نقصد بالتطبيق هنا الاتيان بمثل ما ثبت عن رسول الله ﷺ تماما في الصورة والصفة، ويشمل هذا أقواله وأفعاله وأحواله، وأصل هذا التطبيق يرجع إلى قول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الاحزاب: 21، وقد دلت هذه الآية على فضل الائتساء بالنبي ﷺ ووجوبه، وحددت موضع الائتساء، وهو ذات الرسول ﷺ ، دون وصف خاص؛ ليشمل عامة حياته، لذلك اختار المفسرون أن هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله ﷺ في أقواله وأفعاله وأحواله.
وهذا الامتثال أمر تعبدي، يترتب عليه الثواب الموعود، وهو الجزاء المقيم في الآخرة حين يتحقق فيه وصف القربة، والمحبة، وهما شرطان في اعتبار أي فعل عبادة، يقول ابن تيمية: إن العبادة تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له، لذلك يعتبر التطبيق الفعلي للسنة النبوية من الطاعات التي يؤجر عليها المكلف، حين يتوفر فيه الوصفان، وهما القربة والمحبة.
وإذا كان الأمر بالمتابعة موضعها هو ذات رسول الله ﷺ ، فإن ذلك يتضمن بلا نزاع أقواله وأفعاله وتصرفاته وإشاراته، وتقريراته، وتروكه ﷺ ، وهو ما عبر عنه العلماء بالسنة، وحكم التأسي بها إجمالا الإيجاب، لأنها أصل من أصول الدين، وهي حجة على جميع المسلمين، بل حجيتها في مقام التشريع ضرورة دينية، لا يخالف في ذلك إلا من لا حظَ له في دين الإسلام، وهذا اختيار الشوكاني.
لكن موضوع السنة المطهرة واسعة المدارك، تشمل الأقوال، والجانب الأكبر من الأفعال، واخترنا في هذا المقال أفعال رسول الله ﷺ ، لأن باب الأفعال أوسع من باب الأقوال، وفي حق الرسول الله ﷺ تشمل جميع حياته، لذلك نال هذا الجانب اعتناء بالغا. ناهيك أن الأفعال تخضع للتغيرات والمؤثرات المختلفة حسب الظروف المحيطة بها، والرواة من الصحابة رضوان الله عليهم يروون ما شاهدوه، فكان سببا لكثرة رواية الأفعال من الأقوال، مما صعب عملية ضبط السنن الفعلية من القولية، لذلك يقولون: إن الأفعال لا عموم لها.
ثم إذا أمعنا النظر في أحوال المسلمين من هذا التاسي، نرى بعضهم يوسع فيه دون مراعاة الأصول والقواعد، ويضيق آخرون تضييقا يروح بعض السنن الواجبة بدعوى أن الأصل في تطبيق السنن الفعلية الندب، – أي: جواز الفعل أو الترك -، وأن دلالة الفعل بالنسبة لهم أضعف من القول.
وهذه الأسباب تستوجب شرح أفعال الرسول ﷺ من حيث التطبيق، بما يقترن بصحة الفهم والرحمة بعيدا من التشدد والتكلف والانفضاض، فقد صدق المولى سبحانه حين يقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران: 159.
وإن أفعال رسول الله ﷺ منها ما يظهر فيه قصد القربة والتعبد، ومنها ما كان محتمل القربة، وإن خفيت علينا، ومنها ما ليس كذلك. وتتفرع من هذه القاعدة أقسام السنة الفعلية من حيث التطبيق أو عدمه:
أما ما يظهر من فعله ﷺ القربة والتعبد وكان معلوم الحكم فالأمة مندوبون إلى امتثاله، ولهذا ثلاثة أنواع:
1- أفعال يظهر منها قصد القربة وكان حكمها الوجوب، فهو واجب الاتباع والتأسي، مثل حق قرى الضيف ليوم واحد.
ويلحق بهذا النوع ما وقع بيانا لأمور العبادات، أو تشريعا لحكم جديد، مثل الصلاة والزكاة والحج والصيام وإقامة الحدود، والتيمم والمسح وغيرها، فإن فعله في هذه الحالة دليل من غير خلاف، وهو واجب الاتباع.
2- أفعال يظهر فيها قصد القربة وكان حكمها الندب، أو لا يعلم حكمها، فاستحب اتباعه ﷺ فيها، لكن ما علم حكمه آكد مما لم يعلم. مثاله: رفع اليدين عند التكبير في الصلاة، وافتتاحه الرسائل بكلمة “بسم الله الرحمن الرحيم.
3- أفعال يحتمل فيها قصد القربة وإن لم يظهر، مثل المبيت بمنى ليلة عرفة، ونزوله في حجته بذي طوى، فحكمها جواز المتابعة.
وأما الأفعال التي لا يظهر فيها قصد القربة فيمكن النظر فيها من هذه النواحي:
1- أفعال يكاد يقطع فيها بخلوها من القربة، كهيئة وضع أصابع اليد اليمنى في التشهد أو موضع اليدين في الصلاة، والقبلة للصائم.
ويلحق بهذا الصنف ما احتمل أن يخرج من الجبلية إلى التشريع بأن واظب عليه في حياته، كهيئاته في الأكل والشرب والنوم والمشي، ومعاشرة نسائه، فحكم هذا النوع الاستحباب حسب الاستطاعة، لما في ذلك من تدريب النفس الجموح وتمرينها على أخلاق صاحب الشرع لتعتادها، فقد قال الماوردي: “في هذا النوع التأسي أبرك من المخالفة”، غير أن هذه الدرجة أدنى من الدرجات السابقة.
وعلى هذا يحمل تتبع عبد الله بن عمر رضي الله عنه آثار الرسول ومواظبته عليها دون نكير، حتى قال عنه نافع مولى ابن عمر عنه: “لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع آثار رسول الله لقلت: هذا مجنون.
2- أفعال وقعت منه جبلة، وهي في العادة لا تتعلق بها العبادات ولا يظهر منها قصد القرب، نحو قيام وقعود ونوم وقيلولة تحت الشجرة، وتناول مأكول ومشروب معلوم حله، وأكل الحلو البارد، وأكل اللحم من الكتف. وهذا القسم لا نزاع في كونه على الإباحة بالنسبة إليه وإلى أمته، ويرى أبوشامة، أنه لا دليل يدل على أنه يستحب للناس كافة أن يفعلوا مثله، بل إن فعلوا فلا بأس، وإن تركوا فلا بأس، ما لم يكن تركهم رغبة عما فعله ﷺ .
3- أفعال خصوصية، وهي التي تصدر عنه، وثبت بدليل واضح أنها من خواصه، كإباحة الزيادة على أربع في النكاح، ووجوب قيام الليل، وجواز الوصال، وأن تركته صدقة من بعده، فما كان منها من باب المباحات له فلا يجوز التأسي به فيها، وما كان من باب الواجبات عليه فتقع مستحبة في أمته كالضحى، والاضحى والوتر، والتهجد والمشاورة وغيرها. وما كان من المحرمات عليه فيستحب تركها للأمة، مثل أكل ما له رائحة كريهة، وأكل الزكاة.
وبهذا التقسيم يتبين أن أفعال الرسول ﷺ من حيث التطبيق بالنسبة للأمة ليست على حالة واحدة، ولا يجوز إجراؤها على حكم واحد، ولكنها درجات حسب ما سبق، ويجب أن نفهم السنة الفعلية في هذا الإطار، ونراعي قصد الشرع منها، وهو القربة والمحبة والتأسي والرحمة.