تهتم المنظمات الدولية والإقليمية بقضية أطفال الشوارع، الذين لا يجدون العائل أو المأوى، ويتخذون التسول مهنة لهم، وهذا الاهتمام بتلك القضية أمر حسن يجب أن نزيد من اهتمامنا به.
ولكن على الجانب الآخر توجد قضية لا تقل أهمية عما سبق، ولكنها لا تنال حظها من الاهتمام، ألا وهي قضية كبار السن المشردين في الشوارع.
هؤلاء الذين يملئون الشوارع ويتخذونها والأرصفة بيوتًا لهم فيفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يلبسون البالي من الثياب، التي تكشف أكثر مما تستر، فلا تحميهم في الشتاء من عاصف الريح وقاصف الرعد وقارس البرد الذي يتسلل إلى العظام فينهشها نهشًا، ولا تحميهم في الصيف من القيظ؛ حيث تحرقهم الشمس بأشعتها كأنها نيران تشوي أجسادهم.
تجد أجسادهم قد ضوت وهزلت مما تكالب عليها من الأمراض.
تجدهم يتكففون الناس فيعطيهم هذا، ويمنعهم ذاك… يتلطف معهم هذا، ويتجهم عليهم ذاك.
تقرأ على وجوههم قسوة الحياة، قلما تراهم باسمين، وكيف يبسمون وقد جفاهم المجتمع وتأفف منهم؟!
إن هؤلاء فقدوا الأهل والأحباب، وخسروا الأموال والأطيان، وفي لحظة وجدوا أنفسهم بلا مأوى، تتقلب بهم الأحوال من سيئ لأسوأ… تغلق دونهم الأبواب فلا يجدون عناية أو اهتمامًا أو رعاية من أحد!!
إن مشكلة هؤلاء ضخمة جدًّا، فإذا كان أطفال الشوارع في مقتبل الحياة وميعة الصبا، ويستطيعون أن يسعوا طلبًا لما يسد رمقهم ويدفع عِوَزهم ويقيم أودهم، فإن كبار السن هؤلاء لا يستطيعون سد احتياجاتهم؛ لأن أعمارهم في تولٍ وإدبار، وصحتهم في تراجع وانهيار.
إن وجود هذه المشكلة في المجتمعات لهي سوءة على جبينها، وعار يستحيل غسله ما لم تتحرك المجتمعات لرفع المعاناة عن هؤلاء، وإعادة البسمة إلى وجوههم، وكفالتهم وإعالتهم.
والمسلمون الأوائل وصلت عنايتهم بالشيوخ والعجزة والمسنين أن اهتموا بأهل الكتاب الذين طعنوا في السن، وأكل الدهر قواهم، فأصبحوا لا حول لهم ولا قوة، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t وهو في الشام يمر على قوم من النصارى مجذومين قد لفظهم المجتمع، وقلاهم القاصي والداني، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يُجرى عليهم القوت.
ولم يكن هذا الحدث حدثًا عابرًا يعبر عن عاطفة اتقدت لحدثٍ ما ثم لا تلبث أن تنطفئ جذوتها في قلب الفاروق، ولكنه كان قاعدة ثابتة لديه، واضحة عنده كل الوضوح، قال الإمام أبو يوسف صاحب كتاب “الخراج“: “وحدثني عمر بن نافع، عن أبي بكر قال: مرَّ عمر t بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخًا ضرير البصر فضرب عمر عضده، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله وأعطاه مما وجده، ثم أرسل به إلى خازن بيت المال وقال له: انظر هذا وضرباءه فضع عنهم الجزية، فو الله ما أنصفناه، أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: 60]، والفقراء: هم الفقراء المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ثم وضع عنه الجزية وعن ضربائه”. قال أبو بكر: “أنا شهدت ذلك من عمر ورأيت ذلك الشيخ”([1]).
وهذا الاهتمام بالعجزة كان منهجًا متبعًا عند الخلفاء المسلمين، أي من أعلى قمة الهرم في السلطة لدى المسلمين، فهذا خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- جعل كفالة الطاعنين في السن من الذميين قانونًا مفروضًا على ولاته، فقد كتب إلى عدي بن أرطاة عامله على البصرة: “أما بعد، فإن الله -سبحانه- إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام واختار الكفر عتيًّا وخسرانًا مبينًا، فضع الجزية على من أطاق حملها، وخل بينهم وبين عمارة الأرض؛ فإن في ذلك صلاحًا لمعاش المسلمين، وقوة على عدوهم، وانظر مَن قِبَلك من أهل الذمة قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجْرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: “ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك في كبرك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه”([2]).
وإذا كان ما أوردناه من نصوص تتحدث عن أهل الكتاب، فهذا يعني من باب أولى أن اهتمام الخلفاء والولاة بالمسنين والطاعنين من المسلمين كان على رأس أولوياتهم.
ولمحاولة علاج هذه المشكلة نقترح هذه الخطوات الإجرائية:
1- إيجاد دور الرعاية الاجتماعية والصحية لهؤلاء المسنين سواء أكانت حكومية أم أهلية.
2- إقدام أهل الجود والسماحة على كفالة بعض المسنين وإجراء الأموال عليهم.
3- إيجاد بعض المهن التي تعينهم على التكسب بما يتلاءم مع أعمارهم وأحوالهم.
4- البحث عن أهالي هؤلاء المسنين -إن كان لهم- وحثهم على عدم ترك ذويهم عرضة للضياع.
5- نشر ثقافة التكافل في المجتمعات باستخدام الوسائل المناسبة.
6- تسليط الضوء على هذه المشكلة من خلال وسائل الإعلام للفت الانتباه لها.
وأخيرًا نذكر أن النبي محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- قد استعاذ من العجز والهرم فقال: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ”([3])
([1]) أبو يوسف: الخراج، ص(126).
([2]) أبو عبيد: الأموال، ص(57).
([3]) أخرجه البخاري في “الجهاد”، باب: “مَا يُتَعَوَّذُ مِنَ الْجُبْنِ”، ح(2668)، ومسلم في “الذكر والدعاء والتوبة”، باب: “التَّعَوُّذِ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَغَيْرِهِ”، ح(2706) من طريق أنس بن مالك.