الخضر عبد الباقي محمد
يعتبر الشيخ كمال الدين الأدبي أحد العلماء الأفذاذ الذين لمعت أسماؤهم وتألقت شخصياتهم في نيجيريا منذ نصف قرن محققًا نجاحات كبيرة وناقش بخطابه الدعوي معاني متجذرة على جدران التاريخ الحديث للدعوة الإسلامية.فالأدبي داعية اعتمد في أسلوبه على ذاكرة مثقلة بتراث شيخه “تاج الأدب”، فصنع واقعًا ونموذجًا متميزًا فريدًا، جمع بين الميراث التقليدي والمعاصرة الحديثة، فخرج بتوليفة مميزة تجمع بين الاستجابة لمتطلبات الواقع المحلي النيجيري وطلاقة اللسان بالعربية وفق نظام التعليم الحديث.
ومن خلال عدة خصال ومآثر ومناقب اقترب الأدبي من الجماهير وحلّق في ذاكرة الملايين من النيجيريين، فلين الجانب، والتواضع والتزام الهدوء مع الوقار في عرض آرائه واجتهاداته اقترب من الناس، فكان محل إشادة وإجماع من المحبين والمعارضين له على حدّ سواء.
نسبه وولادته
ينتمي الأدبي إلى نسب كريم وسلالة انحدرت من أشهر قبائل مدينة “إلورن” فوالده “مالم حبيب الله بن موسى” والذي اشتهر بورعه وتقواه كان يعمل في مهنة تطريز الملابس، وينحدر أصل أمه “خديجة بنت محمد الثاني” من بيت علم وشرف وكلاهما من أهل مدينة إلورن.
كان مولد الشيخ الأدبي عام 1907م في بيت “أرابجي” الواقع بحي ماشيني مدينة إلورن، الواقعة في الشمال الغربي لنيجيريا. وهي مدينة لها في السياق التاريخي المحلي أهميتها من حيث كونها أقدم المدن ظهورًا، وأعرقها تاريخًا، وأكثر مدن القسم الغربي حركة وحيوية في مجال العلم الشرعي وإنتاج العلماء ورواد الفكر الإسلامي، حتى إن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن مدينة إلورن توجد بها قبل مطلع القرن التاسع عشر الميلادي أكثر من ثلاثمائة عالم مسلم في مختلف فنون العلوم الشرعية واللغوية.
وهذه البيئة العلمية تبرز أهمية ما يمثله ظهور الشيخ كمال الدين وهو “الشيخ والعالم الشاب” من أهمية في الانقلاب على النمط التقليدي في أسلوب الدعوة والوعظ.
تتلمذ وتفوق
بدأ الشيخ الأدبي حياته العلمية بأخذ مبادئ القراءة والكتابة بالعربية على يد العالم “الشيخ صلاح الدين أحمد تيجاني” وهو من دار “بابا إتا”. ففي سن مبكرة جدًّا بدأ حفظ القرآن الكريم وأتمه وهو في العاشرة من عمره، حيث عرف عنه قوة الذاكرة، وحدة الذكاء بين أقرانه.
ثم التحق بمدرسة الشيخ محمد الجامع اللبيب تاج الأدب التقليدية، بعد أن أبدى هذا الشيخ رغبته فيه واستأذن من والده بانضمام الأدبي إلى زمرة تلاميذه؛ نظرًا لما رأى فيه من سرعة الفهم والبديهة وتنبأ له بمستقبل زاهر وشأن عظيم في العلوم الإسلامية. ليبدأ مشوار التلمذة مع الشيخ “تاج الأدب” يرافقه إلى القرى والمدن النيجيرية في بلاد اليوربا – جنوب البلاد وإلى بعض البلدان المجاورة مثل غانا وتوغو وساحل العاج.
وخلال تلك الفترة تدرب على أساليب الإلقاء والوعظ والارتجال، علاوة على أخذه للعلوم العربية والأدبية وفنون القول.
وما هي إلا سنوات أربع فقط قضاها مع شيخه حتى تفوّق على جميع أقرانه من التلاميذ، وأتمّ جميع الكتب المقررة على مختلف المراحل المقسمة حسب الأعمار رغم صغر سنه وحداثة مرافقته للشيخ.
“الشيخ الشاب”
أمور كثير أثارت الانتباه إلى الشيخ الأدبي وأضفت على خطابه الدعوي مميزات لم تكن تتوفر لغيره من الدعاة في تلك الفترة، فقد كان لصغر سنه، ولوفرة معلوماته الشرعية، علاوة على روعة أسلوبه المتمثل في حلاوة صوته في تلاوة القرآن والشواهد الشعرية، وذلك أضاف الكثير من الجاذبية على دعوته؛ ليصبح الاستماع إليه مقصدًا جماهيريًّا.
وبعد وفاة شيخه “تاج الأدب” ازدادت نجوميته تألقًا وتضاعفت، وعلا صيته في الأوساط المحلية عام 1923م ليتوّج “شيخ الوعاظ الشبان”.
إثر ذلك واصل جهوده ومشواره وأعطى مزيدًا من العناية بمسألة التثقيف الذاتي في العلوم الشرعية عن طريق القراءة والاطلاع الواسع المكثف، وكما كان مجال تحسين المستوى الشخصي في العربية وثقافتها قد نال اهتمامًا أكبر في جهوده في التحصيل العلمي.
منهجية جديدة
حفلت حياة الشيخ الأدبي بتجليات واضحة على صعيد العمل الدعوي، وكان من أبرز ملامح خدماته مظاهر التجديد التي أحدثها نجاحه في استحداث منهجية جديدة لإعداد الدعاة.
كما نجح في تحديث الجوانب الأسلوبية للخطاب الدعوي، حيث اعتمد في تخريج العلماء والدعاة الجدد على طرق وأساليب غير تقليدية مثل: تقديم وجوه من الوعاظ الشبان ممن لم تتجاوز أعمارهم العشرين لممارسة الدعوة في مجالسه ودروسه العامة والاكتفاء بالتعليق والمباركة لاختتام تلك المجالس، وأسلوب ابتعاث وتعيين دعاة شبان لجهات وأقاليم معينة، كما انتهج أسلوب تقديم ابن البلد الذي يزوره إلى الجمهور المحلي والتصريح بالإجازة له.
وتمثلت خدماته من الناحية الأسلوبية بنجاحه في إرساء نموذج فريد لمدرسته في الدعوة والإلقاء مثل سمة التكرار المنوّع في تفسير النصوص والشواهد باللغة المحلية (اليوربا) التي أصبحت أيقونة مميزة له، علاوة على تقديمه لنظام الأداء الصوتي المميز تحت مسمى “المقامات الأدبية” في تلاوة القرآن الكريم وقراءة النصوص الشعرية، مما أسهم في تكثيف أنصار الثقافة العربية الإسلامية والمقتنعين بهذا الاتجاه.
كما لا ننسى حرصه الشديد في وضع إطار تنظيمي للعملية الدعوية فأسس “جماعة أنصار الإسلام” والتي لها جهود جبارة وملموسة في البلاد، وانتشرت تجاربها إلى خارجها، حيث بلغت فروعها حتى الآن قرابة المائتين متوزعة بين نيجيريا وجمهورية غانا، ودولة توغو، وجمهورية بنين الشعبية.
جهوده العلمية
كثيرة هي أوجه إفادة الشيخ الأدبي للعلم وطلبته، فقد سجّلت له جهوده الرائدة في مجال الأخذ بتحديث أسلوب التعليم العربي وتطويره من الأسلوب القديم إلى الأسلوب الجديد على غرار النظام العصري. كما أن له سبقًا وريادة في مجال التعاون مع المؤسسات التعليمية العربية العريقة من خلال تبني إنشاء فروع لها في نيجيريا. فقد تعاون مع علماء الأزهر الشريف على إنشاء “المعهد الديني الأزهري في نيجيريا لجماعة أنصار الإسلام” بمدينة إلورن عام 1962م. وقد أفاد هذا المعهد أنصار وعشاق اللغة العربية وثقافتها بشكل كبير، حيث يُعَدّ أول منفذ مباشر لأبناء نيجيريا للالتحاق بالدراسة الجامعية.
ومن أبرز الأعمال التي قام بها مراجعته لترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغة اليوربا ضمن فريق عمل من هيئة كبار العلماء خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي.
كما شهدت أواخر عمره في شهر يناير عام 2003م إطلاقه لمبادرة مشروع علمي متكامل لتوفير التعليم الجامعي والعالي لحملة شهادات المدارس العربية والإسلامية بإعلان إنشاء جامعة عربية تحت مسمى “جامعة أنصار الإسلام الخاصة”.
في مواجهة الأزمات
ومما عرف عن الشيخ الأدبي التواضع الشديد والحلم وطول الصبر حتى أصبح مضرب الأمثال بين العلماء وطلبة العلم في ذلك، ويرى المدقق أن شواهد حية كثيرة تشير إلى تجذر نهج الهدوء في سلوكه ومواقفه والاعتدال في آرائه واجتهاداته، منها أزمة المواجهة السياسية التي شهدتها مدينة إلورن بين حاكم الولاية (الحاج محمد الأول) وأمير المدينة (الحاج إبراهيم ذو القرنين غمبري) والتي قاد الشيخ الأدبي حملة المصالحة بحنكة واقتدار بين الطرفين.
ومما يؤخذ على الشيخ الأدبي طول باله وعدم تشدده في الإنكار في بعض المواقف التي قد تستلزم ذلك، ويمكن تفسير ذلك على ضوء اجتهاداته ونهجه المعروف باللين والرفق والذي يستهدف الإبقاء على الوفاق مع الجميع لتحقيق المقاصد والغايات الشرعية.
جوائز.. الأدبي
حصل الأدبي على شهادات تقدير وجوائز عدة من مختلف الجهات الدعوية والفكرية والسياسية والأكاديمية، ففي عام 1963م منحته الحكومة النيجيرية جائزة التقدير والاستحقاق الوطني، ثم منحته حكومة ولاية كوار وسام الجمهورية الفيدرالية عام 1968م، وفي عام 1981م منح العضوية الشرفية في المجلس الفيدرالي بصفة “عضو عامل”، وفي عام 1991م كرمته جمهورية مصر العربية بوسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، كما منحته جامعة إلورن النيجيرية درجة الدكتوراة الفخرية في الآداب عام 1999م، ومنحته جمعية معلمي اللغة العربية والدراسات الإسلامية في نيجيريا درجة “الزمالة” في الدراسات الإسلامية عام 2002م تقديرًا لإسهاماته في خدمة اللغة العربية، وفي عام 2004م توَّجَه أمير مدينة إلورن عمامة “المفتي الأكبر” للمدينة.
وتُوفِّي الشيخ كمال الدين الأدبي صبيحة يوم الأحد الموافق الثامن عشر من شهر ديسمبر من العام 2005م عن عمر 97 سنة بعد حياة حافلة بالعطاء والإنجازات.
ومن مظاهر الوفاء له أن تم تحويل اسم مشروع جامعة أنصار الإسلام إلى “جامعة كمال الدين الأدبي” تخليدًا لاسمه.