جاء طرح مسألة تطوير قوانين الأسرة على العقل الفقهي مع اتجاه بعض البلاد الإسلامية إلى اعتماد التشريعات الغربية بديلا عن الشريعة التي تقلص حضورها القانوني واقتصر على المجال الأسري، وحتى هذا المجال المحدود لم يعد خالصا للشريعة ونازعته التشريعات الغربية فأُبطلت قوانين الأسرة الشرعية كلية في عدة بلدان وتم المزج بينها وبين القوانين الوضعية في بلدان أخرى، وقد واجه الفقهاء والمصلحون هذه المحاولات وسعوا إلى تطوير منظومة قانونية إسلامية تراعي مستجدات العصر وثوابت الشريعة، ومن أبرز هؤلاء الشيخ محمد أبو زهرة (1898-1974م) الذي دَرَس تفصيلا قوانين الأسرة في البلدان العربية، وشارك في لجان تقنين الأحوال الشخصية وتقنين مذاهب الفقه الإسلامي.
سيرة ذاتية موجزة
ولد الشيخ محمد أبو زهرة بمدينة المحلة المصرية عام 1898 لأسرة معروفة بالعلم، وتلقى تعليمه الأولي بالكتاب ثم بالمعهد الديني بطنطا، والتحق بمدرسة القضاء الشرعي عام 1916 إلى أن ألغيت عام 1923 فاضطر للانتقال إلى مدرسة دار العلوم وتخرج منها عام 1927.
تقلد الشيخ عدة مناصب تدريسية، فعين مدرسا للشريعة واللغة العربية بتجهيزية دار العلوم والقضاء الشرعي، ثم مدرسا بكلية أصول الدين بالأزهر حيث عهد إليه بتدريس مواد مختلفة كالجدل والخطابة وتاريخ الأديان والمذاهب، ثم عين مدرسا للشريعة بكلية الحقوق وزامل شيخه أحمد إبراهيم، وبعد صدور قانون تطوير الأزهر اختير عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية سنة 1962م، وهو المجمع الذي أنشئ بديلا عن هيئة كبار العلماء، ورغم حساسية منصبه أفصح الشيخ عن آراء خالفت سياسات وتوجهات السلطة حينئذ كتنظيم الأسرة، ومحاولة الجمع بين الإشتراكية والإسلام حتى أنه كتب في ذلك مقالا بعنوان “دين الله فوق اشتراكية المنحرفين”، كما جهر بضرورة بتطبيق الشريعة الإسلامية ونبذ القوانين الوضعية.
ترك الشيخ مؤلفات عديدة مثل: علم أصول الفقه، الجريمة في الفقه الإسلامي، العقوبة في الفقه الإسلامي، الملكية ونظرية العقد، زهرة التفاسير، العلاقات الدولية في الإسلام، عقد الزواج وآثاره، الأحوال الشخصية.
الجذور التاريخية لأزمة قوانين الأسرة
درس الشيخ أبو زهرة قوانين الأسرة المعمول بها في البلدان العربية درسا مستفيضا، وذلك حين عهد إليه تدريس مادة الأحوال الشخصية لطلبة معهد الدراسات التابع لجامعة الدول العربية، وخلص إلى أن جذور الأزمة تكمن في أمرين:
-الأول: اقتباس القوانين الغربية وإقصاء الشريعة الإسلامية، ونتج عن هذا حالة من الازدواج القانوني، إذ باتت المعاملات المدنية والتجارية والجنائية جارية على القوانين الوضعية، على حين صار المجال الاجتماعي محكوما بالشريعة.
-الثاني: الاقتصار على تطبيق المذهب الحنفي في البلدان الخاضعة للدولة العثمانية، وقد صاحب ذلك التطبيق عيبان:
أولهما أن القضاة كانوا يعتمدون في أقضيتهم على قانون غير مدون ومنثور في بطون الكتب، وترك للقضاة البحث عن أصح الأقوال في المذهب، ولم يجمع المصنفون على أرجحية الكثير منها فقد يرجح مؤلف ما لا يرجحه آخر، وثانيهما أن العمل بالمذهب الحنفي كان يعني العمل بمسائل لم تكن توافق العصر، وكان يمكن الأخذ بها من المذاهب الأخرى.
ولهذين العاملين اتجه الفقهاء والمصلحون -كما يقول أبو زهرة- إلى تسطير قانون للأسرة ينهل من المذاهب الأربعة، بحيث يؤخذ من كل مذهب ما يكون أصلح للناس وأقرب إلى روح العصر.
آراؤه في تقييد الطلاق والتعدد
عاش الشيخ في حقبة زمنية شهدت محاولات متواصلة لتقنين قوانين الأسرة، وقدمت في هذا الصدد مقترحات كثيرة، وبعضها ربما اتلزم بما ورد في الشريعة وبعضها ربما خالفه، وفيما يلي نقدم لبعض هذه المقترحات وآراؤه حولها.
– إثبات الطلاق بحكم القاضي: وهو مطلب أثير في مصر مرارا وعلى فترات متباعدة، وكان من القائلين به نفر من الفقهاء كالشيخ علي الخفيف، وقد أنكر أبو زهرة هذا المطلب وكتب مفندا دعاوى القائلين به الذين شيدوا حجتهم على أن عمر رضي الله عنه لما رأى الناس يكثرون من الطلاق بلفظ الثلاث، أو يكررونه في العدة، جعله ثلاثا، ومما قاله في ذلك:
1- إن الذي استكثره عمر أنهم طلقوا أكثر من مرة في العدة، ولم يذكر أنهم طلقوا ثلاثا بلفظ الثلاث.
2- أن الشيخ الخفيف زاد في الخبر أن عمر استشار الصحابة ووافقوه، والخبر كما ورد في صحيح مسلم ليس فيه استشارة ولا موافقة صريحة.
3- أن عمر لم يقل مع كثرة الطلاق أن يكون بحكم القاضي، فطلب التحكيم عندئذ يكون بدعة بل وتقليد للنصارى.
4- إن الدعوة إلى وضع عقوبة على المطلق من غير إذن القاضي بحجة أنه يجوز للإمام تقييد المباح غير مقبولة، لأن المباحات قسمان؛ قسم مباح بالنص كالطلاق وتعدد الزوجات وهذه لا يجوز تقييدها أو تحريمها بعد أن أباحها الله تعالى، والقسم الثاني ما كان مباحا بأصل الإباحة كالسير في الطرقات وغيرها وهذه ينظمها ولي الأمر بقيود يحددها بحيث لا يصل الأمر إلى درجة التحريم.
– تقييد تعدد الزوجات: وهي الدعوة التي ظلت تتردد منذ العشرينات حيث حاول بعضهم جعلها نصا قانونيا ملزما، ومما قيل في تبريره أن الصيغة القرآنية المتعلقة بالتعدد (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) جاءت في صيغة شرطية من جواب شرط لخوف القسط في اليتامى، وذهبوا أيضا أن الإباحة ليست مطلقة وإنما مقيدة بشرطي العدالة والقدرة على الإنفاق.
ويعلق الشيخ أبو زهرة على المسألة الأولى، أن المفسرين انتهوا بخصوص الآية إلى تخريجين: أحدهما أن بعض الأولياء كانوا يتزوجون يتامى في ولايتهن كابن العم يتزوج بابنة عمه ولا يعطيها مهرها، والآية تنهى صراحة عن ذلك، والآخر أن الآية تطالب بالعدالة مع النساء، فالمعنى وإن كنتم تخافون ألا تقسطوا مع اليتامى في المعاملة فخافوا ألا تقسطوا مع النساء فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. ومهما يكن من التخريج فالآية كما يستنتج دالة دلالة قطعية على جواز التعدد وأكدته السنة المتواترة وإجماع المسلمين حتى ليكاد أن يكون معلوما من الدين بالضرورة.
وأما المسألة الثانية المتعلقة باشتراط العدالة والقدرة على الانفاق، فهذا أمر مقرر في الشريعة بنص حديث الرسول (من استطاع منكم الزواج فليتزوج) والباءة هي تكاليف الزواج ونفقاته، ولكن الخلاف في كيفية إثبات القدرة والعدالة قضاء أم ديانة، ويقطع أبو زهرة بأنهما مطلب ديني وليسا من تعلقات القضاء، ويستدل على ذلك بأن ليس هناك قانون من قوانين العالم اشترط إثبات عدالة الزوج وقدرته على الوفاء بالتزامات الزوجية.
نماذج من اجتهاداته
وإذا كان الشيخ قد عارض هاتين القضيتين لمخالفتهما النصوص القطعية إلا مارس الاجتهاد في عدد من المسائل والقضايا التي لم يرد فيها نص واقتضتها المصلحة، ومن أمثلة ذلك:
– اجتهاده في وضع تعريف جديد لعقد الزواج، ذلك أن تعريفات الفقهاء القدامى عرفت عقد الزواج بأنه “امتلاك بضع المرأة”، وهو بهذه الصيغة لم يعد يلائم العصر الذي تحرر من قيم الامتلاك والتبعية، وعلى هذا اجتهد أبو زهرة في وضع تعريف يكشف عن مقصود الشارع وعرفه بقوله “إنه عقد يفيد حل العشرة بين الرجل والمرأة، وتعاونهما، ويحدد ما لكليهما من حقوق وما عليهما من تبعات”، ويحسب لهذا التعريف تركيزه على الجوانب المعنوية والحقوقية بدلا من الاستغراق في الجانب المادي الحسي وحده.
– الإفادة من المذاهب الإسلامية الأخرى، من الواضح أن أبو زهرة لم يجد بأسا في النقل عن المذاهب الأخرى -وبخاصة المذهب الظاهري والشيعي الإمامي- إن كانت تحقق المصلحة ويستغنى بها عن التشريعات الغربية، ومن ثم دعا إلى تبني موقف الشيعة الإمامية في مسألة كون الطلاق لا يقع من غير إشهاد عدلين لقوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم)، وعلق بأن ذلك “معقول المعنى” يوجب التنسيق بين إنشاء العقد وإنهائه بحضور الشاهدين، ولو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي، ويعلل الشيخ ذلك بأن حضور شاهدين يمكنهما مراجعة الزوجين يضيقا الدائرة ويمنعان من وقوع الزوج فريسة هواه.
– الدعوة إلى توحيد قوانين الأسرة في البلدان العربية: وهي الدعوة التي أطلقها في مفتتح كتابه “عقد الزواج وآثاره” وهو يجد في هذه الدعوة ميزتين:
الأولى، إن توحيد قانون الأسرة توحيد للبناء الاجتماعي، وينجم عنها لاحقا إيجاد وحدة اجتماعية في البلاد العربية.
والثانية، إن في التوحيد تقريب بين مذاهب الإسلام في جزء من الفقه، وهو في نتيجته القريبة تقريب بين أهل المذاهب الإسلامية، فلا تكون النفرة الموحشة بين المذاهب السنية والمذاهب الشيعية، وبذلك يتقارب المسلمون ويتآلفون.