كان محمد بن عبد الله –عليه الصلاة والسلام– قبل البعثة، رجلاً محبوباً في مكة، وكان موضع تقدير واحترام من الجميع، الأطفال والنساء، والسادة، والعبيد، وغيرهم. واشتهر بالصادق الأمين.. وفجأة تغيرت النظرة إليه بعد انتشار خبر الرسالة، فتغيرت النظرة إليه سريعاً، وتغيرت كل الألقاب والأوصاف التي أطلقها القرشيون أنفسهم عليه، فصار هو الكاذب، الساحر، المبتدع، المفرّق بين الأب وابنه، والزوج وزوجه، وهكذا، لماذا؟ لأنه أحدث انقلاباً عظيماً في أم القرى وما حولها. انقلاباً في المفاهيم، والمعتقدات، والأخلاقيات، والسلوكيات، وغيرها كثير كثير، فكان من الطبيعي أن تتغير النظرة القرشية إليه –ﷺ.
ما إن علمت السيدة خديجة بخبر الرسالة، حتى أسرعت إلى ورقة بن نوفل ، أحد الخمسة الذين بقوا على الملة الحنيفية، أو دين إبراهيم، بعد أن درس وتمكن من الإنجيل والتوراة، فأخبرته بحدث غار حراء ونزول جبريل على زوجها، فاستبشر ورقة وقال: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده، إن كنتِ أصدقتِني يا خديجة، فلقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي لموسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت. ثم رجعت السيدة خديجة –رضي الله عنها- إلى رسول الله -ﷺ- فأخبرته بقول ورقة.
خرج رسول الله -ﷺ– بعد تلك الحادثة بقليل ليطوف بالبيت، فلقيه ورقة فقال: يا ابن أخي: أخبرني بما رأيت وسمعت. فأخبره رسول الله -ﷺ- فقال ورقة: «والذي نفسُ ورقة بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي كان يأتي لموسى، ولتكذّبنّه، ولتؤذَينّه، ولتُخْرجنّه ولتُقاتلنّه، ولئن أدركت ذلك اليوم، لأنصرن الله نصراً يعلمه». ثم دنا من رسول الله ﷺ فقبل رأسه.
يذكر رواة السير عبارة (ثم لم ينشب ورقة أن توفي قبل أن يظهر الإسلام ). أي لم يلبث طويلاً، وكأنما الله سبحانه، أبقى ورقة طوال هذه السنوات ليقول تلك الكلمات القليلة لرسول الله، وينتهي دوره عند ذلك.
التكذيب الإعلامي
تكاد تكون السيرة النبوية محصورة بين كلمات أربع، هي التي ذكرها ورقة بن نوفل للنبي الكريم –ﷺ– حين قال له: “.. ولتكذّبنّه، ولتؤذَينّه، ولتُخْرجنّه ولتُقاتلنّه..”. التكذيب، الإيذاء، الطرد، القتال. هذا تماماً ما جرى للحبيب وصحبه.
على رغم أن الدعوة بدأت سرية وعلى نطاق ضيق جداً، على عادة الدعوات الإصلاحية في أي مجتمع وثني أو فاسد، إلا أن التوتر كان قد بدأ يسود بيوت مكة، لاسيما زعماءها وسادتها. فلما بدأت الدعوة الجهرية، دخل النبي الكريم -ﷺ– مجال الكلمة الأولى وهي التكذيب. إذ بدأت الوسائل الإعلامية لقريش، كما هو حاصل اليوم في كثير من الأقطار، بتكذيب ما يصدر عن النبي وصحبه، على رغم قناعاتهم الداخلية أنه يقول الحق، لكنهم وجدوه عاملاً مهدداً لمصالحهم القريبة والبعيدة، فلابد إذن أن تعمل قريش لتكذيب النبي والتشويش على الآخرين، وتولى كبيرهم النضر بن الحارث مسألة نشر التكذيب بعد كل جلسة دعوة للنبي الكريم مع الناس، فكانت مهمة النضر أن يدعو نفس الأشخاص إليه، يحدثهم بالأساطير وقصص الأولين، ظناً منه أن أحاديث المصطفى –ﷺ– والآيات القرآنية التي كان يتلوها، ليست سوى أساطير الأولين، وأنه بالمثل يحفظ منها الكثير الكثير.
الإيذاء النفسي والبدني
لم تجد محاولات التكذيب القرشية للرسالة المحمدية نفعاً، فتحولت قريش إلى المرحلة الثانية كما قال ورقة، مرحلة الإيذاء النفسي والبدني للرسول الكريم وأصحابه الكرام. تفنن القرشيون في ابتكار وسائل التعذيب، لاسيما مع ضعفاء وفقراء المسلمين، وامتلأت زنازين الطغاة بالمصلحين من أصحاب رسول الله، واشتد التعذيب بصورة لم يجد الرسول الكريم من بد، سوى التفكير بالخروج من مكة تدريجياً والحفاظ على الثلة المؤمنة، فكانت المرحلة الثالثة، وهي الطرد أو الإخراج أو النفي من البلد، على رغم أن مكة هي وطن الجميع، ليس لأحد الحق أن يطرد مواطن من بلده، لمجرد الاختلاف معه في عقيدة أو فكر أو رأي. وهذا الذي حصل.
اللجوء السياسي
ترك المسلمون أموالهم وبيوتهم وما يملكونه في مكة، هجرة إلى الله وحفاظاً على دينهم، وتحولوا إلى شعب يطلب اللجوء السياسي، وضيوفاً على شعب آخر هم شعب يثرب التي صارت المدينة المنورة بعد ذلك، والتي لم تكن بالثراء والسعة التي يمكنها استقبال شعب كامل لاجئ، خاصة أن النسيج المجتمعي في المدينة لم يكن بذاك النسيج المتحد المتعاضد، بل قبائل متناحرة وعلى رأسها الأوس والخزرج، وقبائل يهودية أخرى في المدينة وما حولها.. ولكن أبدى الأنصار مع ذلك، موقفاً مشرفاً مع المهاجرين، حفظه لهم التاريخ إلى يوم الدين.
لم يكن الأمر بالسهولة التي نكتب عنها. فأن تهاجر إلى بلد آخر وأنت مطارد خائف لا تملك شيئاً، ثم تحل ضيفاً على أهلها، لا تدري كم مدة مكثِك وبقائِك معهم، هو أمر يمكن تصور حدوثه لبعض الوقت، لكن ليس كل الوقت، ولن ندخل في كثير من التفاصيل. لكن من فضل الله أن ألّف بين قلوب المهاجرين والأنصار، على رغم محاولات اليهود والمنافقين، خلخلة ذاك التكاتف وتلك المؤاخاة غير المسبوقة في التاريخ.
الإيذاء عابر الحدود
لم يكتف القرشيون بطرد المسلمين من وطنهم، والحجز على ممتلكاتهم ومصادرتها أو الاستيلاء عليها، بل بدأوا في وضع خطط إرسال الأذى إليهم خارج الحدود، ومحاولة إعادتهم إلى ديارهم، ليقينهم أن طرد المسلمين من وطنهم، وفيهم الأب والابن والزوج والزوجة، كان عملاً متهوراً غير مدروس منذ البداية، إنما كان مسايرة لأهواء وأمزجة بعض الزعماء السفهاء بينهم، الذين فجروا في خصومتهم، فأيقنوا أن طردهم كان بمثابة مكافأة لهم، ووجودهم خارج مكة هو الخطر ذاته.
في يقين القرشيين، أنه كان من الممكن التحكم والسيطرة على أهاليهم من المسلمين بصورة وأخرى وهم داخل الوطن، لكن مع خروجهم جميعاً، وحصولهم على داعم خارجي وحضانة شعبية من بلد آخر، سيعمل على تقوية شوكتهم، وستكون المسائل بعد ذلك غاية في التعقيد، وهذا ما حصل تماماً.
كان من نتائج إرسال الأذى للمسلمين حتى وهم خارج مكة، أن بدأت مرحلة القتال، بدر وأُحد والخندق، وما بينهما من تحرشات عسكرية بين الحين والحين، حتى تمكن المسلمون من السيطرة على الأوضاع، خاصة بعد هزيمة الأحزاب التي قال بعدها النبي الكريم –ﷺ -: «الآن نغـزوهم ولا يغزونا «. إشارة إلى القوة والتمكن التي سيكون عليها المسلمون بعد حين من الدهر قصير، تكون لهم المبادرة في إظهار القوة والسيطرة وهذا ما تترجم عملياً في النهاية بفتح مكة.
السيرة النبوية الشريفة تكرار لسير الأنبياء والمرسلين. ستجد أن كلمات ورقة بن نوفل الأربع للنبي الكريم –ﷺ– هي نفسها تتكرر.. التكذيب، والإيذاء، والتهجير، والقتال بصور مختلفة. وهذا شأن الطغاة والفراعنة مع المصلحين في كل زمان ومكان، الذين لا يرون بأساً أبداً في التعايش مع الصالحين، ولكن ليس المصلحين، والبون بينهما شاسع.