بينما توجد أكثر من مئة طفرة وراثية مرتبطة بمتلازمة طيف التوحد، توصَّل باحثون من جامعة بازل السويسرية إلى طفرة جديدة، ترتبط بالصعوبات الاجتماعية؛ إذ ينتج عنها انخفاض في تأثير هرمون مسؤول عن التفاعل الاجتماعي.
ووفق الدراسة التي نُشرت في دورية نيتشر، فإنه يُتوقع أن يُسهم علاج تلك الطفرة في جعل السلوك الاجتماعي طبيعيًّا أكثر.
تُسبب الطفرة إيقاف إنتاج بروتين يسمى نيوروليجين، وهو بروتين موجود على غشاء الخلايا العصبية فى مناطق التشابك العصبي، وله دور مهم في نقل الإشارات العصبية.
وكان باحثو الدراسة قد وجدوا أن فقدان بروتين نيوروليجين يؤثر على مستويات توازن تخليق البروتين في الخلايا العصبية المسؤولة عن الاستجابات العصبية لهرمون يسمى الأوكسيتوسين.
جهد بحثي على مدار 10 سنوات
عمل الفريق البحثي على الطفرات المرتبطة بالتوحد على مدار 10 سنوات، وذلك بدعم من شبكة “EU-AIMS” ومنظمة “AIMS-2-TRIALS”، المَعنيتين بالأبحاث العلمية حول التوحد.
يقول بيتر شيفيل -قائد الفريق البحثي وأستاذ علم الأعصاب فى جامعة بازل- في تصريحاته لمجلة “للعلم”: “على مدار العقدين المنصرمين جرى تحديد العديد من التعديلات الجينية التي تزيد من فرص الإصابة بالتوحد لدى الفئران، وتؤدي إلى خلل فى القدرة على التفاعل الاجتماعي”.
وأوضح أنهم في دراسة سابقة أجروها عام 2018 وجدوا أن التغيير في الجين Nlgn3 يعدل السلوك الاجتماعي، قائلًا إنه لم يكن هناك سببٌ لاعتقاد أن هذا الجين يرتبط بهرمون الأوكسيتوسين، ولكن تلك العلاقة أثبتتها الدراسة الجديدة.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، فإن طفلًا من كل 160 طفلًا حول العالم يعاني من متلازمة طيف التوحد. وتفيد الدراسات الوبائية التي أُجريت على مدى الخمسين سنة الأخيرة، أن معدل انتشار اضطرابات طيف التوحد يزداد على المستوى العالمي، وتوجد عدة عوامل من المحتمل أن تزيد احتمال إصابة طفل باضطراب طيف التوحد، من ضمنها عوامل وراثية وبيئية، ولكن لا يزال من غير المعروف كيف تؤثر تلك العوامل على الأعراض المختلفة لهذا الاضطراب.
الاستجابة العصبية وتخليق البروتين
من خلال التعبير الجيني لـNlgn3 يُخلق بروتين النيورولوجين الموجود في مناطق انتقال الإشارات العصبية بين الخلايا، وتكشف الدراسة، لأول مرة، عن العلاقة بين هذا البروتين واستجابة الخلايا العصبية، وتعطُّل مسار إشارات الأوكسيتوسين في الخلايا المسؤولة عن نظام المكافأة في الدماغ لدى الفئران، ونتيجةً لذلك، تقل التفاعلات الاجتماعية بين الفئران.
يقول “شيفيل”: “وجدنا أن النيورولوجين ضروري في الخلايا المسؤولة عن معالجة إشارة الهرمون الببتيدي “أوكسيتوسين”، ومن دونه تفشل الاستجابة العصبية لهذا الهرمون”.
ويضيف أن من أهم ما توصلوا إليه أن استعادة التوازن في تخليق بروتين النيورولوجين يمكن أن تعيد السلوك الاجتماعي إلى طبيعته.
credit: Hanna Hörnberg. تُسبب الطفرة إيقاف إنتاج بروتين نيوروليجين الموجود على غشاء الخلايا العصبية فى مناطق التشابك العصبي
تقول آمال مصطفى -أستاذ الوراثة الإنسانية بمعهد البحوث الطبية، جامعة الإسكندرية- فى حديثها مع مجلة “للعلم”: “عند التعرُّض لحافزٍ مُجزٍ أو مُرضٍ نفسيًّا، فإن الدماغ يستجيب لتلك المُحفِّزات المُجزية عن طريق زيادة إفراز هرمون الدوبامين. لذلك يقع التركيب الهيكلي لنظام المكافأة على طول مسارات الدوبامين الرئيسية في الدماغ”.
وفي هذا الصدد، يشير “شيفيل” إلي أن نظام المكافأة يقوم بدور مهم في تعزيز السلوك الاجتماعي وغير الاجتماعي، ويُسهم فى العديد من جوانب التعلُّم واتخاذ القرارات المستقبلية.
ثلاثة أعراض أساسية للتوحد
والتوحد عبارة عن اضطراب في النمو العصبي للدماغ، يتجلى بشكل أساسي في قصور في السلوكيات الاجتماعية. يقول أشرف لطيف، وهو طبيب وأب لأحد مصابي التوحد، وهو أيضًا رئيس لإحدى الجمعيات المعنية برعاية أصحاب إعاقات النمو وتأهيلهم: “لكي يتم تشخيص التوحد، لا بد من توافر ثلاثة أعراض أساسية فى المريض، وهي نقص كمي ونوعي في العلاقات الاجتماعية، مع خلل في التطور الاجتماعي وعدم القدرة على تكوين صداقات، وخلل نوعي وكمي في تطور التواصل -اللفظي وغير اللفظي- ونقص في القدرة على التخيل والتقليد”.
ويضيف “لطيف”: “خلال خمسينيات القرن الماضي وستينياته جرى اكتشاف حالات تشبه التوحد الكلاسيكي، ولكن لا تنطبق عليها الأعراض الثلاثة: مثل متلازمة أسبرجر، وهو شبيه بالتوحد لكن مع ذكاء عالٍ وقدرة مرتفعة على التواصل اللفظي وأطلق عليه “التوحد عالي القدرات”، ومتلازمة رت “Rett” التي تصيب البنات وتؤدي إلى الوفاة المبكرة، كذلك اضطراب الطفولة التحللي، الذي يتسم بتدهور مستمر في القدرات الاجتماعية والذهنية والقدرة على التواصل، وتسوء حالة المصاب به مع العمر، ويصاب بالصرع والوفاة في عمر صغير، وأيضًا اضطراب النمو الشامل غير المحدد”.
استُخدم مصطلح “طيف التوحد” في تسعينيات القرن الماضي ليشمل التوحد الكلاسيكي والحالات الشبيهة به السابق ذكرها. كما يتصف التوحد بعدم التجانس؛ نظرًا لوجود مئات الطفرات الوراثية المرتبطة به، وكل طفرة منها مسؤولة عن جزء ضئيل من إجمالي الإصابات. يضعنا هذا أمام تحدٍّ كبير فيما يتعلق بتطوير إستراتيجيات علاجية للاضطراب.
فهم أفضل، علاج أقرب.
استخدم الفريق البحثي نموذجًا من الفئران يفتقر إلى الجين Nlgn3، وحاولوا علاجه في البداية من خلال الأوكسيتوسين مباشرة، ولكن النتائج لم تختلف كثيرًا.
يقول محمد حمدي، باحث البيولوجيا الجزيئية فى معهد كارولينسكا السويدي: “لم يُظهر علاج الأوكسيتوسين لنموذج الفئران الممثل للطفرة فاعليةً في استجابة الخلايا العصبية أو الاستجابة الاجتماعية، إذ تَعوق طفرة فقدان الجين Nlgn3 الاستجابة للعلاج بالأوكسيتوسين لدى جزء من مصابى التوحد الذين لديهم احتمالات أعلى للإصابة بسبب وجود طفرة في هذا الجين”.
استخدم الباحثون أحد العلاجات الذي يعمل على تثبيط نوع من الإنزيمات يُطلق عليه “MNK” يتحكم في ترجمة الحمض النووي mRNA، مما أدى إلى إعادة عملية التعبير الجيني وإنتاج بروتين النيورولوجين في نموذج الفئران، إذ جاءت النتائج مُبشرة، فقد تحسَّن التفاعل الاجتماعي بين الفئران، حتى بين الفئران الغرباء بعضهم عن بعض”. استطاع الباحثون قياس ذلك من خلال تجارب لتقييم سلوك التفاعل الاجتماعي.
يضيف “حمدي”: “تلك النتائج تسلِّط الضوء على الحاجة المُلِحَّة إلى الطب الشخصي، بمعنى النظر في السمات الجينية كأساس لتقسيم المصابين إلى فئات وتحديد الخيار العلاجي الأمثل لكل فئة”، ويشير إلى أهمية التعاون بين الأطباء النفسيين وعلماء الوراثة وعلماء الأحياء الجزيئية لتحديد جوانب الاضطرابات الاجتماعية من الناحية الجزيئية والجينية، وذلك للتأسيس لنظام قوي يهدف إلى تصنيف المصابين وتمهيد الطريق لمزيد من الدراسات من أجل وضع الإستراتيجيات العلاجية المُثلى التي على الأقل تعمل على تحسين نوعية حياة المصابين.
العلاج والمصابين
تبشر نتائج هذه التجارب على الفئران بعلاج جديد وفعال للتوحد، وتفتح الباب للتجارب السريرية على البشر. تقول “مصطفى”: “تقدم الدراسة نهجًا جديدًا لعلاج التوحد الذي لا يزال من دون علاج حتى الآن، ولكن بالرغم من ذلك فإن الدراسة لا تزال على الحيوانات، وسوف تكون هناك حاجة إلى العديد من التعديلات على النهج العلاجي كي يناسب التطبيق على البشر فى تجارب سريرية”.
يتفق معها فى ذلك “لطيف”، مشيرًا إلى ضرورة مراعاة جميع المراحل البحثية المطلوبة للتطبيق على البشر، مثل التحقيق فى الجرعات الآمنة التي يمكن استخدامها، والتأكد من تقليل الآثار الجانبية إلى الحد الأدنى.
يتوقع “لطيف” أن تتوافر علاجات تقدم حلولًا للصعوبات الاجتماعية وتعمل على تحسين حياة المصابين بالتوحد خلال السنوات القليلة القادمة.
جدير بالذكر أن بعض الدراسات السابقة حققت في تأثير وآلية عمل الهرمونات الببتيدية مثل الأوكسيتوسين والفاسوبريسين من خلال تجارب سريرية على البشر.
ويُعد الفاسوبريسين هرمونًا آخر ينتج في المخ عن طريق المهاد، ويشبه هيكليًّا هرمون الأوكسيتوسين، ويرتبط بالسلوكيات الاجتماعية للإنسان هو الآخر.
وهناك جَدَل قائم حول علاج التوحد؛ إذ يعتقد البعض أن العديد من الأشخاص الذين يعانون من طيف التوحد قد يستفيدون أكثر من تكيُّف المجتمع بشكلٍ أفضل مع بعض احتياجاتهم فيما يتعلق بالتواصل وظروف العمل بدلًا من التفكير في العلاج.
ومع ذلك يشير “شيفيل” إلى أن العلاج قد يكون ضروريًّا للعديد من الحالات التي يمكن أن تصل فيها الصعوبات الاجتماعية إلى مستوى تؤثر فيه على الحياة والتطور المعرفي. وعن خطواته القادمة، أفاد “شيفيل” أنه وفريقه البحثي يطمح إلى استكشاف كيفية إجراء تجارب سريرية لذلك العلاج التجريبي بشكل آمن.