يتناول كتاب الصين في عيون الرحالة والجغرافيين المسلمين للدكتور علي بن غانم الهاجري موضوعا شائقًا وماتعًا في علم الصينيات، حيث يتتبع جهود الرحالة والجغرافيين المسلمين في وصف الصين، وذلك من خلال الوقوف على أهم المؤلفات التي دونها الرحالة والجغرافيون المسلمون والذين كانت لهم صولات وجولات وحكايات في بلاد الصين ودوّنوا الكثير من المعلومات عن الصين في كتاباتهم أو رووها مشافهة فدونتها الموسوعات الجغرافية، مما أتاح للباحثين عن الشعب الصيني وحضارته، فرصة الحصول على معلومات جمَّة، وخصوصا أولئك الباحثين في الجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجي.
إن هذا الكتاب الذي بين أيدينا يحتوي بين دُفّتيه على أهم ما سجله الرحالة المسلمون في ذلك الزمن الذي مضى عليه أكثر من ألف عام، بما في ذلك إبداعهم في وصف جوانب حياتية متعددة، وتشمل وصف المدن بشكل مفصل ودقيق، وذكر جوانب تاريخية تتعلق بتاريخ المدن، وبانِيها، وسُكانها، وأهم الآثار فيها، ووصف الحالة الاجتماعية والدينية التي برزت في وصف الجوامع وعدد المصلين، وطرق الموصلات خاصة تلك التي مر بها الرحاّلة. هذا بالإضافة إلى تلك المعلومات المتعلقة بالحياة اليومية للناس والسكان في مناطق صينية مختلفة، حيث كانوا يسجلونها أو يحكونها من باب التعجب والتندر على اختلاف الطبائع والملل، أو تلك المعلومات التي قدموها من باب الدهشة والانبهار والإعجاب ، ما يجعل هذا النوع من الكتب تتفرد عن غيرها.
أما مؤلف الكتاب فهو الدكتور علي بن غانم الهاجري، الدبلوماسي القطري وصاحب عدد من المؤلفات التاريخية والاقتصادية والأدبية، منها: “قطر في عيون الرحالة”، و”السلطنة الجبرية”، و”إمبراطور الشرق تشودي”، و”الحاجب المنصور أسطورة الأندلس”، و”أوراق اقتصادية على طريق الحرير”، و”أسطورة إفريقيا: الشيخ عثمان بن فودي“، ورواية “أسطول الشمس“، و”علم الصينيات العربي ودراسة الصين المعاصرة“، و”علم الصينيات ودراسة الصين المعاصرة في أوروبا” و” الصين في عيون الرحاّلة والجغرافيين المسلمين” وغيرها من الإصدارات العلمية القيمة. ولأهمية أعمال الدكتور الهاجري في علم الصينيات والتاريخ والاقتصاد تمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة بالتعاون مع دور نشر وجامعات ومراكز البحوث من مختلف أرجاء العالم.
ويسعى هذا المقال إلى تسليط الضوء على الموضوعات التي تناولتها فصول هذا الكتاب لإبراز أهم جوانبها، وهي كالتالي:
فصول كتاب الصين في عيون الرحالة
تناول الدكتور الهاجري هذا الكتاب من خلال خمسة فصول، أفرد لكلّ فصل موضوعا خاصا تناوله الرحالة والجغرافيون المسلمون.
الفصل الأول
خصص الفصل الأول لتقديم لمحة عن القضاء الصيني في عصر أسرة تانغ (618-907م) وعصر أسرة سونغ (960-1279م)، على ضوء ما جاء في مدونات الرحاّلة والجغرافيين المسلمين. وقد أشار في هذا الفصل إلى مميزات القضاء الصيني التي أبهرت الرحالة والجغرافيين المسلمين، بما في ذلك العدل، والدرجات الوظيفية للقضاء وجهاتها والتي تشمل قضاة المدن، وقضاة الأقاليم، وقاضي القضاة، والإمبراطور، وكذلك إشارتهم إلى شهرة أباطرة الصين بالعدل، إضافةً إلى تعيين إمبراطور الصين قاض خاص للمسلمين. لقد أكد هذا الفصل أهمية العدل في نظام القضاء الصيني ما دفع الرحالة والجغرافيين المسلمين إلى وصف الصين بأنها بلاد العدل التي لا يظلم فيها أحد .
الفصل الثاني
وعرَج الكاتب في الفصل الثاني من الكتاب على اهتمام الرحاّلة العرب والمسلمين في رحلتهم إلى الصين بالعديد من الجوانب الحياتية للصينين، بما في ذلك بعض الأمور الإداريَّة والتنظيميَّة والقانونية، مشيرا إلى بعض الإجراءات الأمنية في الصين، وتشمل الوثائق القانونية للسفر والرسم الصيني باعتباره أداة تعريفية وأمنية، وكذلك القوانين التجارية، والتي تتضمن توثيق الدين، والعقوبة التي تفرض على المخل بشروط وثائق الدين، وقانون الإفلاس التجاري وعقوبته، وقانون كفالة المرأة للمشاركة في الأنشطة الاقتصادية وغيرها من القوانين التي مرّ بها الرحالة والجغرافيون المسلمون خلال رحلتهم للصين ولفتت انتباههم.
الفصل الثالث
ووقف الهاجري في الفصل الثالث على أهم الأنشطة الاقتصادية المعروفة في الصين، مبرزا ما لاحظة الرحالة والجغرافيون المسلمون من التفوق الصناعي لدى الصينيين، وبراءة الاختراع، والفنون الصناعية، وكذلك ذكر أهم الصناعات الصينية، بما في ذلك المنسوجات، خصوصا الحرير الصيني، وصناعة الفخار التي تعتبر من أشهر الصناعات التي تشتهر بها الصين. وذكر الكاتب أيضا النشاط التجاري المزدهر في الصين، وكذلك أهم المراكز التجارية التي اشتهرت بها، وتشمل ميناء لوقين، ومدينة خانفو (كانتون)، وميناء أو مرسى الزيتون (مدينة تشيوانتشوفو)، ومدينة الخنساء )هانغ تشوفو(، ومدينة خمدان.
كما ركز الكاتب على إجراءات الموانئ الصينية في مراقبة السفن قبل وصولها إلى الميناء، وأنواع السفن التجارية المعروفة. هذا بالإضافة إلى الصادرات الصينية المعروفة وقتذاك، وما تميزت به الصين من استخدام العملات في التعاملات النقدية ووجود دار العملة. واختتم الفصل بإطلالة موجزة حول تنوع الزراعة والثروة الحيوانية في الصين كما أشار إليها كتب الرحلات والجغرافيا لدى المسلمين .
الفصل الرابع
أما في الفصل الرابع فتطرق الدكتور علي الهاجري إلى فنون العمارة والرسم لدى الصينيين، مركزا على ما لاحظه الرحاّلة والجغرافيون العرب والمسلمون من فن تخطيط المنزل، وفن تخطيط المدينة، وكذلك فن الرسم الذ يعتبر رمزا للحضارة الصينية وروحها النابض، والصناعة المقدمة على كل الصناعات .
الفصل الخامس
وأما الفصل الخامس والأخير فعرّج الكاتب فيه على الحياة الاجتماعية في المجتمع الصيني، حيث أبرز ما كشفه الرحالة والجغرافيون العرب من العديد من المظاهر الاجتماعية للمجتمع الصيني من خلال معايشتهم ومشاهدتهم المباشرة لبعض جوانب الحياة الاجتماعية في الصين أثناء زياراتهم في الفترة الواقعة من منتصف عصر أسرة تانج إلى أوائل عصر أسرة يوان، حيث أمدّونا بمعلومات عن السّكان ومأكلهم وملبسهم وبعض عاداتهم.
كما ركز الكاتب على الوضع الاجتماعي في الصين، مشيرًا إلى بعض الأنظمة الاجتماعية الهامة، والتي تشمل الرعاية الاجتماعية، بما في ذلك رعاية المحتاجين، ومجانية التعليم والصحة للمحتاجين، وكذلك اختلاف الديانات في الصين باختلاف المعتقد، بالإضافة إلى العادة الجارية في بعض القبائل الصينية بشأن عدم التزوج من نفس القبيلة ، وغير ذلك من المظاهر الاجتماعية التي سجلها الرحالة والجغرافيون المسلمون في كتاباتهم والتي تعد مصدرا أساسيا حول معرفة الصين وحضارتها. ثم اختتم الباحث هذا الكتاب القيم بتقديم جملة من النتائج، تلتها قائمة غنية بالمصادر والمراجع العربية والمعربة وكذلك المراجع الأجنبية.
خاتمة
لا شك أن هذا الكتاب يعدّ مادة دسمة ومصدرا غنيا للباحثين بشأن ما كتبه الرحالة المسلمون حول جوانب شتى من حياة الصينيين عبر قرون متعددة. وقد تميز الكتاب بمنهجيته الواضحة، وسلاسة لغته، ودقته وعمقه في تناول الموضوعات المختارة عن الصين، ما يجعل الكتاب مصدر معلومات هامة عن الصين بالنسبة للمتخصصين والقراء العاديين على حدٍّ سواء.