورد” أن فكرة ربط الإنسان بالكون خطوة مهمة لمنح الحياة المعنى والشعور الجديد بالانتماء، فالمادية والعلم أضعف ارتباط الإنسان بالكون، والإنسان بحاجة أن يكون ضمن قصة أكبر منه، أي أن يكون أكثر ارتباطا بالكون، فهو ما يضفي على الحياة منطقية وروعة.
وفي كتاب “السعادة الحقيقية” Authentic Happiness لعالم النفس مارتن سيليجمان Martin Seligman، نجد رسالة واضحة في أن السعادة تنتج عن الاهتمام بنقاط القوة الشخصية بدلاً من التركيز على نقاط الضعف المتخيلة، وتلك النقاط قادرة على الوقوف ضد المصير السيئ والمشاعر السلبية، أما الخبير الاقتصادي ريتشارد لاياردRichard Layard في كتابه “السعادة: دروس من علم جديد”[4] فيؤكد أن البشر خلال الخمسين عاما الماضية لم يشعروا بالسعادة، رغم زيادة الدخل، فالمال لا يؤدي حتما إلى السعادة، فالسعادة تكمن في الرضا وليس في الاستهلاك، بعدما أصبح العالم أكثر غنا وأقل رضا.
وربما هذا ما يتفق مع ما نشره اللورد “افبري” Lord Avebry في كتاب ” فائدة الحياة” الذي تم تعريبه عام 1932، حيث أشار أن الرفاهية لا تسير مع السعادة دائماً، وإن كثيراً من الناس بؤساء وإن كانوا يملكون في الظاهر كل ما من شأنه أن يجعلهم سعداء، وأنه إذا لم تكن عناصر السعادة موجودة في نفس الرجل فإن كل ما في العالم من جمال ومشاهد وملذات ومبهجات لن تستطيع أن تهبها له.
وخصص كتاب “سيكولوجيا السعادة”[5] لـ”مايكل أرجايل” وهو أحد علماء النفس الأمريكيين، فصلا للحديث عن الرضا كمدخل رئيسي للسعادة، وتساءل: هل إشباع الحاجات يخلق الشعور بالرضا؟ وأشار أن ظروف الحياة تسهم في الشعور بالرضا، وهذا الشعور يقوم على خبرة السرور، وتلك الخبرة تستند على أسس معرفية، ومن هناك يبقى الداخل هو مصدر السعادة ومنبعها قبل المؤثر الخارجي، الذي يخضع لتفسيرات مرتبطة بالداخل.
الإسلام والسعادة
الشوق إلى السعادة والبحث عنها أمر قديم، فهو يفتح أعماق الإنسان وواقعه للتساؤل والنقاش والبحث، لأن الذين يبحثون عن السعادة يريدون لها أن تدوم، لذا كان البحث عن السعادة يثير التساؤلات حول مصير الإنسان وآخرته والخلود، وهذا ما اهتمت به الرؤية الإسلامية.
وقد اعترفت الرؤية الإسلامية بدور ملذات الحياة في تحقيق السعادة، لكنها جعلتها في أدنى المراتب، واختلف فلاسفة الإسلام والمتصوفة وعلماء الأخلاق حول تحديد محل السعادة في داخل الإنسان، فرأى بعضهم أنها تحصل بالعقل، وتحدث آخرون عن سعادة الروح، وتكلم قسم ثالث عن سعادة القلب من خلال تنقيته.
واتفق الجميع أن سعادة الدنيا لا تنفك عن منغصات الحياة وكدرها، فالمعاناة جزء من تحصيل السعادة، فالمشكلة تكمن في تعلق القلب بالموجودات، وتطلع النفس إلى ما ليس عندها، وأن تشتهي ما لا تملكه، فكل ذلك يكدر صفو الإنسان، ويحول لحظات حياته إلى معاناة وألم، لذلك كانت الرؤية الإسلامية توطن النفس على أن يأخذ المرء الحياة بحلوها مرها، وكان الصوفي شمس التبريزي يقول:”يا أيها المسافر لا تعلق القلب بمنزل ما بحيث تحزن عندما تغادره”، فإذا قل ما يفرح الإنسان به، قل ما يحزن عليه.
وكان “أحمد بن محمّد مسكويه” في كتابه ” تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق” يرى أن السعادة ليست في إراوء النفس من الشهوات، وإشباع الجسد من الحاجات، فالإنسان نفخة علوية سماوية تحتاج الى إشباع روحي، والسعادة المطلوبة ليست في تحصيل الموجودات، ولكن في السعى الحثيث نحو السعادة الأبدية، وكان يقول:”من رضي لنفسه بتحصيل اللذات البدنية، وجعلها غايته، وأقصى سعادته، فقد رضي بأخس العبودية، لأخس الموالي؛ لأنّه يصيّر نفسه الكريمة عبداً للنفس الدنيئة” أما “فخر الدين الرازي” في كتابه “النفس والروح” فساق الكثير من الحجج ليؤكد أن السعادة منبعها الروح والعقل وليست الغرائز، فقال: “إنّ الإنسان يشاركه في لذة الأكل والشرب جميع الحيوانات، حتى الخسيسة منها، فلو كانت هي السعادة والكمال، لوجب ألاّ يكون للإنسان فضيلة في ذلك على الحيوانات.
وذهب كثير من فلاسفة الإسلام أن السعادة هي سعي دائم لتحصيل الكمال الإنساني، فأبو نصر الفارابي في كتابه “تحصيل السعادة” اعتبر العقل هو منبع السعادة، ولذا لا يتحصل الإنسان على السعادة إلا من خلال الفلسفة، وقال:” الفلسفة هي التي بها ننال السعادة” .
أما متصوفة الإسلام الكبار فرأوا أن السعادة تكمن في الروح من خلال تطهير النفس وتزكيتها من الحسد والغل والحقد وشواغل الدنيا التي تعكر صفوها، وأن تكون للإنسان خلوه صافية مع خالقه يتنسم فيها حبه ومعرفته، ويتطلع إلى موعوده في السعادة الدائمة وفي الخلود في الجنة، والسعادة في الصوفية لا تُنال بسهولة ويسر، فلابد من الصعود والترقي، وكل مرحلة تحتاج إلى خلق يناسبها، ومقاومة روحية عميقة تكفل تذوق تلك السعادة، وأن يحفر المريد تجربته في السعادة، ومن ثم فالسعادة تحرير الذات من قيودها، وليس توفير ما يستهلكه البدن أو ما تتلذذ به النفس.
يقول أبو القاسم الشابي :
تَرجو السَّعادَةَ يا قلبي ولو وُجِدَتْ
في الكونِ لم يشتعلْ حُزْنٌ ولا أَلَمُ
ولا استحالتْ حياةُ النَّاسِ أجمعُها
وزُلزلتْ هاتِهِ الأَكوانُ والنُّظمُ
فما السَّعادة في الدُّنيا سِوَى حُلُمٍ
ناءٍ تُضَحِّي له أَيَّامَها الأُمَمُ
وارقصْ على الوردِ والأَشواكِ متَّئِداً
غنَّتْ لكَ الطَّيرُ أَو غنَّتْ لكَ الرُّجُمُ
[1] The Meaning of Happiness: The Quest for Freedom of the Spirit in Modern Psychology and the Wisdom of the East
2] The Conquest of Happiness
[3] Love, Healing and Happiness: Spiritual Wisdom for Secular Times
[4] Happiness: Lessons from a New Science
[5] الكتاب صادر عن عالم المعرفة بالكويت يوليو 1993