أحد أهم معالم حيوية الإسلام، وإحدى العلامات الكبرى المشيرة إلى خلوده، وإلى قدرته على الانبعاث والتجدد حتى قيام الساعة- لأنه كلمة الله الأخيرة للبشرية- هي ما نراه من مجدِّدين في تاريخ الإسلام، يَنبعِثون- أو بالأدق: يُبتعَثون ويُصطَفون- على فترات، كلما أصاب مسيرتَه غبش، وابتعد المسلمون عن جادته وهديه.. على النحو الذي قرره الحديث الشريف، في سنن أبي داود، عن ظهور مجددين كل مائة عام (بما يشمل أن يكون المجدِّد في القرن فردًا أو أكثر).

والإمام الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، والذي مرت- من نحو أسبوعٍ- مائةُ سنة على مولده (22 سبتمبر 1917م- 9 مارس 1996م)، هو بلا ريب أحد مجددي الإسلام وحاملي لوائه في القرن العشرين؛ بما ترك من سيرة ومسيرة حافلة بالوعي والدعوة؛ خطابةً وكتابةً وحركة وإصلاحًا.

ومع كثرة ما سُطِّر عن الشيخ الجليل، من مقالات وكتب وندوات؛ فإن هذه الذكرى العزيزة هي بكل تأكيد فرصةٌ لمدارسة سيرة هذا العَلَم الزَّكي، والداعية المجدِّد.. فبذلك تحيا الأمم، ويتصل حاضرها بماضيها القريب والبعيد، ويستفيد لاحِقُها من سابِقها.. لاسيما من الشخصيات ذات الحضور المتوهِّج مع مرور الأيام والحوادث.

وأعتقد أننا إذا أردنا أن ننظر للشيخ من زاوية محددة ترسم لنا صورة دقيقة وموجزة عنه- أو نختار “مفتاحًا” لشخصيته، على طريقة العقاد- فيمكن أن ننظر إليه رحمه الله باعتباره “داعية الشمول والتكامل”.. هذه برأيي أهم خصيصة منحته تميزًا على أقرانه من الدعاة والمجددين الذين عاصروه، وحفرت له مكانًا بارزًا في مسيرة الفكر الإسلامي المعاصر.

هو “داعية الشمول والتكامل” فيما يتصل بذات المسلم.. وفيما يختص بعلوم الشريعة.. وفيما يُعنَى بمواجهة التحديات والمعارك.. وفيما يتطرق لوسائل الإصلاح والتغيير..

ففيما يتصل بـ“ذات المسلم”، فقد اعتنى الشيخ بما تشمله هذه الذات من عقل وقلب وجوارح؛ فقال كلمته البليغة في تلخيص الإسلام: “إنه قلب تقي، وعقل ذكي”. ونبَّه على أن: “الإسلام يصفِّي القلب من الأهواء، والعقل من الأوهام، ويرص صفوف المؤمنين بعدئذ في جهاد موصول لإعلاء كلمة الله. أما مع فساد الفطرة واعوجاج الفكر، فلا مكان لإسلام.

وعاب الشيخ على اتجاهات في تراثنا لم تراعِ هذا التوازن والشمول والتكامل؛ فبالغ أحدها في تقدير العقل، وأقحمه فيما هو خارج عن نطاقه، مثل المعتزلة؛ الذين كانوا “أجرأ على تأويل النصوص منهم على نقد الفلاسفة”.. وإنْ كان الشيخ اعترف بدورهم في الدفاع عن الإسلام، وفي رد الشبهات عنه..

في المقابل، انتقد الشيخ سلوك جماعات من المتصوفة، لا تستند إلى فقه صحيح، ولا دليل مستقيم؛ وإنْ شدد على حاجتنا إلى إذكاء “الجانب العاطفي من الإسلام”، داعيًا إلى تصوف السلوك القائم على الكتاب والسنة، لا إلى التصوف الفلسفي القائم على أفكار باطلة، مثل وحدة الوجود.

كما انتقد الشيخ طائفة من الفقهاء تعاملت مع النصوص تعاملاً جافًّا، كما لو كانت نصوصَ قانونٍ، لا أحكامَ شريعةٍ! يقول رحمه الله: “من سوء حظ الثقافة الإسلامية فقهاء لا دراية لهم بعلم القلوب ونهج التربية، ومتصوفون صفر الأيدي من قوانين الشريعة وضوابطها! والراسخون في العلم سالمون من هذه الآفات، ومن يقرأ لابن تيمية وابن القيم والغزالي وابن الجوزي والرازي وغيرهم، يرى رجالاً على درجة رفيعة من جيشان المشاعر والاستبصار العقلي”.

وفي مقابل الاهتمام بالقلب التقي والعقل الذكي، اهتم الشيخ- بل ضرب من نفسه المثل، لما يزيد على نصف قرن- بالدعوة والحركة، في المساجد والمنتديات ولقاءات طلاب الجامعة وصفوف الحركة الإسلامية؛ في جهد دوءب داخل مصر وخارجها.. حتى لحظاته الأخيرة، حيث فاضت روحه إلى بارئها وهو يدون بالقلم ملاحظات على خطاب متهجِّم على الإسلام، خلال ندوة بمهرجان الجنادرية.

وفيما يختص بـ “علوم الشريعة” كان الشيخ أيضًا “داعية الشمول والتكامل”، ضرب بسهم في مختلف فروع العلوم الإسلامية.. ألَّف في العقيدة، مرجِّحًا مذهب السلف، ومستفيدًا من مذهب الخلف في مجادلة أهل الكتاب والماديين.. وجدد في التفسير الموضوعي، وله نظرات ثاقبة في فقه القرآن الكريم، أحكامًا ومقاصدَ.. وله صولات وجولات مع السنة النبوية، وشَرَحَ مختاراتٍ من أحاديثها في آخر كتبه “كنوز من السنة”.. وأما في السيرة النبوية فقد بدأ كتابه “فقه السيرة” مبلَّلاً بالدموع، في رحاب المسجد النبوي، واستنطق السيرة بالدروس والعبر.. وفي الأخلاق، أبان عن الجانب العاطفي كما ينبغي، وعن “فن الذكر والدعاء في حياة خاتم الأنبياء”.. كما كتب فيما يتصل بهموم الداعية، والمشكلات في طريق الحياة الإسلامية.. وعالج قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة..

حتى العلوم التي لم يُفْرِدْ الشيخ لها كتابًا، نال منها نصيبًا كبيرًا، وتطرق إلى مسائل كثيرة منها في كتبه، بتحقيق وتجديد.. فـ”الفقه” مثلاًً- بمعنى الأحكام الشرعية العملية- تناول الشيخ الكثير من قضاياه، خاصة ما يدور حولها الخلاف.. وعالجها بما كشف عن عقلية فقهية ثاقبة تدور مع الدليل، وتتأسس على القرآن، مع استصحاب السنة، والإفادة من المدارس الفقهية دون تقيد بإحداها، مع أنه حنفي المذهب (وكمثال، فقد أيد رأي ابن تيمية في عدم وقوع الطلاق البدعي، مع أنه مخالف للمذاهب الأربعة).

يقول الشيخ عن موقفه في الإفادة من مختلف المدارس الإسلامية: “إنني شديد الإعجاب والولاء لأئمة الفقه، والتفسير، والحديث؛ وقد تابعت وتدبرت الكثير مما كتب في علوم الكلام والتصوف والأخلاق، ونفعني الله بما شاء من تراث السلف والخلف؛ غير أنني وجدت الحقائق هنا وهناك، فلم ألزم مدرسة واحدة، ولم أرَ لأحد عصمة”.

ويؤكد الشيخ أن “المشكلة ليست في الخلاف الفقهي، إنما فيما وراءه من غلو وتعصب؛ فالذي يمنع القنوت في الفَجر وبعضُ جماعة القانتين يظن أنه استنقذ القدس من براثن اليهود! ومنع بدعة تقود إلى النار!”.

وكان الشيخ أيضًا “داعية الشمول والتكامل” في عنايته بـ”مواجهة التحديات والمعارك.. فقد خاض معارك على جبهات متعدة، ونصَّب نفسَه محاميًا للدفاع عن الإسلام (في الجبهة الداخلية) ضد الأفهام المغلوطة للإسلام من الإسلاميين أنفسهم، ومن العلمانيين والشيوعيين، بجانب تصديه للاستبداد السياسي واستنزاف ثراوث الشعوب؛ وتعبيره هنا: “لا نريد الفرعونية الحاكمة ولا القارونية الكانزة).. كما تصدى (في التحديات الخارجية) لمؤامرات الأعداء، بما تشمله من الغزو الثقافي، وخطط التنصير، وأحقاد الاستعمار، وأطماع الصهيونية.

لم ينشغل الشيخ بهموم الجسد الإسلامي، عن رؤية الخطر الآتي من الخارج.. ولم يعلِِّق الأزمة برقبة واحد منهما فقط، كما يقع البعض في أسْر النظرة الأحادية، وإن غلب عليه بدرجة أكبر نقدُ الذات، مبينًا أن الغزو الثقافي- وأيَّ غزو- يمتد في فراغنا.

ولذا، يقرر الشيخ أن جهدًا كبيرًا مطلوب في الجبهتين معًا، بالتوازي والتساوي، قائلاً: “بناء الأمة الإسلامية من جديد يفرض على الساسة والدعاة والفقهاء أن يمعنوا النظر، ويطيلوا التفكير، وأن يحاربوا بجهد متساوٍ: الغزوَ الثقافي الوافد من الخارج، والانحرافاتِ الكثيرةَ المتوارثة من الداخل”.

ويطالب المسلمين بأن يكونوا صورة صادقة لمبادئهم، حتى يكونوا قدوة حسنة لغيرهم من الأمم؛ فيقول: “يجب أن تقوم للإسلام أمةٌ تعمل به، وتعطي صورة صادقة له. ومن السفاهة تكليفُ العالَم أن يدرس الإسلام مجرَّدًا من سيرة معتنقيه، وتَحميلُه مسئوليةً فلسفيةً عن كفره وإيمانه بعد تلك الدراسة العجيبة”.

ومع أنه انتقد الغرب، وفضح عنصرية سياسته، وتخبطه الروحي والاجتماعي؛ فقد دعا للإفادة مما أحرزه في المجالات الأخرى؛ قائلاً: “الحضارة الحديثة، برغم مقابحها الكثيرة، تجاوبت مع العقل والفطرة في ساحات علمية ودستورية واسعة.. من حقي أن أترك شرها وأقبل خيرها”.

أما فيما يخص “وسائل الإصلاح والتغيير”، فقد برز الشيخ باعتباره “داعيةَ الشمول والتكامل”، من خلال أنه لم يترك وسيلة ولا نافذة يطل منها على جمهوره إلا سلكها؛ من منبر المسجد، وصفحات الجرائد والكتب، وميكرفون الإذاعة، وشاشة التلفاز، ومنتديات الفكر والثقافة، والمناظرات، وقاعات الجامعات، ومعسكرات الطلاب، وتجمعات الجماهير، إضافة إلى التواصل الفردي الإنساني..

كان الشيخ طاقة تَشعُّ نورَها أينما حلَّ.. له حضوره الوقاد إن خطب وحاضر وناظر، أو كتب وألَّف.. أسلمتْ له البلاغة والفصاحة قِيادَها، ودانت له قطوفُ الأدب- نثرًا وشعرًا- وطاوعته مفرداتُ اللغة الراقية دون إغراب.. كان يتكلم كأنما يكتب، ويكتب كأنما يتكلم.. وهو في كليهما بلغ الذِّروة.. بخلاف دعاة ومفكرين كثيرين؛ إن أُعجبتَ بأحدهم كاتبًا فقد لا يبلغ منك المبلغَ ذاته وهو محاضر، أو العكس.. وذلك فضل الله يؤيته من يشاء.

رحم الله الإمام المجدِّد الشيخ محمد الغزالي رحمة واسعة، وتقبله في الصالحين المصلحين..