هل نظرتَ إلى الدراسة على أنها أكثر من مجرد طريق إلى الشهادة؟ هل سبق أن فكرتَ في الانتهاء من المراحل الدراسية بأي طريقة كانت؟ هذه التساؤلات راودت كثيرًا من الطلاب الذين اعتقدوا أنها مرحلة ثقيلة من حياتهم، ولا مناص من عبورها نحو الوظيفة، إلا أن حقيقة طلب العلم أعمق وأشمل.
إن فكرة الذهاب إلى المدرسة فرصة لصقل شخصية الطالب ومساعدته في صناعة مستقبله. وبحضور مختلف الصفوف، والتفاعل مع المناهج والمعلم، يبدأ الشاب تدريجيًّا في اكتشاف ذاته، وتطوير مهاراته، وبناء صداقاته، ومواجهة الحياة بتجاربها الأولى. وخلال سنوات دراسته، يكتمل نماء هذا الطالب حتى يغدو شخصية متوازنة ومتفوقة.
إذا غيرنا نظرتنا إلى مراحل الدراسة من كونها عبئًا إلى كونها فرصة للمعرفة والقيم والانضباط والصداقة، وحتى الفشل… فإننا بالتأكيد سنحصل على نتائج إيجابية تبشر بإنسان متمكن استفاد من هذه المرحلة.
هذا المقال محاولة لإعادة النظر إلى مراحل الدراسة ودعوة لكل شاب وشابة إلى عيشها بشغف، لأنها تصنع منكم من أنتم عليه غدًا.
ما وراء الشهادة والوظيفة
غالبًا ما نختزل سنوات الدراسة الطويلة في صور ضيقة بسبب سرعة إيقاع العصر الحالي، وانتشار فكرة تحقيق النجاحات السريعة، حتى صار الحصول على الشهادة الورقية أقصى الأمنيات ومفتاح الوظيفة والمكانة المجتمعية. لكن هذا التصور ــ على شيوعه ــ يجرد المرحلة من جوهرها الحقيقي، فهي أشبه بورشة مصغرة تحت نطاق مصنع الحياة تُنحت فيها ملامح شخصياتنا، وتصاغ رؤيتنا للعالم، وتبنى الأسس التي سيقوم عليها مستقبلنا بأكمله. ميزة هذه المرحلة الممتدة من براءة الطفولة إلى عتبات النضج في بداية العشرينات أنها فترة يشتد فيها عود الطالب ويخوض تجاربه الإنسانية، فيصيب ويخطئ، ويتعلم كيف يواجه الفشل قبل النجاح.
لكن لماذا تنظر مجتمعاتنا العربية غالبًا إلى هذه الرحلة كعبء ثقيل لا يُطاق؟ بينما نجدها في مجتمعات أخرى أروع مراحل العمر التي يعيشها الطالب بشغف وفضول، ويعدّونها فضاءً رحبًا للنمو العقلي والوجداني؟
الإجابة تكمن في نظرتنا القاصرة إلى الشهادة والوظيفة.
أوسع من فناء المدرسة
من أكبر الأخطاء التي نرتكبها هو حصر معنى الدراسة بين دفتي مقرر دراسي وقاعة امتحان. فالمدرسة ــ ومن بعدها الجامعة ــ نموذج للحياة المصغرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. إنها المعمل الأول الذي يخرج إليه الشاب من شرنقته الأسرية الآمنة إلى رحابة المجتمع وتحدياته.
مع الخطوات الأولى في فناء المدرسة، يبدأ الطالب تعلم فن التعامل مع الآخرين، ويكوّن صداقات من بيئات وثقافات متنوعة، ويتعلم كيف يتفاعل مع شخصيات لا تربطه بها صلة قرابة. وربما يتحول زميل جديد إلى صديق للعمر. هذه التجارب الإنسانية الأولى هي التي تصقل مهاراته الاجتماعية والانفعالية، وسيحملها معه الطالب كدرع في معارك الحياة القادمة.
مثلث الصداقات
ثم ينتقل الطالب إلى اكتشاف كنز الصداقة الذي لا يقدر بثمن. وحتى نزداد وعيًا بهذا المفهوم، أنقل ما أوضحه الدكتور إبراهيم الأنصاري في إحدى مقابلاته الإذاعية (1)، حيث قدم رؤية عميقة لما سماه “مثلث الصداقات” المكون من:
- ضلع المتعة والمرح: هؤلاء هم أصدقاء النزهات والضحكات الصادقة، الذين يخففون عنا ضغوط الدراسة ويجددون طاقاتنا. إنهم يمثلون الجانب المشرق والحيوي من الحياة.
- ضلع العلم والمعرفة: هؤلاء هم زملاء المذاكرة والمشاريع البحثية، الذين يعينوننا على فهم ما استعصى، ويشحذون هممنا نحو التحصيل والتفوق. إنهم وقود العقل وشركاء الرحلة المعرفية.
- ضلع القيم والأخلاق: هؤلاء هم الرفقة الصالحة التي تذكرنا بالمبادئ، وتصون سمعتنا، وتكون لنا مرآة نرى فيها أفضل ما فينا.
الخطر الحقيقي يكمن في أن يضع الشاب كل رهاناته على ضلع واحد. فمن يكتفي برفقة المرح قد يهدر وقته ويفرط في مستقبله، ومن ينغلق على جماعة دراسية بحتة قد يفقد مرونته الاجتماعية ويتحول إلى آلة صماء، ومن يكتفي بالرفقة الصالحة دون أن يخوض تجارب أوسع قد يعيش في عزلة عن واقعه.
النجاح الحقيقي هو فن الموازنة بين هذه الأضلاع الثلاثة: أن يغذي الشاب عقله بالعلم، وروحه بالقيم، وقلبه بالأنس والمرح.
غابة المعلومات
أعود إلى فكرة تغيير النظرة للرحلة الدراسية، ولنتخيل أنها رحلة استكشافية داخل غابة واسعة من المعلومات والمعارف. في هذه الغابة، ستجد ــ عزيزي الطالب ــ أشجارًا باسقة من التاريخ، وأنهارًا جارية من العلوم، وتضاريس معقدة من الرياضيات، وزهورًا فواحة من الفنون والآداب. كل مادة دراسية باب جديد، وكل واجب منزلي فرصة لمغامرة، وكل بحث رحلة لاكتشاف المجهول.
الطالب الذي يتعامل مع الواجب كتكليف ثقيل ينجزه على عجل من أجل الدرجة فقط، لن يخرج من هذه الغابة إلا ببعض الأوراق اليابسة. أما من يراه فرصة لزيادة المعرفة والبحث والمقارنة بين المصادر وطرح أسئلة جديدة، فإنه يبني لنفسه رصيدًا ضخمًا، ويصقل مهاراته النقدية، ويتفوق على نفسه قبل أن يتفوق على أقرانه.
ولنتذكر قول الإمام الشافعي :
من لم يذق مر التعلم ساعة تجرع ذل الجهل طول حياته (2)
إن مرارة التعلم المؤقتة هي الثمن الزهيد الذي ندفعه مقابل متعة الاكتشاف، وحرية الفكر، والتميز الحقيقي الذي يدوم مدى الحياة.
بناء التصورات
في أروقة المدرسة والجامعة لا نتعلم الحقائق العلمية والنظريات فحسب، بل نخوض صراعًا داخليًّا لبناء تصوراتنا الكبرى عن الحياة. أسئلة وجودية عميقة تطرق أبواب عقولنا في سنوات المراهقة والشباب: من نحن؟ لماذا وُجدنا على هذه الأرض؟ ما هدفنا الأسمى؟ وما مكاننا في هذا الكون الفسيح؟
هذه الأسئلة لبنات أساسية تُبنى عليها شخصياتنا. فإذا لم يجد الشاب إجابات مقنعة ترتكز على الإيمان والعقل، عاش حياة مضطربة فريسة للشك والتشوش. أما إذا وُجه إلى البحث السليم، ووجد ما يطمئن قلبه ويروي عقله، فإنه يصبح أكثر قوة وصلابة في مواجهة صدمات المستقبل وتحدياته.

ولنا في ابن خلدون أسوة حسنة. لم يكتفِ بالعلوم التي قُدمت له، بل انطلق من معارفه ليغوص في أعماق التاريخ والسياسة والمجتمع محاولًا فهم قوانين العمران البشري. لم تكن الدراسة عنده مجرد تلقي معلومات، بل كانت مشروعًا حضاريًّا لفهم الحياة وإصلاحها. ولذلك أسس علم الاجتماع بعد امتلاكه معارف وتجارب مختلفة، وقبل ذلك شغفه المعرفي لبناء تصور شامل.
فلننظر إلى المعرفة التي نتلقاها اليوم على أنها ستساعدنا في بناء وعينا وإعدادنا لمعارك الحياة.
النظام والانضباط
خلف كواليس المناهج الدراسية نتعلم دروسًا غير مكتوبة، لكنها قد تكون الأهم على الإطلاق، إذ تغرس فينا قيمًا لا غنى عنها، مثل:
- احترام الوقت: نتعلم أن للحصة بداية ونهاية، وأن للتأخير عواقب.
- الانضباط والالتزام: نعتاد على الحضور المنتظم وتسليم الواجبات في مواعيدها.
- مبدأ الثواب والعقاب: ندرك أن الاجتهاد يُكافأ، وأن الإهمال يُعاقب.
- قيمة التعاون والنظام: نتعلم كيف نعمل ضمن فريق، ونحترم القواعد التي تنظم علاقاتنا.
هذه الدروس هي التي تصنع شخصية متوازنة ومنتجة للمستقبل. فالشاب الذي يعتاد على النظام في مدرسته سيدرك أن النجاح في الحياة العملية هو نتاج العمل والالتزام والانضباط.
وهنا نستحضر فكرة المفكر الجزائري مالك بن نبي، الذي رأى أن أزمة الأمة ليست في نقص الموارد بل في عجزها عن تنظيمها. لقد اعتبر النظام والانضباط أساس بناء الحضارة، وما المدرسة إلا المصنع الأول الذي ينتج المواطن المنظَّم القادر على بناء مجتمعه.
خاتمة
في نهاية المطاف، من يحسن استثمار هذه المرحلة سيخرج إلى الحياة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، ويستطيع مواجهة العواصف وإنتاج الثمار، ومن يضيعها في لهو أو تذمر، يجد نفسه أمام مستقبل هش، كورقة في مهب الريح.
تنزيل PDF