احتلت قضية إصلاح التعليم الإسلامي موقعا مركزيا ضمن مشروع الإصلاح الذي عم العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، وقد دون كثير من الإصلاحيين آراءهم حول كيفية إصلاح التعليم وسبل تطويره، ومن هؤلاء الشيخ الطاهر بن عاشور (1879/1973) الذي قارب هذه القضية في كتابه “أليس الصبح بقريب” وهو باكورة مؤلفاته العلمية إذ شرع في تأليفه ولم يتجاوز السادسة والعشرون من عمره، ومع حداثة سنه فإن الكتاب يحمل نضجا فكريا وروحا نقديا وطرحا جريئا ربما افتقدهم كثير من الكتب.

ورغم مضي ما يربو من قرن على وضع كتاب “أليس الصبح بقريب” إلا أنه لم يزل يتمتع بأهمية كبيرة لاعتبارات عديدة:

الأول: أنه استطاع أن يقدم مقاربة شاملة وليست تجزيئية لقضية إصلاح التعليم الديني تناولت عناصر العملية التعليمية بأسرها “المعلم، الطالب، المنهج، النظام”، وجمعت ما بين التوصيف النظري وصوغ المقترحات العملية للإصلاح.

والثاني: أنه رغم اعتناؤه بإصلاح التعليم الزيتوني إلا أنه مهد لذلك بتقدم قراءة معمقة لتاريخ التعليم وأساليبه ومناهجه وتطور العلوم الإسلامية في مختلف الأقطار والأمصار فاعتبر سجلا شاملا للمعرفة الإسلامية، كما انفرد بالبحث في أسباب تأخر العلوم الإسلامية على حده وقدم انتقادات بالغة الأهمية في هذا الصدد.

والثالث: أنه على الرغم من أن فصولا عديدة من هذا الكتاب قد أصبحت جزءا من التاريخ؛ فإن كثيرا من الرؤى والأفكار التي طرحها ابن عاشور ما تزال قيمتها العلمية ثابتة، وجدارتها الفكرية قائمة، إن لم نقل إن هذا الحكم يصدق على نجاعتها العلمية وصلاحيتها التطبيقية.

صفة التعليم ومناهجه وأساليبه

بدأ التعليم الإسلامي في عهد الرسول صلوات الله عليه إذ كان يجلس للتدريس في المسجد، وكان تعليمه الناس على طريقتين: أن يملي على حاضري مسجده من القرآن والتربية الخلقية والمواعظ، وأن يجيب على أسئلة السائلين، وكانت دراستهم مقتصرة على الازدياد من حفظ القرآن وضبط وجوه قراءته، وبعد وفاته تصدى أصحاب رسول الله لبث العلوم ورواية سننه وإفتاء الناس.

وفي العصور الأولى كان التعليم على درجتين: إحداها التعليم الابتدائي أو التأديب ويسمى صاحبه المؤدب وموضعه في الكتاب لخشيتهم أن يشوش الصبية على المصلين وأن ينجسوا المسجد، ويتلقى فيه الصبي حروف الهجاء ويلقن سور القرآن، وكان الصبية يكتبون في ألواح فإن أتم الصبي حفظها محاها، وتسهيلا للحفظ مالوا إلى نظم العلوم في أراجيز وكان الأندلسيون أول من عني بذلك وتبعهم المغاربة.

أما الدرجة الثانية وهي التعليم فوق الابتدائي فكان يمارس في المسجد، وفيها يتم تلقي العلوم بالفهم وشرح المتون التي حفظت في التعليم الابتدائي، وكانوا يرتقون في دراستها من الكتب البسيطة إلى المعمقة، وكانت هناك ثلاث طرق للتعليم:

الطريقة الأولى: كان كل عالم مختص بفن من الفنون يملي على الناس من غير مطالعة ولا مراجعة بفضل تضلعه في العلم، وهذا نهج المتقدمين الذي وضعوا “الأمالي”.

الطريقة الثانية: وهي التزام قراءة تأليف معين أو من الأمالي السابقة أو من الشروح، وهي الطريقة التي شاعت واستقرت فيما بعد.

الطريقة الثالثة: طريقة السؤال والجواب، مثل طريقة سحنون في تلقيه عن عبد الرحمن ابن القاسم أقوال مالك في المدونة.

وأما عن صفة الدروس فكانت حلقا فيجتمع الطلبة إلى الشيخ ليقرأ عليهم كتابه أو كتاب غيره، ويفسر لهم ما غمض من ألفاظه ومضامينه، وكان الطلبة يكتبون ما يسمعون ويقيدونه في أوراق، وكانوا يميلون كل الميل إلى الحفظ إذ كان العلم كما يعتقدون مرادفا للحفظ، ولم يكن هناك سن لانتهاء الطلب فكان كل طالب وما يشعر في قرارة نفسه، وقد استمر هذا النظام متبعا قرونا طويلة حتى أدركه الشيخ بن عاشور في زمن الطلب بالجامع الزيتوني في نهايات القرن التاسع عشر.

دواعي تأخر التعليم الإسلامي

يذكر الشيخ ابن عاشور أن البحث انتهى به إلى وجود أربعة أسباب عامة لتأخر التعليم:

الأول: انعدام المراقبة الذي لم يسمح بوضع نظام مراقبة يمكن من تمييز الصالح من غيره، وهو يفسر غياب المراقبة لدى المتقدمين بأنهم رأوا أن التعليم في نشأته محتاجا إلى الحرية بأكثر من احتياجه إلى المراقبة، وقد أدى فقدان المراقبة على المدرس والطالب إلى إضعاف التعليم في العصور اللاحقة.

الثاني: عدم الضبط المتمثل في سيادة عنصر الاختيار نظام التعليم بأسره، فالمدرس يدرس ما يروق لديه من الكتب، والطالب يختار ما شاء من المدرسين والكتب، وبذلك أصبح التعليم اختياريا وغير منضبط ولا متحد بطريقة واحدة فأصبح كل فرد وكأنه أمة وحده، وحتى يتحقق ضبط التعليم يرى الشيخ ابن عاشور أنه لابد من تحقق أربعة أمور: جعله إلزاميا، وضبط أوقات المدرسين، وضبط محل التعليم، وتوزيع التلاميذ بدقة على العلوم والدروس.

الثالث: خلو التعليم عن مادة الآداب وتهذيب الأخلاق وهو السبب الذي قضى على المسلمين بالانحطاط في الأخلاق والعوائد، وكانوا في أول عهدهم يعتنون بذلك ثم أهملوه بعدها لقصور انظارهم واعتقادهم أن العلم منحصر في القواعد العلمية.

الرابع: انعدام حرية النقد، وهي مسألة تخل بالمقصد من التعليم كما يعتقد وهو وصول العقول إلى درجة الابتكار، وقد طرأت على التعليم في عصور الانحطاط إذ أصبح تقديس كل فكرة سابقة من شيم الدارسين، ويذهب ابن عاشور إلى أنه يجدر ألا يقع النقد إلا في الدروس العالية أما التلامذة المبتدئون والمتوسطون فيلقى إليهم القواعد من غير إشعار بالخلل وكيف وقع وسبل تنقيحه حتى لا تتشوش أذهانهم.

وإلى جوار هذه الأسباب العامة هناك أسباب خاصة تقف وراء تأخر التعليم ومن أهمها: الغفلة عن إعطاء كل مرتبة من مراتب التعليم ما تحتاجه من الأسلوب اللائق بها؛ فقد كاد تعليم الزيتونة ينحصر في أسلوب واحد للمراتب كلها (الابتدائية والمتوسطة والعالية ) وهو أسلوب الإلقاء، وغياب التطبيق وإهمال التمرين، وعرو التعليم عن ملاحظة المصالح الصحية للطلبة، وعدم تقارب التلاميذ الوافدين إلى التعليم بجامع الزيتونة في الحالة التعليمية التي يفدون عليها، وضعف الملكات اللسانية والقصور في اللغة، وخلو التعليم عما يفيد المتعلمين من الاطلاع على أحوال الأمم السابقة، والتوسع في عملية الاصطلاح العلمي.

تأخر العلوم الإسلامية

في القسم الأخير من الكتاب يحلل الشيخ ابن عاشور الأسباب التي تقف وراء تأخر العلوم الإسلامية، ويرجعها إلى أسباب أصلية وأخرى فرعية

والأسباب الأصلية هي: وجود مسائل لا حاجة إليها تدخل ضمن التعليم ويظن أنها من العلم وهي ليست منه، وإهمال مسائل وعلوم مهمة وخلو التعليم منها، وهما كما يصفهما الزيادة والنقصان.

وأما الاسباب الفرعية فهي تشمل خمسة عشر وبعضها كما نلحظ هي أسباب تأخر التعليم، ومن أهمها: التحديات السياسية التي واجهتها الدولة وأدت إلى تأخر الحالة العلمية وتوقف نمو العلوم الإسلامية، وتداخل العلوم وارتباط بعضها ببعض، والتوسع في بحث المسائل العلمية والتعصب لآراء بعض المؤلفين، “والإعجاب بآراء المتقدمين كيف كانت وتنزيهها عن الخطأ فانحصر العلم في نقل واحد عن آخر”، وشيوع التقليد وتقلص الروح النقدية، وانقطاع التمرين الذي أصبح معه العلم قواعد واصطلاحات نظرية لا يُهتم فيه بعمل ولا تمرين.

خلاصة القول أن الشيخ الطاهر بن عاشور قد ترك لنا في مطالع القرن الماضي وثيقة تاريخية بالغة الأهمية حول دواعي تأخر التعليم الإسلامي والعلوم الإسلامية وقدم رؤيته عملية لإصلاحهما، وهذه الرؤية تتمتع بصلاحية حتى يومنا هذا ويمكن للقائمين على إصلاح التعليم الإسلامي الإفادة منها والبناء عليها في وضع استراتيجية إسلامية للنهوض بالتعليم الديني.