معروف عن حيوان الأخطبوط كثرة أياديه والتي تبلغ ثمانية، وقدرته على استخدام تلك الأيادي في وقت واحد ولعدد من المهام، حتى صار نموذجاً يُضرب به المثل في عالم الإدارة والأعمال عند البشر، فيقال لمن يقوم بعدة أعمال أو مهام في آن واحد بالسيد أخطبوط، مع ما لذلك التشتت من سلبيات وأخطاء وقلة جودة وعدم تركيز، إلى غير ذلك من مساوئ.
يقول مؤلف كتاب “مدير لأول مرة” : “إن استخدام مصطلح “الأخطبوط” في وصف نوعيات من المديرين الذين يشبهون هذا الحيوان، دقيق وشامل.. ذلك أن مثل هؤلاء المديرين أو القادة أو المسؤولين العظام، يمدون خيوطهم ليستولوا على جميع المهام والمناصب”. وأحسبك الآن أيها الموظف بدأت تتساءل عن عالم السيد أخطبوط، الذي سنتعرف عليه عن قُرب في السطور التالية..
لو صادفت أيها القارئ أخطبوطاً في موقع عملك، على شكل مدير، أو رئيس، أو مسؤول، فاعلم بادئ ذي بدء بأنك ستعاني منه كما غيرك من الموظفين في نفس الموقع، ولن يكون بمنأى عنه سوى ثلة قليلة مقربة تستفيد منه بشكل وآخر.
إن كنت ترغب الحصول على ترقيات مثلاً، أو مكافآت معينة من السيد أخطبوط، فستكون مثل من ضيع في الأوهام والآمال عمره. لماذا؟ لأنه لن يفوضك بالقيام بأي مهمة في موقع العمل، وخصوصاً تلك الصعبة التي يؤدي إنجازها إلى تحقيق شهرة وسمعة، وبالتالي ترقيات ومكافآت؛ إذ تراه يحتفظ هو عادة بخيوط تلك المهام ليديرها بنفسه، حتى إذا ما تحققت وتم إنجازها، تكون المكاسب والشهرة والمجد له وحده دون غيره، لكنه لن يمانع في تكليفك بمهام هي في عُرف الموظفين، تافهة وقليلة الأهمية.
السيد أخطبوط إن لاحظ فيك قدرة على الإبداع في عملك، ولديك من المهارات ما تمكنك من الظهور وبروز نجمك، كما أسلفنا، فإنه سيعمل من فوره للتضييق عليك بصورة وأخرى، كيلا تجد تلك المساحة من الحرية الدافعة للإبداع والإنتاج أولاً، ومن ثم لا يتحقق لك المجد والنجاح ويسجل باسمك ثانياً! هكذا هي العقلية الأخطبوطية؛ تجده يعمل ما بوسعه أن يكسر شوكتك وعظامك، مهما كانت طرية شابة، إن وجد منك محاولات اعتراضية، أو عدم تقبل لتوجهاته وقراراته وسياساته.
السيد أخطبوط لا يعرف معنى للتفويض، ومعنى المساعدين والنواب.. إنه يعيش في وهم البطولة، وخلاصته أنه هو وهو فقط، السبب الأوحد في نجاح أي عمل بالمؤسسة أو الشركة أو موقع العمل، وما لم تكن له بصمة في أي عمل، فمصيره الفشل، ولن يتحقق ويُنجز بالشكل المأمول.. هكذا يفكر أخطبوط.
السيد أخطبوط يتدخل في كل صغيرة وكبيرة. يغرق نفسه، بل يستمتع في التفاصيل ولو أدى ذلك إلى تعطيل العمل. يريد أن يشعر أنه على علم وإلمام بأدق التفصيلات والجزئيات. لا يريد ترك جزئية ما لأحد العاملين معه، ولو كان من كان، دون أن يكون له هو نفسه رأي أو علم بها.
ويضيف مؤلف الكتاب، سمة طريفة في السيد أخطبوط، هي أنه نادراً ما يستفيد من رصيد إجازاته كلها مرة واحدة، وإنما يجزئها لسبب وجيه هو يراه أو يعتقده، مفاده أن العمل لن يسير بشكل آمن ومطمئن دونه، وبالتالي غيابه سيكون مؤثراً على العمل بصورة وأخرى.. هكذا اعتقاده.
العقلية الأخطبوطية إن انتشرت في أي موقع عمل، فهي مشروع لكارثة مستقبلية، وأي مؤسسة أو شركة أو موقع عمل، يظهر فيه أخطبوط، فاعلم أيها القارئ الكريم، أن الإحباط سيكون هو المسيطر على الجميع، واللامبالاة ستكون ضاربة بجذورها أعماق العاملين، لاعتبار مهم هو أن السيد أخطبوط هو مسيطر على مقاليد الأمور كلها، وفرص النجاح أو الحصول على تقدير أو مكافأة، تصير ضرباً من المستحيلات، وبالتالي لن يكون غريباً شيوع شعور اللامبالاة، وتكاثر التساؤلات حول جدوى التعب والجد والاجتهاد، إن لم يكن هناك من يقدّر ويعطي لكل ذي حق حقه.
السيد أخطبوط نموذج فرعوني في الإدارة، كما كان فرعون في الحكم والسياسة. وأي إنسان منا عنده القابلية لأن يكون فرعوناً بدرجة وأخرى، لأن ما يدعو الإنسان لسلوك هذا المسلك، والتصرف بالطريقة التي كان عليها فرعون في قومه ودولته، إنما لمجموعة عوامل، إن توفرت كلها أو بعضها لدى الإنسان، فسيكون قاب قوسين أو أدنى من أن يكون فرعوناً. وصاحبنا الأخطبوطي، نموذج فرعوني دون أدنى شك.
حين تتوفر لمسؤول ما صلاحيات واسعة بقدرة قادر؛ صلاحيات لم يسعَ إليها ولم يحصل عليها بجهده وتفانيه ومثابرته، مع وجود بطانة سوء مستفيدة منه تزين له الأمور والحاجيات، مع قناعات داخلية عنده بعدم جدوى ونفع العمل الجماعي، فإنما هذا باختصار شديد، مشروع فرعون جديد يبدأ يتضخم مع الوقت، سواء كان على شكل زعيم سياسي، أو قائد عسكري أو رئيس مدني، أو وزير أو مدير أو غيرهم. وصاحبنا المدير الأخطبوطي منهم.
إن القائد الذكي وليس الأخطبوطي، هو من يكسب الناس حوله، ويجذب قلوبهم نحوه، وكلما استطاع القائد المضي قدماً في هذا الأمر، وخلق روابط قوية بينه وبين من معه، سواء كانوا موظفين أو أنصاراً أو معجبين، كلما كانت فرص نجاحه أكبر وأكثر.
القائد الحقيقي وليس الأخطبوطي، يثق في قدراته، ويدرك تماماً قيمة العمل الجماعي، أو العمل بروح الفريق الواحد. تراه بسبب ذلك، يستشير هذا وذاك، ويسأل الصغير والكبير، ويستفيد من خبرة وعلم كل من معه، فلعل أحدهم يكون مفتاح الإبداع معه دون أن يدري، فتكون مهمته كقائد أن يتعرف عليه ويتعاون معه لفتح مغاليق الإبداع، ليكون الاثنان سبباً في أي نجاح إن حدث؛ إذ لا تجده ينتهز الموقف والمنصب ليستولي على النجاح، بل هو يشارك الجميع فيه.
لكن القائد الحقيقي تجده ينفرد ويتحمل مسؤولية أي إخفاق يقع، من مبدأ مهم يؤمن به هو أن الخير عنده يعم والشر يخص، وليس كما هو شائع الآن في كثير من مؤسساتنا. الخصوصية هاهنا يرجعها إلى نفسه كقائد، ويعتبر الفشل فشله هو أولاً قبل غيره، ويعتبر نفسه المسؤول الأول عنه، على عكس ما هو سائد في كثير من مؤسسات العمل عند القادة الأخطبوطيين على وجه التحديد.
أخيراً وليس آخراً عزيزي القارئ.. إن كنت أخطبوطاً أو صاحب عقلية أخطبوطية، فمن المهم أن تراجع نفسك الآن وقبل فوات الأوان. لماذا؟ لأن مستقبلك في خطر وشيك، ولأن نهايتك لن تكون سارة أبداً مهما طال بك الدهر.. أما إن كنت ضحية لأخطبوط ما في عملك، فاسأل الله -وزملاؤك المبتلون-، أن يرفع عنكم هذا البلاء، ويعافيكم فيمن عافى، ويتولاكم فيمن تولى، فإنه سبحانه سميع عليم، مجيب دعوات المضطرين والمستضعفين.