لعل من أهم الملامح التي تلاحظ في فريضة الصيام قيمة التواصل الحضاري بين الأديان السماوية، ففي أول مطلع الآية التي أوجبت فريضة الصيام والتي نزلت في العام الثاني من الهجرة، أي بعد أربعة عشر عاما من بعثة النبي ﷺ، يقول ربنا سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]، لقد كان قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ….. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } كافيا لفرضية الصيام.
لكن مجيء ما يسمى في اللغة العربية بالجملة الاعتراضية وهي قوله تعالى: { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } لم تجئ عبثا، ففيها أن فريضة الصيام ليست شريعة جديدة في أمة الإسلام، بل هي ضمن أصول الشرائع التي تشترك فيها الأديان السماوية قاطبة، فإن كان المسلمون قد فرض عليهم الصيام؛ فقد كان موجودا فيمن كان قبلهم، وهذا يخفف فريضة الصيام على النفس، لما في الصيام من المشقة، وكأن لسان الحال يقول: أيصوم أتباع موسى وعيسى وغيرهما ولا يصوم أتباع محمد ﷺ؟
ثم فيه تأصيل لدليل شرع من قبلنا، وأنه شرع لنا، مالم يأت في شرعنا ما ينسخه.
وعند الحديث عن الصيام والتواصل الحضاري نجد أن الملمح الحضاري الأكبر هو اشتراك الإنسانية قاطبة وأصحاب الأديان السماوية خاصة في الاشتراك في تلك الشعيرة العظيمة، بل إن المتتبع للصيام في فقه اليهود والنصارى يجده متقاربا مع فقه الصيام عند المسلمين، مع وجود بعض التحريفات التي حصلت، من كلا الفريقين، خاصة تحريفات النصارى.
فالصيام عند اليهود أربعون يوما، وهذا ما نص عليه القرآن بقوله سبحانه: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]، ويلاحظ في الآية أن صيام موسى – عليه السلام- كان أولا ثلاثين يوما، يعني مثل صيام المسلمين، ثم زيد عشرة، وكذا صام عيسى عليه السلام – أيضا- أربعين يوما.
وكما أن الصيام في الإسلام نوعان؛ فريضة ونافلة، فالصيام عند أتباع الأديان السماوية الأخرى من اليهود والنصارى ينقسم أيضا إلى فريضة ونفلا، بل نص على صيام ثلاثة أيام عند بعض تلك الفرق، وهذا ما نجده من هدي النبي ﷺ في صيام النافلة.
كما ورد في صحيح البخاري بسنده عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه قال ((أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر))، وهذا يعني أن أصول الأديان السماوية واحدة، فما من شريعة أنزلت من عند الله تعالى إلا ونجد فيها وجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج؛ لأنها كلها تخرج من مشكاة واحدة، كما عبر عن ذلك النجاشي- رضي الله عنه- حين سمع آيات من سورة مريم، فقال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
ومن أمثلة ما يؤيد أن أصول الأديان واحدة، ما قصه القرآن حكاية عن عيسى عليه السلام بقوله سبحانه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 31، 32]، وقال عن موسى وهارون عليهما السلام: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 87]، فما من نبي إلا وقد جاء بأصول الدين من الصلاة والزكاة والصوم والحج وصلة الرحم ومكارم الأخلاق وتحريم المنكرات من الربا والزنى والقتل وغير ذلك من كبائر المحرمات، وأي أتباع دين يزعمون أن ما كان حراما من أصول التشريع هو حلال في شريعتهم، فقد افتروا على الله الكذب وهم يعلمون.
ولأجل تدعيم هذا التواصل الحضاري بين الأمم، نبه النبي ﷺ على وحدة الأديان في أصلها قبل التحريف، ففي مسند الإمام أحمد بسند حسن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ((أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة الأنبياء إخوة أبناء علات أمهاتهم شتى وليس بيننا نبي)).
ولهذا حذر الله سبحانه وتعالى من التفريق بين الأنبياء، كما قال سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وحذر النبي ﷺ من تفضيله على الأنبياء تواضعا منه، كما قال ذلك في شأن موسى عليه السلام، وفي شأن يونس بن متى – عليه السلام، وغيرهما من الأنبياء، بل كان يقول عن نفسه كما ورد في مسند الإمام أحمد:” فإنما أنا عبد الله ورسوله”.
وإذا كانت أصول الشرائع في أصلها واحدة؛ لأنها كله من عند الله تعالى، فإن هذا يدفع إلى التواصل الحضاري خاصة بين أتباع الأديان السماوية، وأن هناك قواسم مشتركة، مع الاختلاف العقدي الموجود بينهم، ولهذا جعل الله تعالى لأهل الكتاب أحكاما خاصة دون غيرهم من الكافرين، فهم وإن كفروا برسالة محمد ﷺ، لكن الله تعالى أعطاهم أحكاما خاصة؛ لكونهم أهل كتاب، بل أمرنا بوصلهم وبرهم مالم يعادوننا ويقاتلوننا أو يحتلوا أرضنا، كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ .. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الممتحنة: 8، 9].
ولعل هذا يدعو إلى التقارب مع الشعوب التي لها دين وعقيدة سماوية- وإن حرفت-، فهناك قواسم مشتركة من الشرائع والأخلاق، مما يدفعنا إلى التعاون معهم على البر والتقوى، وللعمل على القضايا المشتركة بحكم الجوار والمعيشة، من قضايا الأمن، والتعليم، والصحة، والبيئة، والإعلام، وغيرها من القضايا المشتركة الكثيرة بيننا.
ولعل رمضان يكون فرصة للتقارب وللتواصل الحضاري، ونقول لهم: إن قرآننا أخبرنا أن الصيام شريعة مشتركة بيننا، فإن كنا نصوم، فالصوم فريضة أيضا في شريعتكم، مما يقرب بين تلك الشعوب التي يمكن أن تنطلق من هذه القاعدة على أساس من التعاون المثمر في المجتمعات التي نعيش فيها.