تحتاج البشرية دائما إلى الشخصية القدوة أو النموذج، تلك الشخصية القطب الجاذبة وهي شخصية ناجحة جدًا يكمن نجاحها الفذ في ثباتها على القيم العليا الراسخة رغم قسوة المتغيرات المتلاحقة ووعورة الواقع وتحديات الحياة، لا تطوع مبادئها الثابتة لتحقق إنجازات زائفة أو نجاحات مغشوشة.. هذه الشخصية لا تذكِّر بالخير -كل أنواع الخير- فقط وتدل عليه وإنما أيضا تضمن استمراره وبقاءه على الأرض رغم مرارة الصراع مع الشر وقواه.. شخصية تصنع الطمأنينة وتبعث على الأمل لأنها ببساطة تجعلك عقب كل احتكاك تنطق من قلبك هذه العبارة العامية البسيطة وأنت تبتسم في سعادة جلية: الدنيا باقِ فيها خير!
وهي شخصية غنية جدًا تكتنز ثروتها الطائلة من كنز مكارم الأخلاق.. وهو كنز ثمين وعجيب، عملته الرسمية الأخلاق الحسنة الراقية! وهي العملة الوحيدة التي كلما أنفقت منها على من حولك زاد رصيدها لديك.. فهي عملة تزداد بالإنفاق.. وكلما أعطيت منها للناس تجذَّرت أكثر عندك! حتى صار بقاء مخزونها عند الشخصية القدوة مشروطًا بكثرة ما ينفقه منها ويتداوله من رصيدها مع الناس!
ومكارم الأخلاق هي سمة الشخصية القدوة الأعظم في تاريخ البشرية وفي دنيا الناس سيدنا رسول الله محمد ﷺ، أثنى عليه ربه سبحانه في قرآن كريم خالد إلى قيام الساعة، فجمع له مكارم الأخلاق: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍۢ} القلم :4، ثم أخذ يعدِّد تلك الأخلاق الكريمة الراقية ويبثها في آيات كثيرة متناثرة فيقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء:107، مثبتًا له الرحمة المهداة الجامعة، ثم يؤكد تلك الرحمة، ويرفقها بلين القلب والخُلق، وينفي عنه الغلظة والفظاظة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران:159، ويثبت له الحرص على خيرية الناس وهدايتهم ورأفته بهم ويؤكد على رحمته { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} التوبة:128، ثم يصف كيف يستمع للناس صغيرهم وكبيرهم، ذي الشأن منهم، ومن دون ذلك {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ} التوبة:61.
ويثبت حياءه الجم ﷺ، حتى ليستحي من طلب كف الأذى عن نفسه، كما يثبت كرمه في إطعام الطعام {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} الأحزاب:53، ويصفه كيف كان في بيته حريصًا على موافقة أهله ومراضاتهم ومراعاة خاطرهم {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} التحريم:1 ، ويثبت رقته بالخلق كافة، وهو يتحسَّر على الضالين منهم {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} فاطر:8، ويثبت له طول العبادة والتهجد والإخبات لله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} المزمل:20.
إقرأ أيضا :
الأخلاق التي يتحلى بها المسلم في رمضان
ويصفه تعالى بالشجاعة والثبات ورباطة الجأش في مواجهة الخطر الداهم { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۗ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } آل عمران:153، ويثبت الحق تبارك وتعالى صفات الإمامة والقيام بواجبات رسالة الهُدى حتى صار نور الحياة في الظُلم { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } الأحزاب45-46.
أما النبي ﷺ نفسه فيجعل جوهر الأديان والرسالات السماوية مكارم الأخلاق فيقول: “إنما بُعثت لأتممَ مكارم الأخلاق” حديث صحيح ، ويرهن ﷺ مقدار قرب المسلم منه يوم القيامة بحسن الخلق: “إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا” حديث صحيح.
ومن عظيم هذه الثروة الطائلة وهذا الكنز الدائم المتجدد، مكارم الأخلاق، أنه يتحقق في الشخصية القدوة بالطلب والحرص والدأب على امتلاكه، وصحيح أن المولود يولد على الفطرة السليمة النقية، لكن مكارم الأخلاق تُكتسب بالإرادة والرغبة والصبر على تحصيلها وإتقانها، فلا يحتج محتج بأنه لم يوهب مكارم الأخلاق، لأن عليه العمل على تحصيلها والديمومة عليها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:”إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ” حديث حسن الصيح الجامع .. فالحرص على تعلم واكتمال وممارسة مكارم الأخلاق هو مفتاح بناء الشخصية القدوة الرائدة.