ترددت أصداء الدعوة إلى الإصلاح في أرجاء العالم الإسلامي منذ أكثر من قرنين، وقد أسهمت الديار الشامية بنصيب وافر في تلك الدعوة بفضل عاملين: أولهما قربها الجغرافي من الدولة العثمانية التي شهدت في ذلك الوقت حراكًا إصلاحيًا كبيرًا، وثانيهما تأثرها بالمنتج الحضاري الغربي من خلال أنشطة الأقليات الدينية المدعومة من الغرب، فكانت من أوائل المناطق التي عرفت المدارس العصرية والصحف ودور التمثيل.
وتحت تأثير هذين العاملين شهدت بلاد الشام منذ أوائل القرن التاسع عشر ظهور طائفة من دعاة الإصلاح من أمثال: الشيخ ابن عابدين (ت:1836)، وعبد الرحمن الكواكبي (ت:1902)، وجمال الدين القاسمي (ت:1914) وعبد الحميد الزهراوي (ت:1916) وطاهر الجزائري (ت:1920)، ورفيق العظم (ت:1925) ورشيد رضا (ت:5193)، وفيما يلي نعرض لمسيرة أحد رموز الإصلاح الأوائل في بلاد الشام وهو الشيخ حسين الجسر (ت:1909) ونعرف بأفكاره الإصلاحية.
السيرة الذاتية والآثار الفكرية
ولد حسين بن محمد بن مصطفى الجسر في مدينة طرابلس اللبنانية عام 1261ه/1845م لأبوين أحدهما الشيخ محمد شيخ الطريقة الخلوتية المشهور بورعه وعلمه، وينتهي نسبه إلى بني مائي وهم من أشراف دمياط المصرية الذين نزحوا عنها إلى الديار الشامية قبل ولادته بزمن طويل، ووالدته السيدة خديجة من بني رمضان الذين كانوا حكاما بأدنة وارتحلوا عنها واستقروا بالشام، وتوفي والده ولم يكمل بعد عامه الأول فكفله عمه وأحسن تربيته، فشرع مبكرا في قراءة القرآن الكريم وتعلم الخط ثم انتظم في حلقة العلم ودرس على يد الشيخين عبد القادر وعبد الرازق الرافعي، والشيخ محمود نشابة.
غادر وطنه متوجها إلى الأزهر الشريف وهو في الثامنة عشر من عمره لاستكمال تعليمه الشرعي، وهناك تأثر بالشيخ حسين المرصفي، لكنه اضطر إلى العودة قبيل الانتهاء من الطلب عام 1867م لاشتداد المرض على عمه الذي توفاه الله عقب وصوله فاضطر للبقاء رغم ميله الرجوع إلى الأزهر، وقد انتهت إليه رئاسة الطريقة الخلوتية بعد وفاة عمه، واشتغل بتدريس العلم في المدرسة الرجبية طيلة عشر سنوات، وذاع صيته فأقبل عليه الطلاب وتخرج عليه عدد كبير من الطلاب منهم علماء مشاهير كالشيخ رشيد رضا والشيخ عبد القادر المغربي.
لاحظ الشيخ الجسر أن المدارس الإسلامية في طرابلس يعوزها التنظيم وتفتقر إلى المناهج الحديثة التي تدرس في المدارس التبشيرية والمدارس الطائفية، ولذلك اتجه عام 1883م إلى إنشاء (المدرسة الوطنية) وهي أول مدرسة في مدينته تجمع بين العلوم الحديثة والعلوم الإسلامية إذ كان من رأيه أن الأمة لا تنهض إلا بالجمع بين علوم الدين والعلوم الأوروبية الحديثة، ولم يكن تفرد المدرسة نابعا من ذلك الجمع وإنما من طريقة التعليم التي اتبعها الشيخ والتي كانت تقوم على التحليل وتدريب الطلاب على إعمال العقل وممارسة النقد، ويلخص عبد القادر المغربي طريقته بقوله “أنني بعد أن تلقيت من دراستي على والدي الاستسلام إلى كل ما جاء في الكتب الموروثة عن أسلافنا الماضين، والتصديق بنصوصها من دون تردد ولا ارتياب، عدت فاقتبست من شيخنا الجسر تعاليم فيها شيء من حرية النقد، وانطلاق الفكر، وقد تعلمنا أن النصوص الدينية الموروثة فيها الغث وفيها السمين، وأن بينها ما هو غير صحيح ولا معقول ولا منطبق على القرآن ولا السنة النبوية الصحيحة، فيجب الانتباه إليه والتنبيه عليه”.
غير أن المدرسة لم تستطع الاستمرار لأسباب عديدة أهمها تراجع الأجواء الإصلاحية بعد تعليق الدستور، وأغلقت أبوابها فاضطر الشيخ الجسر للرحيل إلى بيروت والعمل في (المدرسة السلطانية) وهناك التقى بالشيخ محمد عبده الذي كان يلقي محاضرات على طلاب المدرسة، واطلع على مشروعه الإصلاحي.
ومن أعماله الجليلة سعيه أثناء إقامته القصيرة بحاضرة الدولة العثمانية إلى استصدار رخصة جريدة محلية باسم أحد معارفه، وفور عودته عام 1893 أصدر جريدة (رياض طرابلس الشام) وعمل مديرا لها، وظل يكتب فيها قرابة عقد من الزمان، واتخذها منبرا لدعوته الإصلاحية فدعا خلالها إلى إنشاء المدارس الصناعية، وكان أول داعية لإنشاء سكة حديد تصل البلاد العربية بالدولة العثمانية قبيل إنشائها بتسع سنين، وقد جمعت مقالاته في المجلة ونشرت في عشرة أجزاء تحت عنوان (رياض طرابلس الشام).
ومن آثاره العلمية الشهيرة (الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة المحمدية وحقية الشريعة المحمدية) وهو واحد من أوائل المصنفات العربية التي تناولت علاقة الإسلام بالعلم الغربي في القرن التاسع عشر، وقد طبع للمرة الأولى عام 1887 عن مجلس معارف ولاية بيروت، و(الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية) و(العلوم الحكمية في نظر الشريعة الإسلامية) و(نزهة الفكر في مناقب الشيخ محمد الجسر) وهو أول مؤلفاته، و(إشارة الطاعة في صلاة الجمعة) إضافة إلى مجموع مقالاته في جريدة رياض طرابلس الشام.
الأفكار الإصلاحية
خلف الشيخ الجسر وراءه تراثا فكريا ضخما إذا ما قورن بالإصلاحيين المعاصرين له كجمال الدين الأفغاني أو محمد عبده أو عبد الرحمن الكواكبي، وقد حوى هذا التراث على عناصر الرؤية الإصلاحية للشيخ الجسر والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:
– العلاقة مع دولة الخلافة: على خلاف جل المفكرين الشوام المعاصرين له وأبرزهم الكواكبي ورشيد رضا، آمن حسين الجسر أن الإصلاح يمكن تحقيقه من داخل الدولة العثمانية وبمعاونتها، والراجح أن خبرته الشخصية في إنشاء مدرسة عصرية وإصدار جريدة إصلاحية مؤيدة من السلطة العثمانية، وكذلك إيمانه العميق بوجوب تمسك المسلمين بدولة الخلافة التي كانت تواجه الأطماع والضغوط الغربية، كان مدعاة برأيه لعدم التخلي عن الدولة العثمانية، فكان نهجه في التعاطي معها هادئا ومسالما ولم يدع إلى تجاوزها والثورة عليها، وهو ما يتضح في مقالاته بجريدة رياض طرابلس الشام التي كال فيها المديح للدولة ورموزها، بل لقد ذهب إلى حد إطلاق اسم السلطان عبد الحميد على اثنين من أهم مؤلفاته وهما (الرسالة الحميدية) و(الحصون الحميدية).
غير أن هذا المسلك لا يعني أنه مدفوع بدوافع انتهازية لتملق الدولة وتحصيل المكاسب، وكيف ذلك وهو الذي تمسك بمبدأ عدم التدخل في الشئون السياسية الداخلية أو الخارجية، والذي أصاب كتابه الرسالة الحميدية شهرة واسعة فدعاه السلطان للأستانة فلم يقبل منصبا، ورفض البقاء في كنف السلطان وتحت رعايته، خشية أن يمس دينه وشرفه شائبة.
– الموقف من الغرب وعلومه: ذهب الشيخ حسين الجسر إلى ضرورة التوفيق بين الإسلام وبين التقدم الغربي، وكان من رأيه أن التقدم أصبح واقعا لا سبيل لتجاهله، ولا سبيل إلى إيجاد نهضة إسلامية بدونه عن طريق “الطفرة”، وعلى هذا لابد للمسلمين من استيعاب التطور الغربي والعمل على محاكاته والإفادة منه، وكان كثير التساؤل في جريدته عن ما يحول بيننا وبين إقامة مدرسة صنائع يدوية، وكان يدعو تشييد المدارس العصرية وجلب الفابريقات أو المصانع، وإنتاج السلع الحديثة.
غير أن المسألة لم تكن بهذه البساطة إذ أن التقدم كان مؤسسا على بعض النظريات العلمية التي تمس الدين بل وتصادمه، ومنها على سبيل المثال نظرية النشوء والارتقاء لداروين، التي حاول مناقشتها إسلاميا عبر كتابه (الرسالة الحميدية) وقد انطلق من صلاحية الشريعة الإسلامية المطلقة لكل زمان ومكان، وأن هذه النظرية -كما قرأ عنها- قد بنيت على أدلة ظنية لا ترقى إلى اليقين فلا يحتج بها على الشريعة اليقينية، وحتى إذا ثبت أنها بنيت على أدلة يقينية فلا داعي للخشية منها على الشريعة لأن المشكل يمكن حله عندئذ باللجوء إلى تأويل النصوص الدينية تأويلا يؤدي إلى التوفيق بينها وبين العلم الحديث، ودعم رأيه بالقول أن النصوص الإسلامية الواردة بخصوص الخلق وأصل الكون هي نصوص مجملة غير مفصلة، وبالتالي فمجال إعادة تأويلها قائم وليس مستحيلا.
– أولوية التربية: آمن الشيخ الجسر أن التربية هي الأداة المثلى لتحقيق الإصلاح، فحسن تربية آحاد الشعب ذكورا وإناثا، فقراء وأغنياء، ينتج عنه حسن تربية الأمة كما يقول، وقد برز اهتمامه التربوي منذ العدد الثاني لجريدته الذي شرع فيه في كتابة سلسلة مقالات تحت عنوان (تربية الأطفال سعادة النساء والرجال وعموم الشعب في المآل) وكتب تحته ما نصه :”هذا مبحث من أكمل المباحث التي يحتاج إلى عناية كبرى وتدقيق الأنظار”.
والتربية عند الشيخ الجسر على قسمين: حسية وهي تربية الجسد، ومعنوية وهي تربية الروح، ويتفرع عن الأخيرة تربية الأخلاق بالفضائل والآداب، وتربية العقل بالعلوم الشرعية والمعارف العقلية. والتربية لديه تشمل الذكور والإناث على السواء فـــــــــــ ” تهذيب النساء وتعليمهن لهما ثمرة كبيرة في تهذيب الشعب وكمال ترقي أفراده”، وحسب الشيخ الجسر فإن طرائق التربية تختلف باختلاف الشعوب، فلكل شعب طرقه المخصوصة في التربية التي تلائم خصاله وعاداته؛ فإذا كانت طبيعة الشعب تجارية وجب تربية بنيه على محبة السعي والكسب وذم الكسل، وإذا كانت طبيعة الشعب حربية وجب تربية أفراده على ذم الجبن والشجاعة وحب الوطن ووجوب الذود عنه.
وبالجملة كان الشيخ حسين الجسر أحد رجال الإصلاح الإسلامي في بلاد الشام، وقد تركزت أفكاره الإصلاحية في: وجوب الالتفاف حول دولة الخلافة، والعناية بالتربية، والدعوة إلى التوفيق بين الإسلام والعلم الحديث.