إن إحياء مفهوم “الأمة” يمثل المنطلق الأساسي للبناء المنهجي والفكري للمشروع الإسلامي المعاصر، ذلك المفهوم الذي مزقته “الدولة القطرية” في القرن العشرين و”العولمة” في القرن الحادي والعشرين. “والأمة” في اللغة تعني: “الدين قال أبو إسحاق في قوله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي كانوا علي دين واحد، والأمة : الطريقة والدين يقال: فلان لا أمة له أي لا دين له ولا نحلة، وقوله تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) قال الأخفش: يريد أهل أمة أي خير أهل دين”([1]) والإسلام هو دين أمتنا لذلك تنعت بـ “الأمة الإسلامية (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام) (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : 52 ]، (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) [ الأنبياء : 92 ].
والأمـة الإسلاميــة: مفهوم إلهي أطلقه الله على الجماعة البشرية التي تؤمن به وتعبده، ورضي لها الإسلام ديناً وشريعة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا) [ المائدة: 3 ] وهذا هو الذي يميز الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم التي ذكرها القرآن الكريم، وهي إضافة “الإسلام” إليها كنهج استراتيجي في الدنيا والآخرة، وقد أعطى “الإسلام” مجموعة من الأبعاد التي شكلت النسق الحضاري للأمة الإسلامية، وهذه الأبعاد هي:
1- البعــد العقــدي: ذلك البعد الذي يتضمن “التوحيد” في الاعتقاد والعبادة لإله واحد والمتمثل في شهادة “لا إله إلا الله” والتي تعد مصدر قوة الإنسان المسلم ومصدر عزته، وتحريراً له من أغلال وعبودية غير الله، وتحريراً لطاقته من الشهوات والغرائز والأشياء والعلائق المتغيرة.
وهذا المنطلق كما يدل عليه مصطلحه، وتنطق به كلمة الشهادة، ويوضحه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، يقيم العقل المسلم والفكر المسلم والمنهجية الإسلامية على فرضية الحق أساسًا ومدارًا ومآلاً لكل الكون والكائنات، وعلى فرضية وحدة المصدر ووحدة الحقيقة التي ينطلق منها ويمثلها كل الكون والكائنات، وعلى فرضية وحدة الإنسان الذي خلقه الله وكرمه بالإرادة والخلافة ورعاية الكائنات علي أسس الحق والعدل والخير.([2])
2- البُعد الفكري والمنهجي: إن مفهوم “الأمة الإسلامية” –كما تقدم- يحدد للمسلم أصول فكره ومنهجه ونسقه المعرفي، فالأفكار البشرية الإسلامية هي نتاج التقاء (العقل) مع (النص أو الوحي) والعقل هو الذي يقوم بالاستنباط والقياس والإبداع لإيجاد الصيغة المعرفية الملائمة لإقامة واقع يتمثل فيه الفكر الإسلامي الناتج عن هذا التفاعل ومعه تنتج الحضارة الإسلامية.
هذا البعد يمثل “الهوية” التي يجب أن يعمل لها أصحاب “الذهنيات الإسلامية”، كما يتيح من خلاله تحديد نقاط الالتقاء بين العقل والوحي والتعرف على النتاج الإسلامي وتاريخيته، وما يمكن استمراره، وما يجب الاستغناء عنه، وما يجب أن يضاف من معارف وأفكار – ناتجة عن المستجدات – إلي المنهج الفكري الإسلامي في استنباطه لعلاقات وصيغ جديدة للواقع الجديد.
وهذا البُعد الفكري والمنهجي يمكن أن يساعد في تحديد ما يلي:
– التصور الفكري للإنسان والعالم والكون.
– القواعد الأساسية التي تحدد العلاقة الراهنة بين العقل والوحي.
– الموقف من التراث الفكري والفقهي.
– الموقف من التراث البشري لغير المسلم.
– الوسائل والقواعد العامة لتفاعل المسلم مع اللحظة الراهنة والمستقبلية.
3- بُعد الوسطية: والوسط في اللغة يعني: ظرف بمعني بين يقال جلس وسط القوم، (الوسط) وسط الشئ : ما بين طرفيه وهو منه والمعتدل من كل شئ يقال: شئ وسط بين الجيد والرديء وما يكتنفه بين أطرافه ولو من غير تساو وبعدل وبخير، وفي التنزيل “وكذلك جعلناكم أمر وسطاً” أي عدولا وخيارًا”. ([3])
والوسطية صفة رئيسية للأمة الإسلامية وهي إرادة الله لهذه الأمة وقدرها ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ) [ البقرة: 143 ]
وينفي محمد عمارة: أن تكون هذه الوسطية انعدام الموقف الواضح والمحدد أمام المشكلات والقضايا المشكلة .. أو أن تكون وسط بين رذيلتين مثل “الفضيلة اليونانية”، ولكنها في التصور الإسلامي: موقف ثالث حقًا ..وموقف جديد حقًا .. ولكن توسطه بين النقيضين المتقابلين لا يعني أنه منبت الصلة بسماتهما وقسماتهما ومكوناتهما ..إنه مخالف لهما، ليس في كل شئ، وإنما خلافه لهما منحصر في رفضه الانحصار و الانغلاق على سمات كل قطب من الأقطاب وحدها دون غيرها.. منحصر في رفضه الإبصار بعين واحدة، لا تري إلا قطبًا واحدًا! .. منحصر في رفضه الانحياز المغالي، وغلو الانحياز!.. ولذلك، فإنها، كموقف ثالث، وجديد إنما يتمثل تميزها، وتتمثل جدتها في أنها تجمع وتؤلف ما يمكن جمعه وتأليفه – كنسق غير متنافر ولا مغلق .. من السمات والقسمات والمكونات الموجودة في القطبين النقيضين كليهما .. وهي لذلك: “وسطية جامعة”.([4])
ويذكر سيد قطب في تفسيره آية الوسطية: (أمة وسطًا).. في التصور و الاعتقاد ..لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الإرتكاس المادي إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد به روح.. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد وتعمل علي ترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه علي حفظ الحياة وامتدادها، “أمة وسطاً”.. في التفكير والشعور لا تجمد علي ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة .. إنها تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين.([5])
إن بُعد الوسطية يُمكِن المشروع الحضاري من :
– تحقيق التوازن، الشمول في الرؤية الفكرية والمنهجية.
– مراعاة السنن الحضارية وحركة الكون والأشياء.
– صياغة رؤية متكاملة عن المستجدات والمتغيرات المعاصرة.
– تحديد الثوابت والمتغيرات في حركة العمل الإسلامي.
– ترشيد الفهم الخاص بالخلافات المذهبية والتنظيمية.
– تحقيق التفاعل الخلاق بين المسلم وحضارة العصر الذي يعيش فيه.
– بلورة برامج التنمية الفكرية لتحقيق الوحدة بين المسلمين.
4- بُعد الشهود: بأتي بعد الشهود كنتيجة مترتبة علي بعد الوسطية فالأمة الوسط هي أمة الشهود (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) يقول الرازي في بعد الشهود: “إن كل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه والله تعالى، وصف هذه الأمة بالشهادة فهذه الشهادة إما أن تكون في الآخرة أو في الدنيا لا جائز أن تكون في الآخرة لأن الله تعالى جعلهم عدولًا في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء وذلك يقتضي أن يكونا شهداء في الدنيا، وإنما قلنا : إنه تعالى جعلهم عدولاً في الدنيا لأنه تعالى قال (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً) وهذا أخبار عن الماضي فلا أقل من حصوله في الحال، وإنما قلنا : أن ذلك يقتضي صيرورتهم شهودًا في الدنيا لأنه تعالى قال (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطًا ترتيب الجزاء علي الشرط، فإذا حصل وصف كونهم وسطًا في الدنيا وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا، فإن قيل: تحمل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا، ومتحمل الشهادة قد يسمي شاهداً وإن كان الأداء لا يحصل إلا يوم القيامة قلنا الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل بدليل أنه تعالى اعتبر العدالة في هذه الشهادة والشهادة التي يعتبر فيها العدالة هي الأداء (التحمل، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدين للشهادة في دار الدنيا.([6])
يلاحظ – إذن – أن هناك مستويين للشهادة: مستوى التحمل، مستوى الأداء، وبتحقيق المستويين يتم الشهود للأمة المسلمة، وبُعد الشهود – وفقاً لذلك – يتطلب ما يلي:
– الاستقلالية الفكرية والمنهجية للذات التي تقوم بهذا الشهود فلا يمكن لأمة أن تقيم شهودها وهي في حالة تبعية.
– “الحجة الحضارية” وهي شرط أساسي لقبول الشهادة، وتستلزم “الحضور الحضاري” و “الفعل الحضاري” للذات الشاهدة، لأن الغياب يؤدي إلي رفض الشهادة.
– العدل الحضاري: فالشهادة يتطلب فيها أن يكون الشهداء عدول “والعدل الحضاري” يتطلب” “القوة الحضارية” للذات التي تقوم بالشهادة، فلا شهادة لضعيف أو واهن أو متخلف.
– “البصرية الحضارية” وتقتضي سلامة المنهج النظري والعملي للذات الشاهدة، حتى يثبت صدق شهادتها، لأن الكذب يلازم غياب المنهج أو مرضه.
– وحدة الذات الشاهدة، لأن الانقسام والتعدد يؤدي إلي الانفصال النفسي ويشكك في قبول الشهادة وقيمتها.
إن تحديد الأبعاد والمحددات الرئيسية التي تتسم بها “الأمة الإسلامية”، من شأنه أن يساهم في تحقيق الوحدة المنهجية والفكرية بين المسلمين، وتساهم أيضًا في خلق إرادة واحدة فاعلة لها نسقها الفكري الموحد – بدلًا من تعدد الأنساق وتعدد الإرادات – كما أن إحياء مفهوم “الأمة” يجعل الولاء للإسلام وليس للتنظيم أو الجماعة أو الفكرة، أو يجعل ولاء التنظيم والجماعة والفكرة “للأمة الإسلامية”، فتكون الأمة قائدًا ومحورًا وليست تابعًا أو فرعًا، ويعطي مفهوم الأمة أيضًا – تميزًا في الهوية لكل المسلمين في العالم فيخرجهم من دوائر تصنيفات الهيمنة الغربية: “العالم المتخلف” “العالم النامي”، “دول الجنوب”، “الشرق الأوسط”، ويصبح الانتماء “للأمة الإسلامية” هو الركن الأساسي في عنوان المسلم المعاصر، والجنس في تعريفه، والمحدد الأول لمفهومه.
([1]) ابن منظور: لسان العرب، مجـ1، بيروت : دار إحياء التراث العربي ط1، 1997، ص (213).
([2]) عبد الحميد أحمد أبو سليمان: أزمة العقل المسلم، (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1991)، ص (128).
([3]) مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، جـ2، (القاهرة : ط19853)، ص(1073).
([4]) محمد عمارة: معالم المنهج الإسلامي، القاهرة: دار الشروق 1991، ص (78).
([5]) سيد قطب: في ظلال القرآن، مجـ1 (القاهرة : دار الشروق ط15، 1988)، ص (131).
([6]) الفخر الرازي: مفاتيح الغريب، مج2 جـ4، (بيروت : دار الفكر، 1993)، ص(131).