يعتقد كثير من الدارسين أن العلاقات الدولية علم حديث النشأة ظهر في أوروبا وتطور على يد علمائها، لكن الحضارات الشرقية كما أكدت بعض الدراسات الحديثة كان لها فضل إرساء قواعد هذا العلم منذ قرون بعيدة، وسوف أعرض هنا إلى إسهام الحضارة الإسلامية من خلال كتاب “السير الكبير” لمؤلفه الإمام محمد بن حسن الشيباني (132-189هـ).
الإمام الشيباني: التكوين المعرفي والآثار الفقهية
هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، ولد بمدينة واسط العراقية ونشأ بالكوفة وكانت حينئذ معهد العلوم ودار الحديث والفقه حيث أقام بها أبي حنيفة وأبو يوسف والكسائي والثوري والفراء وثعلب، ويروى أن أول اتصاله بشيخه أبو حنيفة كان وهو صبي في الرابعة عشر من عمره حين قدم يسأله عن مسألة نزلت به، وقد أعجب أبي حنيفة به لفطنته وورعه فامتدحه أمام رواد مجلسه بقوله “إن هذا الصبي يفلح إن شاء الله”، وطلب منه معاودة التردد على مجلسه لكنه اشترط أن يستظهر القرآن أولا فغاب الشيباني سبعة أيام وعاد وقد أتم حفظه وأصبح مؤهلا لدراسة الفقه، ودامت ملازمته لأبي حنيفة أربعة أعوام كان خلالها يدون أجوبته على المسائل في مجلسه، وبعد وفاته واصل الدرس على يد تلميذه الأول أبو يوسف[1].
وكان الشيباني تواقا للعلم لا تثنيه بعد المسافة عن طلبه، فارتحل إلى الشام طلبا لعلم الإمام الأوزاعي، كما طلب علم سفيان ابن عيينة في مكة وعبد الله بن المبارك في خراسان، وقصد المدينة حيث تلقى عن مالك ولازمه ثلاث سنوات وسمع منه الموطأ عدة مرات، وجملة ما سمعه من لفظ مالك من الحديث سبعمائة حديث مسند كما صح عنه ذلك بطرق، ومنه يُفهم أن الشيباني نهل من مدرسة الرأي التي تزعمها أبو حنيفة كما اقتبس من مدرسة الحديث التي رفع لوائها مالك لكنه في نهاية المطاف انحاز لمدرسة الرأي وصار أحد أعلامها[2].
وبفضل تكوينه المعرفي المتميز علي يد الآباء العظام المؤسسين للفقه الإسلامي أحرز الشيباني مكانة علمية مرموقة، وجاءت مصنفاته العلمية التي تعد أصح كتب المذهب الحنفي وعليها مدار الباحثين إلى يومنا هذا لتؤكد هذه المكانة، وهذه المصنفات على شاكلتين:
– كتب ظاهر الرواية: وهي ما نقله عنه الرواة الثقات وهي ست كتب؛ المبسوط والجامع الكبير والجامع الصغير والسير الكبير والسير الصغير والزيادات.
– كتب النوادر: وهي ما لم يصل إلينا برواية الثقات فليس لها من الشهرة والقبول واطمئنان النفس، ومن أمثلتها أمالي محمد في الفقه أو الكيسانيات، والرقيات الذي جمع فيه ما عرض له وهو قاض بالرقة، والمخارج في الحيل، وزيادة الزيادات.
وله بعد هذا وذاك كتب أخرى لها قيمتها العلمية ومنها كتاب الرد على أهل المدينة، وكتاب الآثار وهو عبارة عن مجموعة من الأحاديث في الفقه.
وإذا كانت تلك المصنفات خلدت مكانة الشيباني العلمية عبر العصور لكن مكانته ما كانت لتخفى عن أقرانه ومعاصريه فها هو الإمام الشافعي الذي تتلمذ على يديه يقول ” لو أنصف الناس لعلموا أنهم لم يروا مثل الإمام محمد بن الحسن، ما جالست فقيها قط أفقه ولا أفتق لسانا بالفقه منه، كان يحسن من الفقه وأسبابه أشياء تعجز عنها الأكابر” ويقول أيضا “لقد كتبت عن محمد بن الحسن وقر بعير كتبا، ولولاه ما انفتق لي من العلم ما انفتق”[3].
حول الكتاب وأهميته
كان حتما على الدولة الإسلامية الناشئة في الجزيرة العربية أن تتعامل مع غيرها من الدول سواء في حالة الحرب أم السلم، وأن تصوغ قواعد ثابتة تحكم علاقاتها الخارجية وفق القيم والمبادئ الإسلامية، وهي المهمة التي نهض بها الفقهاء المسلمون الأوائل ضمن أبواب الجهاد في الكتب الفقهية، إلا أن الشيباني كان أول من أفرد لها كتابا ليناقش مسائلها بتوسع في كتابه السير الكبير وهو آخر تصانيفه الفقهية.
وحول دواعي تسمية الكتاب بهذا الاسم يقول الإمام السرخسي “اعلم أن السير جمع سيرة وبه سمي الكتاب لأنه بين فيه سيرة المسلمين في المعاملة مع المشركين من أهل الحرب، ومع أهل العهد منهم من المستأمنين وأهل الذمة، ومع المرتدين الذين هم أخبث الكفار بالإنكار بعد الإقرار، ومع أهل البغي الذين حالهم دون حال المشركين”، أما لفظ الكبير فقد أطلقت تمييزا له عن كتاب “السير الصغير” الذي وضعه الشيباني أولا وجاء مختصرا.
ولبيان أهمية الكتاب نشير إلى أن الشيباني وضعه في ستين دفترا وفور الانتهاء منه أمر برفعه إلى الخليفة هارون الرشيد فاطلع عليه وأعجب به وعده من مفاخر أيامه، وبعث ابنيه الأمين والمأمون إلى مجلس الشيباني ليسمعوا الكتاب منه[4]، وقد طبع الكتاب بالهند لأول مرة بشرح الإمام السرخسي في أربعة مجلدات ضخام، وقام محمد المنيب العنتابي بنقله إلى التركية في عهد السلطان محمود خان لإفادة رجال الدولة وقواد الجيش في مسائل الجهاد والعلاقات مع الآخر.
وبإمكاننا أن نقسم موضوعات الكتاب ومسائله المتشعبة التي تقدر بالمئات إلى قسمين كبيرين:
– العلاقات الدولية الإسلامية وقت الحرب،ويندرج ضمن هذا القسم المفاهيم الإسلامية المركزية مثل: الجهاد والرباط والنفير والحرب التي استفاض فيها الإمام مبينا حكمها وكيفيتها وما يرتبط بها من مسائل مثل: كيفية التعبئة للحرب، والاستعانة بغير المسلمين في القتال، والاستخبار والتجسس، كما يضم هذا القسم مسائل الغنائم تعريفها وكيفية تقسيمها وسيرة الرسول في ذلك ومسائل الفيء والخراج والأنفال وما إلى ذلك، ومن مسائله كذلك مسائل الأسرى وكيفية معاملتهم وحقوقهم وكيفية افتداء أسرى المسلمين من يد الأعداء.
– العلاقات الدولية الإسلامية وقت السلم، ومن أبرز موضوعاته عهد الأمان معناه ومشروعيته وحكمه، وشروطه، وكيف ينتقض، وأبواب الموادعة والمعاهدة والمهادنة والموضوعات الفرعية المتعلقة بها من قبيل: نكاح أهل الحرب وكيفية إثبات النسب من السبايا، وما يتعلق بالمستأمنين وأهل الذمة من أحكام، وإسلام المحارب وغير ذلك من المباحث المهمة.
وبالجملة فإن كتاب السير الكبير الصادر في القرن الثاني الهجري أرسي معالم نظرية إسلامية متكاملة في العلاقات الدولية في حال الحرب والسلم، وقد التفت الدارسين الغربيين إلى هذا المصنف الفريد فقد اطلع عليه الباحث الهولندي جروسيوس مؤسس علم القانون الدولي العام أثناء نفيه إلى الأستانة وقد تأثر به كثيرا في كتابه “قانون الحرب والسلم” ولذلك وصف فون بروغشتال الشيباني بأنه “جروسيوس المسلمين”، أما المستشرق الفرنسي بارييه دي مينار فقد نشر بحثا حول الكتاب بالمجلة الأسيوية عام 1852م، كما اهتم به كارل بروكلمان الذي أحصى له سبعة عشر مخطوطة.
[1] محمد زاهد الكوثري، بلوغ الأماني في سيرة الإمام محمد بن الحسن الشيباني، القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، 1998، ص 6-7.
[2] فتحي أمين عثمان، الشيباني والقانون الدولي، الكويت، مجلة الوعي الإسلامي، س1، ع5، ص 70.
[3] محمد يوسف موسى، محمد بن الحسن الشيباني وكتابه السير الكبير، القاهرة: مجلة منبر الإسلام، صفر 1381، ص45-46.
[4] محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، شرح السير الكبير، القاهرة: الشركة الشرقية للإعلانات، 1971م، 1/3-4.